اقتصاد دولي

لماذا لا يعمل الرئيس الصيني على إصلاح اقتصاد بلاده المتدهور؟

أزمات متعددة ضربت الاقتصاد الصيني مؤخرا- جيتي
نشرت مجلة "فورين بوليسي" تقريرا سلطت الضوء فيه على التحديات الكبيرة التي يواجهها الاقتصاد الصيني تحت قيادة الرئيس شي جين بينغ؛ حيث تراجعت معدلات النمو الاقتصادي وتفاقمت المشكلات الديموغرافية، ما أثر سلبا على الأهداف الاقتصادية للحزب الشيوعي الصيني.

وقالت المجلة، في التقرير الذي ترجمته "عربي21"، إن أداء الاقتصاد الصيني كان مروعا، وكان انتعاش ما بعد الجائحة أقل بكثير مما توقعته الحكومة الصينية، ورغم تسجيل معدل نمو رسمي معتبر بنسبة 5.2 بالمائة في 2023، فإن الواقع ربما كان أبطأ بكثير. 

ويقدر بعض المحللين أن النمو لم يتجاوز 1-2 بالمائة، وأظهرت بعض المؤشرات تحسنًا متواضعًا في الأشهر الأولى من سنة 2024، لكن يبدو أن الاقتصاد لا يزال متعثرًا؛ حيث يعتمد النمو الآن بشكل كبير على الصادرات.

وإلى جانب التباطؤ الاقتصادي، حدث انهيار في الثقة في نهج الصين داخليا وخارجيا؛ وتظهر البيانات انخفاضا مفاجئا في ثقة المستهلكين والمنتجين في ربيع سنة 2022 بعد إغلاق شنغهاي، ثم تحسنت توقعات المستهلكين لفترة وجيزة عندما انتهت سياسات الإغلاق في أواخر سنة 2022، لكنها ظلت تحوم في نطاق قياسي منخفض منذ ذلك الحين.


وتظهر مؤشرات مختلفة للأعمال التجارية المحلية انتعاشا متواضعا في الآونة الأخيرة، لكن الأرقام لا تزال بعيدة عن أعلى مستوياتها التاريخية.

وذكرت المجلة أنه ربما تقلل هذه البيانات من عمق واتساع نطاق الانزعاج الذي يشعر به المواطنون الصينيون بشأن حاضر البلاد ومستقبلها.

وأشارت فورين بوليسي إلى رصد شكاوى صريحة ليس بشأن الاقتصاد المتعثر فحسب، بل أيضا حول القضاء على فيروس كورونا والخروج الفوضوي، والهجوم الموسع على شركات التكنولوجيا الخاصة، والاهتمام المتزايد بالأيديولوجية، والسعي غير الواقعي للاعتماد على الذات في مجال التكنولوجيا، والتوترات المتزايدة مع الغرب.

وتترجم هذه المخاوف إلى ضعف الطلب الاستهلاكي، وتقييد الاستثمار التجاري، والجهود المبذولة لنقل الثروة والعائلة إلى الخارج.

أين الرئيس؟
وبحسب المجلة؛ فيبقى سؤال واحد يتكرر: لماذا لم تفعل القيادة المزيد لتعزيز الاقتصاد واستعادة الثقة؟

وقصد الكثيرون بالقيادة شخصا واحدا، وهو شي جين بينغ، فانتهاء فترة ولايته، ونقل الحكم إلى أجهزة الحزب الشيوعي الصيني الخاضعة لسيطرته، والاهتمام الكبير الذي يتلقاه في وسائل الإعلام الرسمية، يعطي الشعب الصيني والعالم انطباعا بأنه يتحمل المسؤولية بالكامل.

ولم تقف بكين ساكنة؛ فقد وسعت نطاق الائتمان، ووضعت خططا متعددة النقاط لطمأنة القطاع الخاص ومجتمع الأعمال الأجنبي، وخفضت القيود المفروضة على شراء منزل ثان، وخففت من حدة تبطائها، لكن جزء كبيرا من الأشخاص لم يعجبهم ذلك؛ حيث لا تغير هذه الخطوات سوى القليل جدا وبعد فوات الأوان.

