في عام 1972 سأل صحفي يتحدث الإنجليزية
الكاتب والسياسي الراحل غسان كنفاني لماذا لا توقفون القتال ضد إسرائيل؟ أجابه
نوقفه من أجل ماذا ونحن من يتعرض للاعتداء والانتهاك؟ فرد الصحفي على الأقل توقفون
ماكينة القتل. رد كنفاني: "هذا بالنسبة لك، أما بالنسبة لنا فإن الكرامة
والاحترام والحقوق الإنسانية لها قيمة الحياة نفسها". وهو منطق ظل سائدا لدى
العرب والمسلمين لعقود طويلة.
فأسوأ ما فعلته الحياة المعاصرة أنه استبعدت
المصطلحات الأخلاقية من السياسة ومن ثم من سياق تقييم الأحداث. ولهذا لن نجد
مرادفات في التحليل السياسي أو نشرات الأخبار مثل النذالة والخسة وانعدام الأدب
والتربية. ويأتي كل هذا تحت مظلة واهية وقاعدة يراد فرضها على الجميع وهي أنه لا
أخلاق في السياسة. وقد انتقلت هذه القاعدة من مجرد توصيف للنظرة الغربية للسياسة
والحروب إلى ممارسة شخصية وقبول في الوعي العام العربي والمسلم بل وانتقلت
للتعاملات الشخصية والتجارية لدى البعض. وفي هذا الإطار يأتي اغتيال إسرائيل
لأبناء وأحفاد إسماعيل هنية قبل أيام وتقييمه والتعامل معه.
إن ما حدث للقيادي إسماعيل هنية يتشابه إلى حد بعيد ما حصل للزميل البطل وائل الدحدوح من استهداف أبنائه وحفيده. الخسة ذاتها والغدر نفسه بعيدا عن مسألة حماية الصحفيين.
كان التقييم الغربي للحدث يدور في فلك الخطأ
الاستراتيجي وتأثير المصالح والمكاسب والخسائر. أما التقييم العربي والإسلامي فكان
لا يزال محتفظا ببقية باقية من القيم الأخلاقية، وإن بقيت في إطار المكسب الشخصي
الغيبي لهنية في رزق الشهادة ورباطة الجأش والاحتساب عند الله تعالى. ولم تتسع
دائرة النقد والرفض لما حدث باعتباره خسة ونذالة وانعدام مرؤة. والحديث هنا ليس عن
فعل القتل في حد ذاته وخاصة استهداف الأطفال الذي تفننت فيه إسرائيل بكل وضاعة؛
ولكن الحديث عن مسألة تتجاوز هذا الجرم إلى مستوى آخر وهو السير في مسار تفاوضي بين
إسرائيل والمقاومة
الفلسطينية في إطار الحرب، وعند التعثر البحث عن جثة أبناء
وأطفال للطرف الآخر في قيادة المقاومة لقلب المعادلة. والأمر هنا يتعدى أية مكاسب
أو خسائر استراتيجية تلحق بهذا الطرف أو ذاك ويبقى في إطار الفعل المنتقَد أو
العار بغض النظر عن موازيين القوة ومن كسب ومن خسر من الحادث.
إن ما حدث للقيادي إسماعيل هنية يتشابه إلى
حد بعيد ما حصل للزميل البطل وائل الدحدوح من استهداف أبنائه وحفيده. الخسة ذاتها
والغدر نفسه بعيدا عن مسألة حماية الصحفيين. فأن تنشأ الحروب بين البشر هذا أمر
متكرر منذ بدء الخليقة وتمترس كل فريق حول حججه وذرائعه هو ديدن هذه الحروب، أما
الخسة والنذالة والغدر فأمر مختلف سواء تم في سياق حرب أو سلم. وهذا ميراث عربي
أصيل حافظ عليه الإسلام وتممه في إطار إتمام مكارم الأخلاق. وهو ميراث حضاري نفيس
لا ينبغي التفريط فيه مهما كانت الضغوط.
لقد حلت معايير المصالح الاستراتيجية محل
المعايير الأخلاقية في السياسة والحروب الحديثة. وأصبح الهدف القريب والضربة
الحاسمة والمنفعة المادية الواضحة هي معيار الصواب والخطأ والحق والباطل. وكان
أستاذنا الدكتور عبد الوهاب المسيري رحمه الله ينتقد بشدة هذه المعيارية الحديثة
التي ترى في قبول الهزيمة والمنفعية نظرة واقعية من دون أية مرجعية إنسانية أو
أخلاقية من أجل حجة التكيف مع الواقع.
إن أهم مكتسبات القضية الفلسطينية رغم
الخسائر في الأنفس والممتلكات أنها ضربت وتضرب هذه المبادئ التي يراد لها أن تنتشر
بين العرب والمسلمين. ومنها أن يقرر المرء في لحظة مفاصلة أن يخسر استراتيجيا
ويكسب أخلاقيا، أو يخسر الناس ويكسب نفسه ومبادئه. وكما قال عنترة بن شداد:
لا
تسقني ما الحياة بذلة ... بل فاسقني بالعز كأس الحنظل.
https://twitter.com/HanyBeshr