قضايا وآراء

المحكمةُ الدستوريةُ أو "الحجرُ المُهمَل" في البناءِ الديمقراطي

"نستطيع فهم حرص الرئيس على أن لا يكون في نظامه "رجل ثان" من ناحية الشعبية أو من ناحية القدرة على خلافته بتزكية من الرئيس ذاته"- الأناضول
رغم عدم صدور أمر رئاسي لدعوة الناخبين في الآجال القانونية عملا بمقتضيات الفصل 101 جديد، تشهد تونس مع اقتراب موعد الانتخابات الرئاسية جدلا سياسيا بشأن جملة من المؤسسات الدستورية التي لم يتم إرساؤها بعدُ. وإذا كان دستور 2022 الذي ألغى العمل بدستور 2014 قد ألغى العديد من الهيئات التعديلية المستقلة ونزع عنها طابعها الدستوري (مثل هيئة الاتصال السمعي البصري، هيئة حقوق الإنسان، هيئة التنمية المستدامة وحقوق الأجيال القادمة، هيئة الحَوكمة الرشيدة ومكافحة الفساد)، فإنه قد أبقى على المحكمة الدستورية لكن مع تعديل تركيبتها عما كانت عليه في دستور 2014.

وكان الرئيس قيس سعيد قبل 25 تموز/ يوليو 2021 قد ردّ مشروع تنقيح القانون الأساسي للمحكمة الدستورية بحجة تجاوز الآجال القانونية لإرساء المحكمة، وهو ما فاقم الأزمة السياسية والبرلمانية واعتُبر محاولة من الرئيس سعيد لاحتكار تأويل الدستور، مع ما يعنيه ذلك من تحول مؤسسة الرئاسة إلى مركز الحقل السياسي في تونس ضدّ ما يقتضيه القانون المنظم للسلطات في النظام البرلماني المعدّل.

وإذا كانت "الثورة" قد أديرت بعد هروب المخلوع بمنطق استمرارية الدولة، فإنها قد احتاجت إلى مؤسسات النظام القديم لاكتساب شرعيتها وضمان الانتقال السلس للسلطة. ومن تلك المؤسسات نجد "المجلس الدستوري" الذي أرساه المخلوع سنة 1987 واختار أعضاءه بالتعيين. فقد لعب هذا المجلس -رغم محدودية صلاحياته وطابعه الصوري في الديكور الديمقراطي للنظام الاستبدادي- دورا بارزا في إقرار الفراغ في منصب الرئاسة منذ 15 كانون الثاني/ يناير 2011 وهو ما شرعن تولي رئيس مجلس النواب فؤاد المبزّع منصب رئيس الجمهورية المؤقت.

أما "تصحيح المسار" أو التأسيس الثوري الجديد فإنه قد اعتمد بعد 25 تموز/ يوليو 2021 منطقا آخر أساسه القطع مع مؤسسات "العشرية السوداء" باعتبارها هي ذاتها جزءا من منظومة الفساد، بل باعتباره الغطاء الدستوري والقانوني لتلك المنظومة

أمّا "تصحيح المسار" أو التأسيس الثوري الجديد فإنه قد اعتمد بعد 25 تموز/ يوليو 2021 منطقا آخر أساسه القطع مع مؤسسات "العشرية السوداء" باعتبارها هي ذاتها جزءا من منظومة الفساد، بل باعتباره الغطاء الدستوري والقانوني لتلك المنظومة. وهو ما يفسر حل أغلب المؤسسات الدستورية وغير الدستورية أو تجميد أعمالها، خاصة بعد صدور المرسوم 117 لسنة 2021 والمتعلق بالتدابير الاستثنائية؛ معطيا الرئيس الحق في الإدارة المنفردة للدولة بمنطق الأوامر والمراسيم طيلة "حالة الاستثناء".

بعد حل المجلس الدستوري الموروث من النظام القديم، فرض المدّ الثوري على مجمل الفاعلين الجماعيين -بمن فيهم ورثة المنظومة القديمة الذين احتلوا أهم مفاصل الدولة في الرئاسة ورئاسة الحكومة- أن يتخففوا من الميراث المؤسساتي للمخلوع، فأصدر رئيس الجمهورية المؤقت فؤاد المبزع المرسوم عدد 14 المؤرخ في 23 آذار/ مارس 2011 المتعلق بالتنظيم المؤقت للسلطات العمومية لحل المجلس الدستوري مع جملة من المجالس الأخرى، مثل مجلس النواب ومجلس المستشارين والمجلس الاقتصادي والاجتماعي.