وأفادت المجلة أن هناك أربع وجهات نظر تم طرحها حول سبب عدم اتخاذ شي وغيره من كبار القادة نهجا مختلفا، وهو ما يمكن أن نطلق عليه "اللاءات الأربعة" في الأسلوب السياسي الصيني

الأول: "إنه لا يعلم"؛ حيث تكهن البعض بأن شي لا يعرف شيئا عن الحالة الاقتصادية السيئة من قبل الكوادر التي لا تنقل له أخبارا سيئة خوفا من إلقاء اللوم عليها، وهكذا، فإن التفكير يقول إنهم يزودونه فقط بتقارير إيجابية.

وبحسب أحد المصادر فإن المسؤولين على مستوى العمل في تشنغهاي طلبوا من الباحثين الخارجيين تقديم تقارير إيجابية فقط.

وقال آخر إن كبار المسؤولين الذين يتحكمون في تدفق الورق إلى شي متحالفون مع الأجهزة الأمنية والدعائية، لذا فإن قراءاته تعكس تحيزاتهم، لكن آخرين اختلفوا مع الرأي القائل بأن شي وغيره من القادة ليسوا على اطلاع جيد.

وقال أحد الخبراء الذي قدم بحثًا إلى الدولة الحزبية إنه طُلب منهم تقديم تحليلات صريحة لأن القيادة تريد تلقي وجهات النظر المتعارضة.

وأضافت المجلة الأمريكية أن الفكرة الثانية هي أنه "لا يعرف ماذا يفعل"، وتستند إلى فرضية مفادها أن شي وغيره من كبار القادة على اطلاع جيد ولكنهم يواجهون مجموعة متنوعة من المشاكل التي ليس من السهل إصلاحها.

علاوة على ذلك، تتألف القيادة الآن من "الفريق ب"، والذي يشمل العديد من ذوي الخبرة المحدودة في الحكومة المركزية.

وأصبحت عملية صنع السياسات مركزية للغاية في الحزب الشيوعي الصيني، حتى أن التنسيق عبر البيروقراطية وبين بكين والمحليات أصبح أكثر صعوبة وليس أسهل.

وقال العديد من المقربين أن القيادة أجرت مناقشات طويلة في بعض القضايا حول كيفية حل المشكلات، وتأخير القرارات وطرح سياسات جديدة.

وعلى سبيل المثال، حددت القيادة ضعف سوق الأوراق المالية كمشكلة في صيف سنة 2023، ولكن لم يتم تنفيذ خطوات جديدة حتى أوائل سنة 2024، عندما تم استبدال رئيس هيئة تنظيم الأوراق المالية في الصين، والأمر الأكثر صعوبة هو اكتشاف طرق لمعالجة مشكلة واحدة لا تؤدي إلى تفاقم المشكلات الأخرى أو التوصل إلى خطة شاملة ذات نهج متوازن.

ولفتت المجلة إلى أنه قد يكون حل الفوضى العقارية مثال جوهري على ذلك؛ حيث إنه من الواضح مدى صعوبة إيجاد مسار سياسي يتنقل بفعالية بين المصالح المتضاربة بين جميع أصحاب المصلحة، بما في ذلك الحكومة المركزية، والحكومات المحلية والمطورين وأصحاب المنازل والمؤسسات المالية والقطاعات الاقتصادية الأخرى.

وقد شددت بعض المصادر على انخفاض كفاءة كبار المسؤولين، وقارنت بشكل سلبي رئيس مجلس الدولة لي تشيانغ بسلفه لي كه تشيانغ، الذي توفي فجأة في الخريف الماضي، ويُنظر إلى نائب رئيس الوزراء المسؤول عن الاقتصاد، هي ليفنغ، على أنه أقل كفاءة من سلفه ليو هي.

