قضايا وآراء

هل كان تصحيح المسار في تونس "حتمية تاريخية"؟

"تحويل الرئيس "حالة الاستثناء" المؤقتة إلى "مرحلة انتقالية" تؤسس لنظام جديد؛ لم يكن أمرا ممكنا دون ما أظهرته أغلب الأجسام الوسيطة من قابلية للتطويع"- الأناضول
إذا كان الدرس الفلسفي يُعلّمنا أنّ البرهنة الرياضية المجردة على وجود "الحرية" هو أمر متعذر، فإنه ينبئنا أن التسليم بوجودها أو المصادرة على ذلك الوجود في مستوى الأفراد هو أمر ضروري لإثبات المسؤولية الفردية بكل معانيها الأخلاقية والدينية والقانونية. فالإنسان غير الحرّ والمجبر على فعله باعتباره حتمية يُصبح بالضرورة غير مسؤول عنه شرعا وقانونا، مثل المجنون ومَن هو في حكمه. إن المسؤولية تفترض غياب الحتمية، أي تفترض عدم فقدان العقل المميز القادر على الفعل والترك، كما تفترض -على الأقل- وجود احتمالين أمام الفاعل ليكون حكم القانون أو الشرع عندها معقولا.

وليس هدفنا هنا أن نطرح قضية الحتمية في مستوى الأفراد، بل إن ما يهمنا هو طرح القضية في مستوى حركة التاريخ التونسي بعد "الثورة"، أي في مستوى توصيف استراتيجيات الفاعلين الجماعيين خلال عشرية الانتقال الديمقراطي، وما ترتب عنها من آثار مقصودة وغير مقصودة كان أبرزها "تصحيح المسار". فهل كانت إجراءات 25 تموز/ يوليو 2021 حتمية تاريخية لا يمكن تجنبها بحكم ما سبقها من مقدّمات ومسارات؟ وهل إن توصيفها بالحتمية يعطيها أفضلية أخلاقية وسياسية على ما سبقها؟ وهل إن طابعها "الحتمي" يجعل منها مرادفة للمصلحة الوطنية بالضرورة في مستوى بناء المشترك الوطني وتحقيق مقومات السيادة والتحرر من وكلاء الاستعمار غير المباشر في عالم تحكمه الإمبريالية في لحظتها المتصهينة؟

كل ذلك كان يضع المجتمع السياسي في تونس وجميع ملحقاته الوظيفية -كالمجتمع المدني والنقابات والإعلام والهيئات الدستورية وغير الدستورية- أمام خيارين: إما "تصحيح المسار" داخليا، أي من داخل الديمقراطية التمثيلية والنظام البرلماني المعدل، بتغيير قواعد اللعبة وعقلنتها والابتعاد عن منطق النفي المتبادل وعن الصفقات/التسويات الانتهازية وتضخيم القضايا الهوياتية وعدم التذيل للمال السياسي المشبوه وأخذ انتظارات الشعب المشروعة بجدية أكبر؛ وإما انتظار "تصحيح المسار" من خارج المنظومة أو من هامشها

مهما كان نوع الحتمية الذي ننطلق منه لوصف مآلات "الانتقال الديمقراطي" في تونس (الحتمية القوية، الحتمية الضعيفة، الحتمية السببية، الحتمية المنطقية.. الخ)، فإن هشاشة ذلك الانتقال من جهة مشروعية الإنجاز ومن جهة التناقضات الأيديولوجية بين مكوناته الأساسية، بالإضافة إلى ما لعبته القوى الإقليمية والدولية من دور محدد في مساراته وخياراته الكبرى، كل ذلك كان يضع المجتمع السياسي في تونس وجميع ملحقاته الوظيفية -كالمجتمع المدني والنقابات والإعلام والهيئات الدستورية وغير الدستورية- أمام خيارين: إما "تصحيح المسار" داخليا، أي من داخل الديمقراطية التمثيلية والنظام البرلماني المعدل، بتغيير قواعد اللعبة وعقلنتها والابتعاد عن منطق النفي المتبادل وعن الصفقات/التسويات الانتهازية وتضخيم القضايا الهوياتية وعدم التذيل للمال السياسي المشبوه وأخذ انتظارات الشعب المشروعة بجدية أكبر؛ وإما انتظار "تصحيح المسار" من خارج المنظومة أو من هامشها الذي اكتسب شرعيته الشعبية بطرح نفسه مشروعا للتأسيس الجديد، رغم قبوله "المؤقت" بأن يكون شريكا لنخب "الديمقراطية التمثيلية" وأجسامها الوسيطة.

