استعرضت مجلة
"
نيويوركر" الأمريكية تفاصيل الخطأ الذي ارتكبه الرئيس الفرنسي،
إيمانويل
ماكرون، بعد دعوته لإجراء انتخابات مبكرة، في مقابلة مع الخبيرة في
السياسة الفرنسية، سيسيل ألدوي.
وقالت المجلة، في
تقريرها الذي ترجمته "عربي21"، إن الفرنسيين أدلوا بأصواتهم في الجولة
الأولى من انتخابات الجمعية الوطنية التي دعا إليها الرئيس إيمانويل ماكرون في وقت
سابق من الشهر الماضي قبل ثلاث سنوات من الموعد المقرر لها. وكانت النتيجة أن حزب
التجمع الوطني
اليميني المتطرف - حزب المرشحة الرئاسية السابقة مارين لوبان - حصل
على حوالي 34 بالمئة من الأصوات، يليه تحالف أحزاب اليسار، بحوالي 28 بالمئة من
الأصوات.
وجاء ائتلاف ماكرون
الوسطي في المركز الثالث بنسبة 21 بالمئة من الأصوات. ولم تُعرف بعد النتائج
المحددة لكل مقعد على حدة، ولكن يبدو أن اليمين المتطرف على وشك الحصول على أغلبية
تشريعية - وهو ما يعني أن التجمع الوطني قد يختار رئيس الوزراء المقبل - أو برلمانا معلقا مع سيطرة اليمين المتطرف على معظم المقاعد.
وجاء قرار ماكرون
الصادم بالدعوة إلى التصويت مباشرة بعد أن تجاوز اليمين المتطرف التوقعات في
الانتخابات البرلمانية الأوروبية، وكان المقصود منه إضعاف صعود اليمين المتطرف،
الذي اعتبره ماكرون تهديدا لمستقبل
فرنسا. وأصر ماكرون على خروج الفرنسيين
للتصويت، وقد فعلوا ذلك بالفعل، لكن النتائج أظهرت فقط مدى قوة اليمين المتطرف.
وفي هذا التقرير،
ناقشت سيسيل ألدوي، أستاذة الدراسات الفرنسية في جامعة ستانفورد والمتخصصة في
اليمين الفرنسي المتطرف، سبب قيام ماكرون بمثل هذه المقامرة الضخمة، وكيف تغيرت
علاقة الشعب الفرنسي باليمين المتطرف في العقد الماضي، وما إذا كان يمكن للوسط
واليسار أن يتّحدا في 7 تموز/ يوليو وفي المستقبل.
وفي سؤالها عن أهم
استنتاجاتها من نتائج الجولة الأولى، قالت ألدوي إن ماكرون خاض هذه المقامرة
الضخمة على أمل أن يعيد الأغلبية لائتلافه، وأن المعارضة لن يكون لديها الوقت
الكافي لإعداد وحشد قواتها، وقد خسر مقامرته. لكن الدرس الذي لا لبس فيه في الواقع
هو أن تحالف ماكرون تلقى ضربة قوية قد تكلفه خسارة حوالي مائتي مقعد.
ثم هناك حقيقة أن نسبة
المشاركة كانت هائلة مما يعني أن نسبة الأربعة والثلاثين بالمئة التي حصل عليها
التجمع الوطني، وهي نسبة غير مسبوقة في حد ذاتها، تعادل حوالي 12 مليون شخص. إنها
تعبئة ضخمة، وتعادل تقريبًا ما حصلت عليه مارين لوبان في الجولة الأخيرة من
الانتخابات الرئاسية في سنة 2022.
وقالت ألدوي إنه كان
من المتوقع أن تكون نسبة المشاركة أعلى بكثير مما كانت عليه في سنة 2022، وهي
المرة الأخيرة التي أجريت فيها أيضًا انتخابات للجمعية الوطنية، واعتقد الناس أن
هذا يعني حشد الناس ضد اليمين المتطرف. لكن ما حدث في الواقع هو أن الجميع حشدوا
قواتهم. لذا فقد تمكن اليمين المتطرف من جمع زخم أكبر مما كان عليه قبل ثلاثة
أسابيع خلال الانتخابات البرلمانية الأوروبية، وكسب أعداد أكبر من الأصوات.
لفترة طويلة، كان
علماء السياسة والمعلقون يرون أن جزءًا كبيرًا من سبب تصويت الناس لليمين المتطرّف
هو التعبير عن احتجاجهم ضد المؤسسة. لذلك كان الاختيار افتراضيًا. لكن لا يمكن قول
ذلك بعد الآن. فكثير من الناس يؤمنون بما يقترحه التجمع الوطني، ويجتمعون عليه
باعتباره لصالح أجندة محددة. لذلك يعتبر الأمر مذهلًا ليس فقط من حيث النتائج
وإنما أيضًا ما يعنيه التغيير في صفوف السكان الفرنسيين، فيما يعتبرونه مهما
لمستقبل فرنسا.
