وعد الرئيس الأمريكي السابق دونالد
ترامب بسياسات
اقتصادية عديدة واتباعها إذا عاد إلى البيت الأبيض السنة المقبلة، ومن أبرزها: خطة لإضعاف سعر صرف
الدولار الأمريكي والتي من المرجح أن تكون غير فعّالة.
وقالت مجلة "
فورين بوليسي" الأمريكية في تقرير ترجمته "عربي21": إنه من بين السياسات الاقتصادية العديدة التخريبية التي وعد الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب باتباعها إذا عاد إلى البيت الأبيض السنة المقبلة - وهي قائمة تتضمن زيادات ضريبية هائلة على الواردات، وحربًا تجارية عالمية، وعجزًا كبيرًا في الميزانية - إصراره على إضعاف الدولار الأمريكي باعتباره أمرا غريبا إن لم يكن مضرا تماما.
لعقود من الزمن، ظلّ ترامب يطالب بإضعاف الدولار أولا بصفته مطورا عقاريا مثقلا بالديون، ثم كمرشح رئاسي، ثم كرئيس، والآن مرة أخرى كمرشح لإعادة انتخابه. وقد اكتسبت حملة ترامب الرامية إلى خفض قيمة الدولار الدعم من شخصيات رئيسية مثل روبرت لايتهايزر، المبعوث التجاري السابق، الذي قد يلعب دورا محوريا في إدارة ترامب الثانية.
ويجادل الرجلان بأن قيمة الدولار مبالغ فيها مقارنة بالعملات التي يستخدمها المنافسون التجاريون مثل الصين واليابان وأوروبا. ولكن من شأن الدولار الأضعف أن يجعل الواردات أكثر تكلفة بكثير بالنسبة للأمريكيين ويجعل الصادرات الأمريكية أكثر جاذبية في الأسواق العالمية.
ولكن تكمن المشكلة في أن اتباع مثل هذه السياسة من شأنه أن يتعارض بشكل مباشر مع الشيء الوحيد الذي يدعي ترامب أنه يحارب ضده، والذي يبدو أنه لا يزال يثير قلق الأمريكيين أكثر من غيره، وهي الأسعار المرتفعة.
ونقلت المجلة عن موريس أوبستفيلد، وهو زميل بارز في معهد بيترسون للاقتصاد الدولي وكبير الاقتصاديين الأسبق في صندوق النقد الدولي، أنه "ليس من المنطقي أن نواجه التضخم المرتفع، ثم ندعو إلى خفض أسعار الفائدة، وزيادة التعريفات الجمركية، وإضعاف الدولار، فكل ذلك سيزيد من التضخم".
وكما قال الباحثون في معهد بروكينجز عندما طرح ترامب نفس الفكرة حين كان رئيسًا: "إذا كان هدف الإدارة الأمريكية هو تفاقم عجزها التجاري، فما عليها سوى خفض قيمة سعر الصرف الفعلي الحقيقي للولايات المتحدة بشكل مؤقت، وتعزيز الموازين التجارية لشركاء
الولايات المتحدة التجاريين، ودعم الاقتصاد الصيني والتقليل من قيمة سعر الصرف الفعلي الحقيقي للصين، وتوجيه ضربة مؤقتة فقط للاقتصاد الأمريكي، تؤدي إلى تفاقم اختلالات العملة العالمية وإثارة الانتقام من شركائها التجاريين، عندها ستحقق هذه السياسة تلك الأهداف".
على الرغم من ذلك، فإن ترامب ورفاقه على حق. إن قيمة الدولار الأمريكي مبالغ فيها بعض الشيء مقارنة بالعملات الرئيسية الأخرى، بغض النظر عن الطريقة التي تنظر بها إليه. وقد قدّر صندوق النقد الدولي أن قيمة العملة كان مبالغا فيها بنسبة 6 بالمئة إلى 12 بالمئة في آخر مرة تم تقييمه فيها في سنة 2019، وأن المنافسين الكبار مثل الرنمينبي الصيني والين الياباني رخيصون نسبيًا.