لقد كان وجود الرئيس قيس سعيد في قرطاج بصلاحياته المحدودة وشعبيته/ مصداقيته الكبيرة، وبمشروعه السياسي القائل بانتهاء زمن الديمقراطية التمثيلية وانتفاء الحاجة إلى أجسامها الوسيطة والحاجة إلى تأسيس جديد، أمرا يزيد في تأزيم المشهد السياسي القائم على هيمنة الأحزاب على النظام البرلماني المعدّل دون القدرة على التوافق أو الإنجاز، وما يعنيه ذلك من فقدان شرعيتها الشعبية ومن حنين إلى مركزة السلطة في ظل نظام رئاسي.

إننا أمام واقع سياسي ملتبس لا يقبل التسوية في ظل النظام البرلماني المعدل والأجسام الوسيطة المهيمنة على الديمقراطية التمثيلية. وقد استطاع الرئيس -حتى قبل 25 تموز/ يوليو 2021- أن يفرض سلطته "التحكيمية" على مختلف القوى البرلمانية مستغلا تناقضاتها الداخلية. فاختار لرئاسة الحكومة شخصية من خارج ترشيحات الأغلبية (السيد إلياس الفخفاخ)، ثم عوضه بشخصية من خارج كل الترشيحات البرلمانية (السيد هشام المشيشي). وهو ما جعلنا واقعيا أمام "حكومة الرئيس" التي تعكس ضعف البرلمان ومكوناته الحزبية، ووجود سياق سياسي واجتماعي ملائم للدفع بتناقضات الديمقراطية التمثيلية إلى نهايتها المنطقية: الاستغناء عنها بالتأسيس الجديد.

تحويل الرئيس "حالة الاستثناء" المؤقتة إلى "مرحلة انتقالية" تؤسس لنظام جديد؛ لم يكن أمرا ممكنا دون ما أظهرته أغلب الأجسام الوسيطة من قابلية للتطويع وللتلاعب نتيجة حساباتها الانتهازية وخلافاتها البينية، وعجزها عن القراءة العقلانية لمشروع الرئيس وغاياته النهائية. كما أن "الإجراءات" لم تكن ممكنة إلا بوجود دعم خارجي

لكنّ التأسيس الجديد لم يكن بعد 25 تموز/  يوليو 2021 حتمية تاريخية بل مجرد إمكانية، ذلك أن تحويل الرئيس "حالة الاستثناء" المؤقتة إلى "مرحلة انتقالية" تؤسس لنظام جديد؛ لم يكن أمرا ممكنا دون ما أظهرته أغلب الأجسام الوسيطة من قابلية للتطويع وللتلاعب نتيجة حساباتها الانتهازية وخلافاتها البينية، وعجزها عن القراءة العقلانية لمشروع الرئيس وغاياته النهائية. كما أن "الإجراءات" لم تكن ممكنة إلا بوجود دعم خارجي -أو على الأقل قبول خارجي بالإجراءات- وهو قبول تحكمه حسابات جغرا-سياسية؛ لا يجد بعض أطرافها مصالحهم في الديمقراطية التمثيلية وفي لا مركزية السلطة وفي الرقابة البرلمانية والحريات الصحفية على علاتها، ولا يجد آخرون تلك المصالح الاستراتيجية في التوافق بين الإسلاميين والعلمانيين أو حتى في وجود "الإسلام السياسي" في مركز الحقل السياسي القانوني.

وهذا يعني أن إجراءات 25 تموز/ يوليو لم تكن لحظة غير متوقعة أو عشوائية في مسار الثورة المتعثر، ولكنها لم تكتسب حتميتها من قوتها الذاتية، بل من ضعف الانتقال الديمقراطي ولا مبدئية القائمين عليه، وكذلك من قوة المستفيدين داخليا وخارجيا من غلق فاصلة "الربيع العربي" في بلده الأم.

