حول انتشار الحركات الأصولية في آسيا والشرق الأوسط والمغارب، تكثر
القراءات التفسيرية وتتكامل أو تتنافى. ويسهم في هذه القراءات اختصاصيون، وحتى
مؤلفون قليلو العلم والدراية في تاريخ الإسلام وثقافته؛ فعند عدد مهم منهم، وبينهم
سياسيون، في بدء تلك الحركات، كان التخلف الذي خلق دوامه المتواتر بؤر الفقر
المتنامي، ومن ثمّ ركام الحزازات والتذمرات. "إن البؤس واعظ سيئ"، كما
قال ميتران عن المأساة الجزائرية، وهو الماهد الميسر لعودة العامل الديني
القوية... إن هذا العامل، في حالة الإسلام، لما يزل يصلح لشرائح المعوزين والمتروكين
مصفاة وصوتا، للجهر بضيقهم والتعبير عن حاجياتهم ومطالبهم.
وبعد تعيين مكمن الداء، سيتمثل الدواء في تزويد الحكم القائم بما
يحتاجه من دعم اقتصادي ومالي لمغالبة المد الأصولي وتحجيمه. وهذا الاختيار، رغم
بعض الصعوبات الظرفية، هو الذي ما زالت السلطات الفرنسية تراهن عليه في سياستها
العربية، كما هو دأبها مع الجزائر وكذلك في لبنان، حتى في أثناء حرب إسرائيل عليه
ومقاومة حزب الله لها.
تجاوزا للمنظور الاقتصادوي الضيق، هناك صنف آخر من التفسير يقدم
ظاهرة الحركات الأصولية على أنها وليدة تلاشي العقيدة الشيوعية والأيديولوجيا
المادية، كما دلل عليها بقوة سقوط جدار برلين وتصدع الاتحاد السوفييتي في أواخر
القرن الماضي. غير أن مقاربة هنتنغتون، على علاتها، تمثل من وجهة نظرية بعض
الفائدة، من حيث إنها تبرز البعد الثقافي في الحركات الأصولية مشخصا على وجه
التحديد، في المطالبة الهويتية ومقاومة الأنموذج الحضاري الغربي الضاغط، وهما
العنصران اللذان يأخذهما الباحث بعين الجد في بحثه، ويسعى إلى تشريحهما والإحاطة
بهما علما، حتى يتسنى له عرض أنجع السبل لاحتوائهما وتحييدهما.
وهذا التوجه نفسه، هو ما نجده مضمرا عند باحثين أوروبيين؛ وفرنسيين
بالتخصيص، يمكن أن نذكر منهم الخبير جيل كيبل، الذي يفصح عن تصوره قائلا؛ "إن
فرضيتي العملية، هي أن خطاب تلك الحركات وممارستها تحملان معنى ودلالة ليسا نتاج
اختلال للعقل أو تسخير لقوى مظلمة، بل الشهادة التي لا تعوض على أزمة عميقة لم
تعـد مقولاتنا الفكرية التقليدية تسمح بحل شفرتها". ("ثأر الله"،
باريس، 1991، ص26).
إن هناك أبحاثا أخرى، بعضها سابق على أبحاث كيبل، أقرت بالرصد نفسه،
نذكر منها ما أنجزه بيرك وبورغا ولابا وإيتيان وباحثون أنجلو ـ ساكسونيون. إن
قصدنا في هذا المقام ليس التعرض لهذه الأعمال بالدرس والتحليل، بل اتخاذها فقط
كنقط مرجعية في كل حوار عقلاني نافع ومتقدم حول الحركات التي نحن بصددها. وبالفعل،
تكاد تجمع تلك الأعمال على المكون الضدي أو المعارض في هذه الحركات، ليس في شأن
هيمنة أنماط الوجود والفكر الغربية فحسب، وإنما أيضا بإزاء الدول الوطنية (القائمة
على الليبرالية أو رأسمالية الدولة)، التي يشهد على إخفاقاتها المتكررة، عسرُ
الحياة اليومية وضيقها (كما تظهره أبحاث واستبارات ميدانية)، وكذلك تقارير منظمات
دولية، وتلتقي كلها وتتكامل، مستندة إلى إحصائيات وأرقام استدلالية، في ترجمة
الوقائع إلى لوحات جد مقلقة تمت إلى إشكاليات النمو والمديونية والدخل الفردي
والشغل، إضافة إلى قضايا التعليم والصحة والخدمات والتفاوتات الاقتصادية
والثقافية، إلخ.