وأوضحت ألدوي أن
الأحزاب الحاكمة الراسخة حتى مثل الحزب الجمهوري الفرنسي، أو الحزب الاشتراكي، لو
حصلت قبل خمس عشرة سنة على ثلاثين بالمئة في الجولة الأولى، لكانوا سعداء
للغاية. وأشارت إلى أن ذلك كان نصرًا كبيرًا، لأننا نسير في نظام من جولتين.
إنه ليس نموذجًا ثنائي القطب، كما هو الحال في الولايات المتحدة.
وفي سؤالها عن سبب
قيام ماكرون بفعل ذلك، قالت ألدوي إن هناك أسبابًا رسمية، وأسبابًا انتخابية،
وأخرى نفسية. وهي تعتقد أن السبب الرسمي يتمثل في أن الانتخابات الأوروبية أظهرت
رفضًا قويًا لائتلاف الرئيس، الذي حصل على نسبة 14 بالمائة، وهو أمر سيء للغاية. وكان
هناك خطر يتمثل في أن الحكومة الحالية لن تكون قادرة على تمرير قوانين جديدة،
لأنها لا تملك الأغلبية المطلقة في الكونغرس. لذلك كان عليهم أن يفرِضوا إصلاح
نظام التقاعد، وإصلاح نظام الهجرة. وأصبح من الصعب حقًا إصدار التشريعات وبالتالي
اتخاذ أي إجراء ملموس في الحكومة. لذلك أراد تعديل كل شيء وجعل الناخبين يواجهون
مسؤولياتهم في تحديد الاتجاه الذي يريدون أن تسلكه البلاد.
كان السبب الانتخابي
أن الانتخابات المبكرة تم تنظيمها بسرعة كبيرة، في أقصر حملة انتخابية في فرنسا
منذ سنة 1958. وكانت الحسابات تشير إلى أن أحزاب الأغلبية كانت منظمة للغاية
بالفعل ومتحدة بينما كان اليسار في حالة من الفوضى والانقسام. وفي حين لم يكن
التجمع الوطني منظما بشكل جيد ولم يتمكن من التحالف لأنه منبوذ لفترة طويلة، لكن
اليسار نظم نفسه في أربعة أيام وأنشأ هذا الائتلاف الجديد. وعندما تمكن التجمع
الوطني من إيجاد حلفاء في صفوف الحزب الجمهوري، غيّر النتيجة بأكملها.
ويتمثّل السبب الثالث
وراء الانتخابات المبكرة في أن التقارير الواردة من كيفية اتخاذ القرار ومن
المطلعين على بواطن الأمور تشير إلى أن ماكرون كان دائمًا يريد تقديم نفسه على أنه
المنقذ من مخاطر مارين لوبان في الانتخابات الرئاسية.
لذا فإن هذا الموقف
المتمثل في كونه الشخص الذي يمكنه تغيير التاريخ، وتعطيل التاريخ، وإنقاذه من
نفسه، كان بمثابة روايته الشخصية، وقصته الخاصة. وبدأ يشعر بأنه لم يعد لديه مجال
للمناورة والتصرف ليكون الرئيس الاستباقي الذي يكتب التاريخ بسبب هذا النوع من
الأغلبية النسبية التي يتمتع بها. لذلك، أراد تعديل الأمر وخلق شيء تاريخي.
وترى ألدوي أن النتيجة
ليست بالضبط ما كان يدور في ذهنه، ولكن هناك عنصر نفسي لشخص مشبع بإحساس قوته
وقدرته على تغيير التاريخ. فهو لم يتشاور مع كثير من الناس بل اتخذ هذا القرار
بشكل فردي تماما. لذلك هناك العنصر النفسي للشخصية النرجسية للغاية، في الطريقة
التي يمارس بها السلطة مع القليل جدًا من المشورة من الآخرين، ورغبة قليلة جدًا في
استشارة مختلف فروع الحكومة، مثل زعيم مجلس الشيوخ، كما كان من المفترض القيام به
وفقا للدستور.
واستعرضت ألدوي رأي
الطرف المعاكس، مشيرة إلى أنه في انتخابات البرلمان الأوروبي حصل اليمين المتطرف
على واحد وثلاثين بالمائة من الأصوات وأربعة وثلاثين بالمائة في الجولة الأولى من
هذه الانتخابات. وفي صحيفة نيويورك تايمز قام أحد حلفاء ماكرون بطرح فكرة أن أحد
أسباب دعوة ماكرون للانتخابات الآن هو الشعور بأن شعبية اليمين المتطرف كانت ترتفع
وستزداد بعد إعلان ماكرون عن المزيد من الإجراءات الاقتصادية التي لا تحظى بشعبية.
لذا حتى لو أن هذا سيبدو سيئًا جداً بالفعل، فقد كان من الأفضل القيام بذلك عاجلًا
وليس آجلًا.