إذا كان تصحيح المسار حتميا بالمعنى المذكور أعلاه، فإن المطابقة بينه وبين المصلحة الوطنية هو أمر يستدعي بعض التفصيل والتنسيب. ذلك أن التسليم بفشل الانتقال الديمقراطي وببؤس محصوله الاقتصادي لا يعني بالضرورة أن البديل المطروح هو أفضل منه، بل لا يعني بالضرورة استحالة إصلاح الديمقراطية التمثيلية بأدواتها ومن داخل منطقها القائم على الاعتراف بالانقسام الاجتماعي وبشرعية الأجسام الوسيطة الممثلة له سياسيا ونقابيا ومدنيا وأيديولوجيا.

ورغم أن "التأسيس الجديد" يصادر على استحالة إصلاح الديمقراطية التمثيلية من الداخل، بل يصادر على حتمية انتهائها في "الزمن السياسي الكوني الجديد"، فإنه لم يستطع إلى حد الآن أن يبرهن -نظريا أو واقعيا- على أفضلية مشروعه السياسي وانحصار المصلحة الوطنية فيه.
رغم أن "التأسيس الجديد" يصادر على استحالة إصلاح الديمقراطية التمثيلية من الداخل، بل يصادر على حتمية انتهائها في "الزمن السياسي الكوني الجديد"، فإنه لم يستطع إلى حد الآن أن يبرهن -نظريا أو واقعيا- على أفضلية مشروعه السياسي وانحصار المصلحة الوطنية فيه
وحتى لو سلمنا جدلا بالتطابق -في المستوى الاستراتيجي لا المعيش أو الآني- بين تصحيح المسار والمصلحة الوطنية، فإن هذا التطابق لا يرتقي إلى مستوى الحتمية إلا من منظور إيماني. فهو مجرد إمكان يرتبط بقدرة النظام على توسيع قاعدته/مشروعيته الشعبية بمنطق الإنجاز؛ لا بمنطق قوة الدولة والتضييق على الأجسام الوسيطة والعمل على جعلها مجرد أجسام وظيفية في خدمة السلطة وخياراتها "التأسيسية".

مهما كان موقفنا من تصحيح المسار، فإنه قد أكّد انتهاء الحاجة إلى السرديات الأيديولوجية الكبرى، كما أكد أن المؤدلجين -من أدعياء القضايا الكبرى مجازا وأصحاب القضايا الصغرى حقيقةً- هم مجرد أجسام لا وظيفية؛ حين يتعلق الأمر ببناء المشترك الوطني ومقومات السيادة وتجذير ثقافة الاعتراف بالآخر والاحتكام للإرادة الشعبية. ولكنّ انتهاء الحاجة إلى السرديات الكبرى لا يعني بالضرورة انتفاء الحاجة إلى الأجسام الوسيطة أو نهاية الانقسام الاجتماعي وما يعنيه من تضارب المصالح وصراع الإرادات الفردية والجماعية. ورغم وعينا بأن الفلسفة السياسية للتأسيس الجديد تقوم على خلق أجسام وسيطة جديدة، فإن تابعية تلك الأجسام للسلطة وطابعها "المصطنع" لا العفوي يجعلانها ذات تمثيلية/ شرعية محدودة.

كما أن وجود تلك الأجسام الوسيطة الجديدة -وهي في الأغلب مخترقة من ورثة المنظومة القديمة ومن الانتهازيين، دون إنكار وجود بعض المبدئيين المؤمنين بمشروع الرئيس فيها- يجعلنا نتساءل عن قدرتها في إسناد "تصحيح المسار" بعيدا عن الشعاراتية والمزايدات الفارغة، كما يجعلنا نتساءل عن قدرة الرئيس على مقاومة الفساد وبناء مقومات السيادة والتخلص من قبضة منظومة الاستعمار الداخلي باعتبارها العدو الأصلي أو المقابل الموضوعي لأي مشروع للتحرر الوطني.

x.com/adel_arabi21