إن التحدي القائم اليوم أكثر من ذي قبل أمام الفرقاء السياسيين والاجتماعيين في العالم الإسلامي، ليكمن أساسا في التنافس البناء على ترقية ثقافة الحكمة والتحضر وتمنيعها، ومن ثم على فك كل ارتباط بالخطابات التنابذية الدميمة، وبالأفعال العدمية العنيفة.
في هذا السياق نفسه يرى بيرك، بعد انتقاده لغلو بعض الأصوليين في
قضايا الديمقراطية والعلمانية والمرأة، أنه "رغم التطرفات المذهبية، يلزم
الاعتراف بقوة هؤلاء المساجلين، التي تأتيهم من فضحهم لشرور وتجاوزات داخلية ظاهرة
الوقوع، ومن انحيازهم إلى المستضعفين ووقوفهم بالأخص من دفاعهم عن الهوية المهددة.
إن النداء إلى التأصيل والأصالة، يربح حقّا ضد تتفيه الحياة المتزايد، وضد تنميط
العالم الأحادي، وضد بعض الانحرافات المحزنة في المجتمعات الغنية".
على وجه أعم، يشعر الباحثون الاجتماعيون والسياسيون والقانونيون، أنهم
مدعوون إلى الاهتمام بمسائل تمت إلى طبيعة الظاهرة الأصولية في الإسلام المعاصر، وإلى اللائيكية (أو العلمانية)، واختلاف المرجعيات والشرعيات في السياسة، إلخ. ومن
ثم نمت أدبيات تتفاوت جودة وقيمة، وتمزج في الغالب التحليل بالاختيار الذاتي
والبحث بالتموقف الإيديولوجي. وفي مسائل ساخنة مثل تلك، نادرون هم الباحثون الذين
قدروا على الالتزام بالشعار السبينوزي: "ألا نسخر ولا نبكي، بل أن نفهم".
إن اللائكية ـ وهو مفهوم فرنسي الاستعمال أساسا منذ ثورة 1789 ـ عصية
على التصدير أو الاستراد، وتبقى عبارة عن ترجٍّ طوباوي إذا لم تكن مسجلة في
الإرادة الجماعية والضرورة التاريخية. ومن هنا واجه بعض الباحثين سؤالا عما إذا
كان للهيئات الإسلامية الأصولية الحق في الوجود كأحزاب سياسية تطمح إلى الحكم،
كباقي الأحزاب المنظمة المشروعة؟ والذين يردون بالإيجاب على هذا السؤال، يبدون
نظريا منسجمين مع النهج الديمقراطي وقاعدة ممارسة السلطة القائمة على التداول وحكم
الصناديق، ويمثلون على ذلك بحالات الأحزاب الديمقراطية المسيحية في أوروبا
الغربية، أو الأحزاب المتحالفة مع الكنيسة الكاتوليكية في أوروبا الشرقية أو مع
ثيولوجيا التحرر، كما ظهرت في هايتي وبعض بلدان أمريكا اللاتينية. أما الذين يردون
بالنفي، فهم ميالون إلى الاحتجاج بالمبدأ العلماني، القاضي بفصل الدولة عن الدين، ووضع هذا الأخير في زوايا العبادات والحياة الخاصة.
على الصعيد العربي ـ الإسلامي، يحق القول؛ إن التيار الأصولي عموما قد
حوّل لصالحه، إلى حد لافت ملحوظ، تنامي مشاعر الظلم والإهانة عند العرب منذ إنشاء
دولة إسرائيل في 1948 وخلال مراحل الصراع العربي ـ الإسرائيلي المضنية المديدة؛
ودولة إسرائيل (الضاربة بعرض الحائط تسعين قرارا أمميّا منذ قيامها)، وحاميتها أمريكا
على كل الصعد (بما فيها إلى غاية اليوم استعمال الفيتو خمسين مرة في مجلس الأمن)، كانت لهما اليد الطولى وثمرات الانتصارات العسكرية المتلاحقة، حتى إذا شنت إسرائيل
حربها الوحشية على لبنان (12 تموز/ يوليو ـ 13 آب/أغسطس 2006)، أخذ صرحها يصاب بشقوق وتصدعات
على يد المقاومة اللبنانية البطولية مشخصة في حزب الله، فتنفست الشعوب العربية
والإسلامية الصعداء، واستعادت قدرا معتبرا من العزة والأمل.