واعتبرت ألدوي بأن هذا
التفكير سطحي جدًا. لقد كانت الانتخابات القادمة مقرّرة في سنة 2027، بعد
الانتخابات الرئاسية عندما يتعين على ماكرون التنحي. لقد كان ماكرون يتوقّع بالفعل
أن مارين لوبان ستفوز في سنة 2027، وفي هذه الحالة ستخوض انتخابات للجمعية الوطنية
بعد ذلك مباشرةً وتخوض الانتخابات بأغلبية مطلقة، ولكن هذا في الحقيقة هو توقّع
بالهزيمة قبل ثلاث سنوات. وفي سنة 2027، سيكون الناس على علم بوجود الانتخابات.
لذا سيحظى اليمين واليسار التقليديان بفرصة أكبر لتنظيم أنفسهم لمحاولة تقديم مرشح
جديد حيث لا يمكن لماكرون أن يكون مرشحًا.
وفي سؤالها عن مدى
تفاؤلها بأن يتمكن اليسار والوسط من تشكيل جبهة موحدة في الأسبوع القادم، ذكرت
ألدوي أنه بعد التصويت، كان هناك أيضًا تصريح واضح جدًا من قبل رئيس الوزراء
غابرييل أتال، وهو رئيس الأغلبية المركزية الحالية، قال فيه إنه في أي دائرة يكون
فيها احتمال أن يفوز مرشح اليمين المتطرف، إذا جاء الوسطيون في المركز الثالث في
تلك الدائرة؛ فإنهم لن يترشحوا في الجولة الثانية، خدمةً لهذه الجبهة الجمهورية،
لضمان أن يكون هناك اختيار بين مرشحين اثنين فقط وتكون هناك فرصة للمرشح البديل من
اليسار للفوز.
وبسؤالها عن موقف
الجمهوريين، وهو حزب من اليمين الوسط، بشأن تشكيل تحالف مع اليمين المتطرف، أوضحت
ألدوي أن حزب الجمهوريين الفرنسي قد انقسم فعليًا بسبب هذه الانتخابات. فرئيس
الحزب قد قرر تشكيل تحالف مع التجمع الوطني وتمت إقالته من الحزب. ومع ذلك، فإن
القاعدة والناخبين قد تبادلوا العبارات تقريبًا، وقد ظنوا بالفعل أن التجمع الوطني
والجمهوريين متبادلان. لذا هناك تداخل كبير بالفعل بين الناخبين. لذا حقيقة أن
قادة الحزب في نزاع حول الاتجاه الذي يجب أن يسلكوه لا تعني الكثير فيما يتعلق
بالناخبين، لأن الناخبين المحليين قد بدأوا بالفعل التصويت إما للتجمع الوطني أو
الجمهوريين اعتمادًا على الانتخابات والمرشحين أمامهم.
وبسؤالها عما إذا كان
هناك أحد يفكر على نطاق واسع حول ما يجب تطويره في السياسة على مدى السنوات
القليلة المقبلة لتقديم بديل، أشارت ألدوي إلى أنه لا يتم معالجة المشكلة ذاتها
ولكن يتم إصلاحها فقط، وذلك من خلال تشكيل تحالف طارئ لضمان وجود أقل عدد ممكن من
ممثلي التجمع الوطني، وذلك في الوقت الذي يعمل فيه برنامج التجمع الوطني على تقويض
الديمقراطية الفرنسية.
اعتبرت ألدوي أن
"الأفضلية الوطنية" التي من شأنها أن تمنح الوظائف، والسكن، والرعاية
الاجتماعية وعددًا من المنح الدراسية الممولة من الدولة إلى المواطنين الفرنسيين،
وفي نفس الوقت تختزل من يمكن أن يصبح فرنسيًا في أولئك الذين لديهم ما يسمى بالدم
الفرنسي في عروقهم فقط، هي تعريف عنصري للمواطنة، وهو حقًا نقطة تحوّل تاريخية.
وشددت ألدوي على أن ما
قام به ماكرون هو تدمير اليمين الوسط واليسار الوسط وتقديم فرنسا لعصر لم يعد هناك
استقرار على الإطلاق من حيث سياسات الأحزاب، ولكن في نفس الوقت، لم يتمكن من الحكم
بطريقة تجلب الدعم الكافي لحركته المركزية.
وأضافت سيسيل ألدوي أن
الهدف هو تقويض الأحزاب اليسارية التقليدية والأحزاب اليمينية التقليدية لإنشاء
مركز كبير يحكم بطريقة أكثر براغماتية وودية وتجنب التقسيم. وما خلقه كان ما خطط
له، وهو أنه قد قوض تمامًا اليمين واليسار التقليديين، وقد اختفوا تقريبًا. بسبب
كل هذه الأمور فقد يتجه الناخبون إلى التجمع الوطني بعد انهيار اليمين واليسار،
ليصبح الموقف كما هو: إما ماكرون أو لوبان، وبالتالي عندما يكون الناس ضده؛ فإنهم
يتجهون إلى لوبان.