وتابعت المجلة قائلة أن الخيار الثالث هو  "إنه لا يهتم"، وترجع جذوره إلى فرضية مفادها أن الأولوية القصوى لدى شي تتلخص في تعزيز قبضة الحزب الشيوعي الصيني الاحتكارية على السلطة وهيمنته السياسية الشخصية، ورغم أن وسائل الإعلام تظهره وهو يزور المصانع ويعقد جلسات نقاش حول مختلف التحديات الاقتصادية، إلا أن جدول أعماله اليومي قد يهيمن عليه إدارة القضايا الأمنية والسياسية، وليس الاقتصادية.

وذكرت المجلة أن هذا كان إلى حد بعيد الخيار الأقل شعبية بين المحاورين الصينيين، ولكن أولئك الذين تمسكوا به آمنوا به بشغف. 

وكان انطباعهم الأساسي هو أن شي يبدو مستعدا للتضحية بالاقتصاد من أجل القومية وهيمنة الحزب الشيوعي الصيني. 

وعلاوة على ذلك، فإن شي ليس وحده؛ فقد تم اختياره كبديل لهو جينتاو، كما قال أحدهم، "لكي لا يكون ميخائيل غورباتشوف"، وليس لتعزيز النمو السريع.


رفض الانتقادات 
وبحسب المجلة فإن الإجابة الأخيرة هي "إنه لا يوافق"، فتشير إلى أن المشكلة لا تكمن في عدم قدرة شي على الوصول إلى المعلومات أو عدم الحسم وعدم الكفاءة أو عدم الاهتمام، بل في عدم موافقته هو ومساعديه على الانتقادات التي تقول إن خط السياسة الحالية غير صحيح ولا يرقى إلى مستوى التحدي. 

في الواقع، قد تكون وجهة نظرهم أنه بالنظر إلى فقدان الوصول الموثوق إلى التكنولوجيا والأسواق والتمويل الغربي، فإن الصين ليس لديها خيار سوى إعطاء الأولوية لتطوير التكنولوجيات المحلية واكتساب أكبر قدر ممكن من النفوذ على سلاسل التوريد العالمية.

وقالت المجلة في تقريرها إن القادة الصينيين يمكنهم أن يشيروا إلى بعض الأدلة على نجاح خطتهم؛ مثل الهيمنة في مجال السيارات الكهربائية والبطاريات، وأطول نظام سكك حديدية عالية السرعة في العالم، وطائرة سي 919 التجارية ذات الممر الواحد، وسلسلة من منصات الإنترنت التي تحظى بشعبية كبيرة، ونظام الأقمار الصناعية بي دو، وغيرها.

وبينت أن عددا كبيرا من المحاورين اختار هذا الخيار الأخير، فهم يعتقدون أن شي لديه آراء قوية حول مركزية السيطرة على التكنولوجيات المتقدمة لاحتياجات الصين الاقتصادية والإستراتيجية على حد سواء، وهو يطبق هذه الرؤية بشكل مكثف. 

ومن ثم، فإن التحول في الاستثمار من العقارات إلى التصنيع المتقدم ودعم الدولة الحزبية المكثف للتكنولوجيات الناشئة التي يمكن أن تغذي النمو وتعزز أمن البلاد. فبينما يرى الآخرون الجهل أو عدم الكفاءة أو عدم الاهتمام، يرون وضوح الهدف والحسم.

خطأ إستراتيجي
وأفاد تقرير المجلة أن معظم الذين يختارون هذا الخيار يرون أن القيادة الصينية ارتكبت خطأً إستراتيجيا عندما تحركت في اتجاه الدولة من خلال سياسة صناعية ضخمة والرهان الكبير على السيطرة على تكنولوجيات المستقبل. 

ومن وجهة النظر هذه فإن التحول عن التحرير وعدم الاهتمام بالأسر والاستهلاك يعني انخفاض الإنتاجية، وارتفاع الديون، وتباطؤ النمو، فضلا عن المزيد من التوترات مع الاقتصادات المتقدمة الأخرى.