إن سلاما منصفا وعادلا في المنطقة الشرق ـ أوسطية، لا يبدو أن موعده
قريب. وعملية السلام التي وضعت مبادئها اتفاقيات أوسلو (13 ـ 09 ـ 1993)، وأكدتها خارطة الطريق من بعد، يظهر أنها اليوم
في حالة تلاش متقدم، هذا علاوة عن أنها لم تحظ منذ البدء بتزكية حماس، وبعض وجوه
النخبة الفلسطينية؛ وذلك، في نظرهم، لما اعتورها من عيوب تدبيرية وتفاوضية، تبعدها
عن أن تكون سلاما حقيقيا ونهائيا.
وكيف لنا أن نقول بغير هذا، والحكم في إسرائيل إلى أي حزب أو ائتلاف
آل، يتمادى في سنّ سياسة عدوانية ممنهجة كاسحة ضد الفلسطينيين وأمكنة الذاكرة
الإسلامية وضد السلام: تهويد مدينة القدس بقصد تنصيبها عاصمة إسرائيل الأبدية،
توسيع المستعمرات في الضفة الغربية، واغتصاب أراض شاسعة في شرق المدينة المقدسة، وبناء نفق تحت الحرم الإبراهيمي، وأوراش وحفريات في محيط المسجد الأقصى، إلخ؛ كلها
أفعال وتدابير تنزع إلى تثبيت الصراع في ميدان ديني بالغ الحساسية، من طبيعته أن
يعني ويعبئ مجموع العالم الإسلامي وحتى أطيافا مسيحية، وتنضاف إلى هذا كله، حالة
التراجيديا العراقية التي ما زالت فصولها الدموية تستعر وتتناسل.
إن سلاما منصفا وعادلا في المنطقة الشرق ـ أوسطية، لا يبدو أن موعده قريب. وعملية السلام التي وضعت مبادئها اتفاقيات أوسلو (13 ـ 09 ـ 1993)، وأكدتها خارطة الطريق من بعد، يظهر أنها اليوم في حالة تلاش متقدم، هذا علاوة عن أنها لم تحظ منذ البدء بتزكية حماس، وبعض وجوه النخبة الفلسطينية؛ وذلك، في نظرهم، لما اعتورها من عيوب تدبيرية وتفاوضية، تبعدها عن أن تكون سلاما حقيقيا ونهائيا.
حيال الأزمات السلبية المستفحلة وواقع الأوضاع الفاسدة المتفاقمة، لا
يسع الثقافة الديمقراطية إلا أن ترقيَ قيم التنمية والحرية والعدالة، وترعاها قوة
العقل والمبادئ الاجتماعية المؤسسة ضد الخطابات المحرقة والممارسات العنيفة من
حيثما صدرت. وإذا كانت الديمقرطة الفعلية للمجتمع كفاحا إلزاميا مستداما، فلأنها
اختيار حضاري، من شأنه أن يجتـث جذور الاستبدادية والتعصبية من الحياة السوسيو ـ
سياسية، وأن تنظم هذه الحياة حول معاملات مدنية ومشاريع إنمائية ملموسة التحقيق
والنتائج، أي حول مؤسسات فاعلة، منتجة وقوية. وذلك أن هذه المؤسسات وحدها تقدر على
أن تطبع وتكرس تبني الديمقراطية من طرف كل الفرقاء السياسيين، بمن فيهم أصحاب
التيار الأصولي، وكذلك أن تحصنهم ضد أي ميول استبدادية وأي انحراف كلياني، كإقامة
نظام الحزب الواحد، أو التحالف مع العسكر ضد المواطنين والمجتمع المدني.
لكن، كما تدل عليه التراجيديا الجزائرية بمئات الآلاف من ضحاياها،
يبدو أننا للأسف ما زلنا متخلفين عن التملك الفعلي لتلكم الثقافة الديمقراطية.
وهذا التخلف يترك المجال مفتوحا أمام صعود خطابات الكراهية والشيطنة وحوار الأسلحة
ومنطق الترهيب والرعب، كما أنه، فوق تضخم القمع والارهاب، يحكم على الجسم المجتمعي
قاطبة بالتشظي والاحتقان.