وفي سنة 2014 صادق المجلس التأسيسي يوم 15 نيسان/ أبريل على القانون الأساسي المتعلق بالهيئة الوقتية لمراقبة دستورية القوانين، وهي هيئة أُسندت إليها مهام المحكمة الدستورية وستنحلّ عند إرسائها. وقد كان عدم القدرة على اختيار أعضاء المحكمة الدستورية في البرلمان مظهرا من أهم مظاهر هشاشة مرحلة التوافق بين حركتي النهضة ونداء تونس، كما أظهرت الأزمة البرلمانية قوة التجاذبات السياسية والأيديولوجية التي سيستثمرها الرئيس قيس سعيد لقلب الطاولة على الجميع، وإعادة هندسة المشهد العام دون أي تشاركية ودون الحاجة للأجسام الوسيطة كلها.

بحكم غياب المحكمة الدستورية، فإن تفعيل الرئيس سعيد للفصل 80 من الدستور يوم 25 تموز/ يوليو 2021 لم يكن محتاجا إلى رأي تلك المحكمة، كما لم يكن التأويل الرئاسي لذلك الفصل خاضعا لأية سلطة رقابية أعلى من السلطة التنفيذية. فغياب المحكمة الدستورية قد أوجد واقعا سياسيا جعل مؤسسة الرئاسة توظف اختلال موازين القوى بينها وبين باقي السلطات التنفيذية والتشريعية والقضائية؛ لفرض واقع جديد كان في الظاهر "حالة استثناء" ولكنه يدار بمنطق المرحلة الانتقالية الضرورية للتأسيس الجديد.
رغم تأكيد الرئيس على أن مشروعه السياسي هو تعبير عن فكر سياسي كوني جديد، فإنه يدير ذلك المشروع بمنطق التلازم الشرطي بينهما. وهو ما يحول دون بروز أي زعامة من داخل تصحيح المسار ذاته، ويطرح قضية استمرارية مشروع الرئيس من بعده

وبحكم الفلسفة السياسية الجديدة للنظام (الديمقراطية المباشرة أو القاعدية والنظام الرئاسي وإدارة الدولة بمنطق المراسيم والأوامر بدل الديمقراطية التمثيلية وأجسامها الوسيطة في النظام البرلماني المعدل)، لم يكن من الغريب أن يسارع الرئيس قيس سعيد إلى إلغاء الهيئة الوقتية لمراقبة دستورية القوانين منذ 23 أيلول/ سبتمبر 2021. فمنطق التأسيس الجديد -على الأقل قبل اكتمال خطة الطريق التي وضعها لبناء الجمهورية المأمولة- لا يقبل بوجود أي سلطة رقابية للرئيس باعتباره الممثل الشرعي الأوحد للإرادة الشعبية.

رغم انتفاء الموانع أمام إرساء المحكمة الدستورية بعد "تصحيح المسار"، فإن النظام الحاكم لم يقم بأي خطوة جدية في هذا الاتجاه. ويمكننا تفسير هذا الإرجاء بمنطق التأسيس الجديد نفسه، فالمحكمة الدستورية هي تتويج لمسار التأسيس وليست طرفا فيه. وبحكم أن الرئيس لا يعترف بمفهوم السلطات ويعتبر أن السلطة للشعب وحده، كما يعتبر أن ما تسمى تقليديا بـ"السلطات" هي مجرد وظائف في خدمة صاحب السلطة الأصلية الذي هو الشعب، يبدو أن هيمنة "الوظيفة التنفيذية" الممثلة حصريا في رئاسة الجمهورية ستتكرس على باقي "الوظائف" بما فيها "وظيفة" المحكمة الدستورية.

فإذا كان دستور 2014 يوزع مهمة تعيين أعضاء المحكمة بين السلطات الثلاث (رئاسة الجمهورية، مجلس النواب، المجلس الأعلى للقضاء)، فإن دستور 2022 الذي يحكمه منطق "الوظائف" يوكل حق التعيين حصريا لرئيس الدولة في شكل أمر رئاسي. ولفهم الطابع "الرئاسوي" لهذا النظام، يكفي أن نتساءل عن سبب عدم إعطاء حق التعيين لأي مؤسسة عدا رئاسة الجمهورية رغم أن كل المؤسسات التشريعية والقضائية خاضعة لها، بل تكتسب شرعيتها بموالاتها ومساندتها غير المشروطة لـ"تصحيح المسار".