وذكرت المجلة أن السؤال المطروح هو لماذا؟ لا تزال أسعار الفائدة الأمريكية مرتفعة لتهدئة التضخم، وهو ما يفسر سبب انخفاض الين. ولكن الكثير يتعلق بحقيقة أن الدولار الأمريكي يعد العملة الاحتياطية في العالم. وهذا يعني أن البنوك المركزية الأجنبية تشتري وتحتفظ بالدولار، مثل أي شخص آخر في الاقتصاد العالمي، مما يعزز قيمته. وتظل الأوراق المالية الأمريكية، مثل الديون الحكومية، الملاذ الآمن المطلق للمستثمرين في أوقات الاضطرابات، حتى عندما تنبثق تلك المشاكل، كما حدث أثناء الأزمة المالية 2008-2009، من الولايات المتحدة.
ويتطلب العجز المالي الهائل في الولايات المتحدة، مثل العجز الناجم عن تخفيض ترامب الضريبي بقيمة 1.9 تريليون دولار، تمويلا أجنبيا. وهذا الطلب يدعم الدولار. ولكن المشاكل المرتبطة بملاحقة سياسة الدولار الضعيف تظل كثيرة، حتى لو كانت هذه السياسة قابلة للتطبيق بالفعل.
في المقام الأول، لن يحفّز الدولار الأضعف صادرات الولايات المتحدة، وهو الهدف الواضح للنهج برمته. وعلى المدى القصير للغاية، فإن سياسة المال الرخيص والدولار الضعيف من شأنها أن تعزّز النمو الاقتصادي الأمريكي، وهو ما من شأنه أن يضع الأموال في جيوب المستهلكين، ويؤدي إلى زيادة طفيفة في الواردات. ولهذا السبب، يتسع العجز التجاري الأمريكي عندما تكون الأوقات جيدة في الداخل.
ولكن الأهم من ذلك بالنسبة لحالة ترامب ولايتهايزر هو أن ضعف الدولار لن يفعل الكثير لتعزيز الصادرات الأمريكية. وهناك العديد من الأمور التي تتجاوز القيمة الهامشية للدولار والتي تقف في طريق البضائع الأمريكية التي تشق طريقها إلى الأسواق الخارجية، بدءا من الحواجز غير الجمركية وصولا إلى تفضيلات المستهلك. والسبب الأكبر هو أنه في عالم سلاسل التوريد العالمية الحديث، تكون قدرة قيمة عملة أي بلد على التأثير على مستوى الصادرات ضئيلة للغاية. ويتم تصنيع المنتجات بمدخلات من دول أجنبية، وتباع إلى دول أخرى، وغالبًا ما يتم إعادة استيرادها، وتعديلها مرة أخرى، وتصديرها مرة أخرى إلى مكان آخر. والنتيجة أنه في عالم تحكمه العولمة، فإن اختلاط سلسلة التوريد يجعل قيمة عملة التصدير دون أهمية على نحو متزايد.
وأوضحت المجلة أن المشكلة الأخرى تكمن في أن أسهل طريقة لخفض قيمة الدولار هي بخفض أسعار الفائدة الأمريكية، وهو أحد هواجس ترامب طويلة الأمد. والشيء الذي يتبع بالضرورة خفض أسعار الفائدة هو ارتفاع التضخم، وهذا بالضبط ما كان ترامب وأتباعه ينتقدون الرئيس الأمريكي جو بايدن عليه لسنوات.
وهناك جانب يتعلق بالأمن القومي أيضًا حيث تملك الولايات المتحدة حوالي 800 قاعدة عسكرية في الخارج في أكثر من 70 دولة تدعم بشكل جماعي إسقاط القوة الأمريكية على نطاق عالمي. وهذا يعتمد يومًا بعد يوم على الإنفاق بالدولار على الوقود والطاقة والإمدادات وغيرها. وكلما ضعف الدولار، ازدادت تكلفة الحفاظ على التزامات البلاد في الخارج، مما يتعارض مع خطط مستشاري ترامب لتحقيق "السلام من خلال القوة" في الخارج. ولكن على أي حال فإنه من الصعب تحقيق خطط ترامب لإضعاف الدولار، وهو ما يجعل الممارسة برمتها محيرة.