بعيدا عن مجالات التشنج والتوجس السانحة بنشر الكراهيات القاتلة
والكتابات القدحية الفجة، يكون دور المثقف الحق، كما يسجل دوبري، هو "أن يكشف عن الوضع الاجتماعي
الموجود"، إذ "إن المجتمعات لا تعرف إلا سيرورات، تحكمها في آخر الأمر
قوانين ليست التعبير عن إرادة الشعب، بل عن علاقة ثابتة بين سلسلات كثيرة من
الظواهر". وداخل المجتمعات العربية والإسلامية الحديثة، تمثل الأصولية إجمالا
واحدة من هذه السيرورات المهمة، التي لا بد من أخذها في الحسبان من أجل غاية عليا، تروم
استراتيجيا وتدريجيا إلغاء كثرة التفاوتات والكسور والأعطاب السوسيو ـ اقتصادية
والثقافية، التي تستنزف وجودنا وتغرقه في انفجارات الممارسات اللاعقلانية
والاعتباطية العنيفة، أو بعبارات أخرى، أن نعيد للمجتمع نوابضه اللاحمة الحيوية،
ونجعله حاضرا بالفعل في هويته وصيرورته التاريخيتين: ففي هذا تكمن مهمة كل معرفة
إيجابية محرّرة. وخدمة لهذه المهمة الصعبة ـ التي ما أوكدها! ـ كل التنظيمات
الحزبية والتيارات الفكرية، مطالبة بأن تستثمر قواها وتعطي أفضل ما لديها.
ولئن جاز لديمقراطية القرب والتفضيل الاجتماعي أن تدعي لنفسها
امتيازا ما، فبشرط أكيد يتبلور أكثر فأكثر في إقامة رؤيتها السياسية الثقافية على
ثوابت استراتيجية متكاملة ثلاثة، نذكرها تحديدا لكونها غير محققة بعد، ولا فاعلة في
واقع الحال بما يضمن ترسخها وتطورها.
ـ التجذر في الإرث العربي ـ الإسلامي
الذي يلزمها الاضطلاع به كوريث للقيم الإسلامية من مساواة وتضامن وعدالة، وكذلك
لثقافة الإسلام الثرية العميقة، سواء الروحية منها والدنيوية.
ـ التملك الوظيفي الفاعل للحداثة، ليس كسلعة تعويضية ersatz أو سوق للمنتوجات الاستهلاكية، بل كمعين لقيم مضافة، نافعة ومنتجة،
وكحقل بحث وإبداع في سبيل ترقية الإنسان والوجود الاجتماعي. ومن ثم فالتحديث
الحق لا ينبني ضدا على الشخصية الهويتية الأصيلة، بل يتقصد خدمة صحتها ونموها
المطّرد.
ـ الانخراط الحيوي في روح الديمقراطية كنسق إجماعي، تلغي أركانه
المؤسسة كلَّ شكل من أشكال الاعتباط والحكم الفردي، وتعطي لمجتمع المواطنين حق تشغيل
قاعدة التناوب والمساهمة في إدارة الحياة السياسية وانتخاب ممثليهم وحكامهم
ومراقبتهم، وكذلك محاسبتهم وإسقاطهم حتى لو كانوا من الجناح الأصولي. إن السياسة
كميدان خصوصي هو بامتياز ميدان البرنامج والفرضية والتجريب، وكممارسة جدّ إنسانية
ليست البتة بمنأى عن الفشل والخطأ ومواطن الضعف والزلل. ومن ثم وحدها المؤسسة
الديمقراطية قادرة على مدها بطاقات العمل النقدي والتصحيح والتطور، وعلى تزويدها
بالدم الجديد والفاعلين الجدد، وتمتيعها إذن بأسباب المصداقية الإجرائية والتقدير.
إن الديمقراطية المنبنية على هذه الثوابت الثلاثة، لها كل الصفات
اللازمة، كما تجد نفسها مع أخلاق الإسلام وثقافته في عنصرها أو قل فضائها الطبيعي.
وإذا ما قيل إن هذا الإسلام هو بالذات مرجعية حركات وشخصيات سلفية أو أصولية
منفتحة من صنف راشد الغنوشي ويوسف القرضاوي ومحمد الغزالي وفهمي هويدي وآخرين،
فعلى الرحب والسعة. ومن ثم تفتح أمام كل مكونات المجتمع السياسي والمدني أبواب
التنافس، ليس للسطو على قيم الإسلام الانسانية واحتكارها، بل لتكريمها وترجمتها في
الممارسة والواقع. وفعلا، هناك شيوخ ومفكرون أصوليون يقفون من خلال كتاباتهم
وتصريحاتهم مع التحديث العقلاني للمجتمع، أي المضبوط والمتمكن، علاوة على
الديمقراطية التشاورية في الحياة السياسية. وحول هاتين المسألتين المركزيتين، فباسم
أي منطق يمكننا الإصرار على إقصائهم والإعراض عنهم؟
في جميع الأحوال، وسعيا إلى رفع الضغوطات الهيمنية، إن أعز ما يطلب
ويقوم كدعامة مرجعية لا مناص منها هو:
أ ـ أن تسقط الحواجز الذهنية والنفسية، حتى تصلح وتعمل قنوات التواصل
بين الأسر والاتجاهات السياسية والثقافية داخل المجتمع الواحد.