وأضافت المجلة أن هناك من لديهم رد فعل معاكس، وهم في الواقع يتفقون مع نهج القيادة الصينية ويعتقدون أن المنتقدين هم أيديولوجيون نيوليبراليون يعارضون بشكل غريزي الدولة النشطة ويرفضون بشكل غير عادل العلامات الرئيسية للتقدم التكنولوجي.

وترى المجلة أن المسار الحالي هو نتاج أخطاء غير مقصودة، وكل ما هو مطلوب لإحداث التغيير هو تزويد القيادة بمعلومات أفضل وخطط أكثر فعالية لمعالجة المشاكل الاقتصادية في البلاد. 

وبينت أن الكيفية التي يرى بها من هم خارج الصين هذا الأمر تحدد أيضًا الكيفية التي ينبغي بها التعامل مع الصين فيما يتصل بقضايا أخرى. 

وسيدعم الفكرة التي يتبناها بعض المسؤولين في واشنطن بأنه من المهم أن يجري الرئيس جو بايدن محادثات مباشرة مع شي لضمان أن لديه فهمًا دقيقًا للسياسة الخارجية الأمريكية بشأن قضايا مثل أوكرانيا وتايوان.

سبل التغيير
ولفتت إلى أنه يوجد هناك مصدران محتملان للتغيير؛ الأول سيكون أزمة اقتصادية كبرى من شأنها أن تخلق حسابا سياسيا، فيمكن للقيادة الحالية أن تعترف بأخطائها وتغير توجهاتها، أو يمكن لفصيل آخر من النخبة أن يبلور الفريق الحالي ويحل محله، أو، على الأقل احتمالًا، يمكن أن ينهض الجمهور احتجاجا يحاول الإطاحة بالحزب الشيوعي الصيني بالكامل. 

في حين أنه قد يكون هناك المزيد من الأمور التي تختمر تحت السطح أكثر مما يمكن أن يراه الغرباء، إلا أن أيا من هذه السيناريوهات لا يبدو معقولا على المدى القصير إلى المتوسط.

واستطردت المجلة موضحة أن المصدر الثاني للتغيير يتمثل في أن تُقدَّم للقيادة الصينية بيئة دولية تعطي فيها الولايات المتحدة والغرب بشكل عام تطمينات موثوقة بأن تعود الولايات المتحدة والغرب بشكل عام إلى كونها موردا موثوقا للتكنولوجيا والأسواق والتمويل، وتعترف دون شروط بالنظام الاستبدادي للحزب الشيوعي الصيني باعتباره نظاما شرعيا

وتقبل مطالبات بكين بالسيادة على بحر الصين الجنوبي وتايوان، لكن احتمالات حدوث هذا التحول أقل من أي من السيناريوهات ذات الدوافع المحلية.


ووفق "فورين بوليسي"؛ فإن أحد الأسباب التي تجعل من غير المرجح أن يصبح الغرب أكثر استيعابا لذلك هو أن رجال الأعمال والمسؤولين الأجانب، عندما يتم استطلاع آرائهم داخل الصين وخارجها، عادة ما يختارون "إن شي لا يوافق". 

ومن وجهة نظر مجالس الإدارة والعواصم في الخارج، يبدو شي متمتعًا بسيطرة سياسية كاملة وعازم على المضي قدمًا في هذه الإستراتيجية، مع أن أي تعديلات تمثل تحولات تكتيكية طفيفة لاسترضاء المنتقدين المحليين والدوليين. ونتيجة لذلك؛ فإنهم يعتقدون أنهم يجب أن يكونوا أكثر تصميمًا، وليس أقل، في الثبات على موقفهم.

واختتمت المجلة تقريرها قائلة إنه على الرغم من أن هذا الاستطلاع غير الرسمي بعيد كل البعد عن العلمية، إلا أنه يشير إلى تصلب الانقسامات بين أجزاء من المجتمع الصيني وقادته وكذلك بين بكين والعواصم الأخرى. 

وهذا يعني أن هناك فرصة ضئيلة لاتخاذ إجراءات جديدة وجريئة، ولكن التناقضات بين القيادة ووجهات النظر المحلية والدولية المتعارضة تنذر بمزيد من التوترات والصراع في المستقبل.