وعند أخذ العملة الصينية على سبيل المثال، التي تستمر في الانخفاض رغم سنوات من التوبيخ من المسؤولين الأمريكيين قبل وخلال وبعد ترامب. واليوان الصيني مرتبط جزئيا بالدولار، فإذا انخفضت قيمة الدولار سيتبعها اليوان الصيني في الانخفاض، ويمكن للدول الأخرى أيضا الوقوف جانبا والسماح لعملاتها بالانخفاض قليلا لتعويض حركة الدولار، وبهذا يعود كل شيء إلى نقطة البداية.
ثم هناك التعريفة الجمركية، وقد تعهد ترامب بالفعل بفرض تعريفات جمركية على كل دول العالم، وخاصة على الصين، وفي آخر مرة فعل فيها ذلك، ردت الصين وأوروبا بالمثل. ومن شأن التعريفات الجمركية الأجنبية أن تمحو على الإطلاق أي ميزة ضئيلة قد يحققها الدولار الأرخص.
ويوجد أيضا العجز الهائل الذي يشكل ربع إجمالي الدين الوطني الأمريكي، والذي تراكم خلال فترة ترامب ويرجع ذلك جزئيا إلى تخفيضاته الضريبية الضخمة غير الممولة. ويعد ترامب بمضاعفة ذلك من خلال المزيد من التخفيضات الضريبية غير الممولة التي لا يمكن تمويلها إلا من خلال جذب المستثمرين الأجانب لدفع ثمنها، مما يتطلب عوائد أعلى على الديون الحكومية الأمريكية، والتي ستؤدي بعد ذلك إلى دفع الدولار للارتفاع مرة أخرى، مما يلغي كل الجهود التي بذلها.
وتساءلت المجلة حول سبب كون سياسة الدولار الضعيف أولوية كبيرة بالنسبة لترامب رغم مخاطرها وسيئاتها حيث يبدو أن النماذج الإرشادية لترامب وطاقمه الاقتصادي تعود إلى سنوات ماضية، ولم تكن أي منها جيدة لتعلم دروس اقتصادية. ويبدو أن ترامب نفسه متحمس لإحياء الثلاثينيات من القرن الماضي، التي لم تكن فترة ذهبية للاقتصاد الأمريكي والعالمي. حبه للرسوم الجمركية معروف جيداً، لكنه يتطلب نوعاً خاصاً من الأشخاص، ويقترن ذلك بحبه لخفض قيمة العملة للحصول على ميزة تجارية، وهو تكتيك آخر كان بارزاً في الفكر الاقتصادي القائم على مبدأ إفقار الجار في الثلاثينيات.
وكانت آخر مرة اعتمد فيها لايتهايزر هذه التوجهات في الثمانينيات، عندما لجأت إدارة ريغان إلى تسليح اليابان بقوة بشأن التجارة، وفرضت قيودًا تجارية أدت إلى رفع الأسعار وخفض الخيارات أمام المستهلكين الأمريكيين، ودفعت الحلفاء الأوروبيين إلى دعم خفض قيمة عبر اتفاق بلازا.
لكن ذلك، كما قال أوبيستفيلد، كان وقتًا مختلفًا تمامًا، وكان الدولار مقيَّمًا بأعلى من قيمته بفارق كبير، ولم يكن هناك عملة أوروبية موحدة، وكانت أوروبا تعتمد كليًا على مظلة الأمن الأمريكية خلال الحرب الباردة. لقد هدد ترامب سابقًا بالانسحاب من الناتو، وهو يرفض الالتزام بالدفاع الجماعي، وبدأ بالفعل ذات مرة حربًا تجارية مع هؤلاء الحلفاء، ولم تعد هناك أي من الأدوات التي كانت فعالة في ذلك الوقت متاحة حتى اليوم.
وكان ترامب يسعى وراء الدولار الأضعف لعقود من الزمن ولم يتمكن من الوصول إلى ذلك خلال فترة ولايته الفوضوية. وقد لا يصل إلى هناك مرة أخرى، حتى لو عاد إلى البيت الأبيض. ولكن هذا بمثابة تذكير بأنه، بعيداً عن الجرائم والجنح والمخاوف بشأن كل شيء آخر، فإن الدولار سيكون حرفياً على المحك في شهر تشرين الثاني/ نوفمبر المقبل.