ب ـ أن نجمع على أن التدين الخالص هبة ربانية وهداية من الله، كما
يؤكد في غير ما موضع، إسلام التسامح واليسر واللاإكراه، وأيضا أن معالجة
الشؤون الدنيوية أو الزمانية المحايثة المتقبلة، موكولة أساسا إلى البشر؛ أفرادا
وجماعات أحرارا ومسؤولين، كما تشير إليه آيات كثيرة حول استخلاف الإنسان في الأرض، وتخييره وحضه على إعمال النظر والعقل، هذا علاوة على أحاديث نبوية كثيرة، أشهرها
"أنتم أدرى بأمور دنياكم".
وعلى ضوء هذين المبدأين وتفريعاتهما العملية، يمكن للفرقاء السياسيين
والاجتماعيين أن يرتقوا إلى ثقافة الحكمة والتحضر، ومن ثم أن يفكوا كل ارتباط
بالخطابات الغُلّية الدميمة وبالأفعال الإعدامية العنيفة.
إجمالا، عند كثير من الباحثين من تخصصات وأقطار شتى، تظهر الحركات
الأصولية إذن كتعبير مسموع ودال عن ضخامة النكسات والإهانات والمرارات، من صنف ما
ذكرنا وتذكي أواره سياسات القوة والهيمنة الغربية، تتقدمها سياسة الإدارة
الأمريكية الحالية بمحافظيها الجدد الغلاة، وصقورها الحربويين العتاة.
الديمقراطية، كتعاقد ومؤسسة، قد اكتسبت مقومات واقع وظيفي، ملزم ومعاش. والديمقراطية بدورها لا يمكنها أن تؤدي عملها الإدماجي السلمي كاملا، إلا باستنادها إلى قطب الرحى في كل تطور، ألا وهو النمو الاقتصادي المتواتر ذو الثمرات الحسنة النشر والتوزيع.
إن التحدي القائم اليوم، أكثر من ذي قبل أمام الفرقاء السياسيين
والاجتماعيين في العالم الإسلامي، ليكمن أساسا في التنافس البناء على ترقية ثقافة
الحكمة والتحضر وتمنيعها، ومن ثم على فك كل ارتباط بالخطابات التنابذية الدميمة، وبالأفعال العدمية العنيفة. وإذا كانت الجزائر حتى أيامنا هاته ما زالت دون تحقيق
هذه الغاية؛ فلأنها بعد أن فكك شخصيتها الثقافية ليل الاستعمار المديد وأعطبها، لم
تقدر على تضميد جراحها وبرئها طوال العقود الخمسة، وزيادة المتعاقبة على استقلالها.
وهذا ما دفع بالجزائريين إلى الطعن في المادة الخامسة من قانون فبراير 2005، التي
تسجل للاستعمار الفرنسي دوره الإيجابي، وصادق عليها البرلمان بغرفتيه، فلم تسحب
إلا بتدخل من الرئيس جاك شيراك، مستندا إلى المجلس الدستوري، وبعد ذلك أتت تصريحات
قوية للرئيس بوتفليقة، منها حول تعليق التوقيع على معاهدة الصداقة الفرنسية ـ
الجزائرية، ومنها اعتباره الاستعمار الفرنسي حركة إبادة جماعية ضد هوية الجزائر
وثقافتها.
وفعلا، فالصدام الذي ما زال يخوضه إلى حد ما الإخوة ـ الأعداء في هذا
البلد المغاربي، يعكس صورة هوية وطنية أزّمها تاريخ طويل من التبخيس الثقافي،
علاوة على تراكم قاس للكسور والحيوف. إنها حالة احتقان وتمزق لما تزل تسري في
الجسم الجزائري، وتعطل طاقاته التواصلية والتفاهمية، وتحكم من ثم بالعجز والقصور
على مبادرات الوفاق الوطني (كما أقره الرئيس بوتفليقة)، أو من قبل ذلك خطة سان ـ
اغيديو الموضوعة في كانون الثاني/يناير 1995 في روما، من طرف مجموع الأحزاب المعارضة الممثلة، بما
فيها جبهة الإنقاذ الإسلامي.