إذا كانت الأزمة السياسية في تونس لا تقبل الاختزال في غياب المحكمة الدستورية، فإن عدم إرساء تلك المحكمة يساهم بلا شك في تكريس الأزمة وفي تغذية المخاوف المشروعة لعموم المواطنين من عدم الاستقرار السياسي. فالدستور الجديد للدولة التونسية يوكل لرئيس المحكمة الدستورية مهمة الرئاسة المؤقتة للجمهورية "عند شغور منصب رئاسة الجمهورية لوفاة أو لاستقالة أو لعجز تام أو لأي سبب من الأسباب". ونحن نستطيع فهم حرص الرئيس على أن لا يكون في نظامه "رجل ثان" من ناحية الشعبية أو من ناحية القدرة على خلافته بتزكية من الرئيس ذاته.

فرغم تأكيد الرئيس على أن مشروعه السياسي هو تعبير عن فكر سياسي كوني جديد، فإنه يدير ذلك المشروع بمنطق التلازم الشرطي بينهما. وهو ما يحول دون بروز أي زعامة من داخل تصحيح المسار ذاته، ويطرح قضية استمرارية مشروع الرئيس من بعده. فرغم أن رئيس المحكمة الدستورية هو الرجل الذي سيخلف الرئيس نظريا، فإن الدستور حرص على جعل تلك الخلافة مؤقتة، فلا يحق لرئيس المحكمة الترشح للرئاسة حتى لو قدّم استقالته.

قضية المحكمة الدستورية وما تثيره من جدل عمومي هي قضية هامشية، أو قضية مشتقة من قضية أصلية مدارها العجز عن بناء ميثاق أو عهد جمهوري راسخ يعترف بالانقسام الاجتماعي وبشرعية من يمثله في مختلف المجالات، أي عجز النخب بمختلف مرجعياتها الفكرية عن التوافق السلمي والمبدئي على مشروع وطني جامع لإدارة التنوع، وتنظيم تضارب المصالح

ختاما، فإن حرص المنظومات الحاكمة بعد الثورة على "تسييس" المحكمة الدستورية وتدجينها -سواء تحت غطاء التوافق أو التأسيس الجديد- يُفقد هذه المؤسسة الكثير من شرعيتها اللازمة للقيام بدورها التحكيمي أو الرقابي. وإذا كانت المنظومة الحاكمة قبل 25 تموز/ يوليو 2021 قد عجزت عن إرساء المحكمة الدستورية، فإن حرص "تصحيح المسار" على عدم الخضوع لأي سلطة رقابية في النظام الرئاسوي قد تجلى في حل الهيئة الوقتية لمراقبة دستورية القوانين، وهو يتجلى الآن في احتكار مؤسسة الرئاسة لتعيين أعضاء المحكمة الدستورية، مع ما يعنيه ذلك من إقصاء لباقي مؤسسات الدولة التشريعية والقضائية والتنفيذية.

ونحن نذهب إلى أنّ قضية المحكمة الدستورية وما تثيره من جدل عمومي هي قضية هامشية، أو قضية مشتقة من قضية أصلية مدارها العجز عن بناء ميثاق أو عهد جمهوري راسخ يعترف بالانقسام الاجتماعي وبشرعية من يمثله في مختلف المجالات، أي عجز النخب بمختلف مرجعياتها الفكرية عن التوافق السلمي والمبدئي على مشروع وطني جامع لإدارة التنوع، وتنظيم تضارب المصالح المادية والرمزية بين مختلف الفاعلين الجماعيين قبل 25 تموز/ يوليو 2021 وبعده. وهو عجز بنيوي موروث من الخيارات التأسيسية لما يُسمّى بـ"الدولة الوطنية" أو الدولة-الأمة، ومرتبط بالواقع الذي لعبت فيه منظومة الاستعمار الداخلي -وما زالت تلعب- دور المحدد النهائي للقرارات السيادية وللخيارات الكبرى للمنظومات الحاكمة، مهما كان مصدر شرعيتها الشعبي والدستوري قبل الثورة وبعدها.

x.com/adel_arabi21