أما في المغرب، الذي عرف كتونس ماضيا استعماريا أقل هولا وعنفا، وتلقى من ثم شروخا في شخصيته الهويتية أقل خطورة وغورا مما كان عليه الأمر في الجزائر،
فيظهر، حسب الدراسات والأبحاث المتخصصة، أن الحركات الأصولية، وقد نشأت خلال
السبعينيات، تتجه في مجملها نحو مواقف توافقية، مقدمة الدعوة إلى تخليق المجتمع
والحياة السياسية. ويحسن بالطبع استقبال توجهها هذا إيجابيا، شريطة تخليها المعلن
والفعلي عن خوصصة الدين واستغلاله، وعملها في إطار المشروعية والسلم الاجتماعي،
وذلك حتى يتسنى تمكينها من الاندماج الديمقراطي في المجتمع المدني وحتى السياسي.
وهذا يفترض قبليا، أن الديمقراطية، كتعاقد ومؤسسة، قد اكتسبت مقومات
واقع وظيفي، ملزم ومعاش. والديمقراطية بدورها لا يمكنها أن تؤدي عملها الإدماجي
السلمي كاملا إلا باستنادها إلى قطب الرحى في كل تطور، ألا وهو النمو الاقتصادي
المتواتر ذو الثمرات الحسنة النشر والتوزيع. وهكذا تكتمل دائرة النمو الشامل، الذي
يختص بهذه الصفة؛ لكونه جامعا لاحما ممدّنا، وبمقدوره بالتأكيد، ولو بتأنّ، أن
يتجاوز التعارض الديني / العلماني، ويحيد ممثلي الغل والاستئصال، ويخلق شروط
انتعاش دولة التسيير والتيسير والمجتمع المدني المتقدم، القوي والمؤثر، ومن ثم المنفتح على التنافس الديمقراطي بين الأفكار، وعلى كل الفعاليات والديناميات
الساعية إلى اجتثاث أسباب التخلف وخدمة مصالح الأوطان والناس.
إن تحقيق تلك النقلة الكبرى، يفرض على فاعليها اليوم الأخذ بأسباب
العقلنة والترشيد المستمدة من الذات التاريخية أولا، ومن نظم الإنتاج والتسيير
التي كان بمقدور هذه الذات أن تنالها بالسبق والاستحقاق، لو لم تعقها عن ذلك عوامل
انتكاس وتصدّع داخلية، إضافة إلى عوامل انطلاق التفوق الأوروبي منذ عصر النهضة في
القرن السادس عشر. من حيث إن هذه النهضة الأوروبية استلهمت التراث اليوناني
لصالحها، وأن الرأسمالية، كما أظهر ماكس فيبر، مدينة في نشأتها وانتشارها إلى
البروتستنتية بالشيء الكثير، وأيضا من حيث إن تطور الاقتصاد في بعض أقطار آسيا
حاضرا تلقى زخمه المعنوي التحفيزي من الكونفوشية، حسبما بيّن ميكو موريشما، فإن من
الجائز والممكن ـ كما يُستفاد إلى حد دال من تجارب أندونيسيا وماليزيا مثلا ـ، أن
يكون للإسلام الثقافي والقيمي ولفلسفته الاجتهادية العملية دور نوعي مخصوص في خلق
شروط إحداث "المعجزة" الاقتصادية المرجوة، والتقدم العلمي الفكري
المنشود، وذلك كله في سياق وجوب كسب الرهان الحضاري والتنمية البشرية الكلية، وبروز
القطر ـ القدوة أو التجمع ـ المنارة.
وفي هذا السياق وحده، كدينامية مبدعة وصيرورة تأثيلية كمّية وكيفية، تتلاشى الصدوع والتوترات المعيقة، وتتجاذب العقول والذهنيات إيجابيا نحو الأفيد
والأجمل والأرقى، فترى الأصولي الحق قادرا على استيعاب الوعي التاريخي، ومميزا بين
الحي والميت في نصوص الأثر والقول التراثي؛ كما ترى الحداثي متخذا موقف النقد
بإزاء كل تغريب، إن كانت محصلته الاستلاب والولاء التبعي، وفقدان الاعتبار الذاتي
وطاقات المنافسة والمبادرة والخلق. وللحديث صلة.