دخلت حرب الكيان الإسرائيلي على
غزة شهرها الخامس، ولا يزال الكيان المجرم يواصل مجازره ضد الشعب
الفلسطيني الغزاوي. والعالم كله دون استثناء؛ لم يتجاوز موقفه حدود الشجب والاستنكار والتحذير، على مدار كل هذه الأشهر التي تشهد ذبح الشعب الفلسطيني بالأسلحة والذخائر الأمريكية. مفاوضات تلو مفاوضات، لم ينتج عنها ما يشير إلى قرب وضع حد لحرب الإبادة هذه؛ حد نهائي ومستدام وشامل، وليس مرحليا وجزئيا. الأمّرُ هنا والأدهى؛ أن القائمين على هذه المفاوضات؛ وضعوا الضحية والجلاد على طرفين متساويين؛ بما يتقاطع كليا مع الواقع على الأرض. وفي رأيي أن الأيام المقبلة ستشهد وقفا محددا زمنيا لهذه المذابح؛ فتصريح بايدن؛ بأن إسرائيل سوف توقف عملياتها في شهر رمضان؛ يثير الشك في احتمالية؛ التوقيع على اتفاق هدنة مؤقتة.
ومن المهم الإشارة إلى أن المقاومة الفلسطينية حتى هذه اللحظة رفضت أن تكون الهدنة مؤقتة، كما رفضت الطلب الإسرائيلي بإخراج قيادات المقاومة من قطاع غزة. هذا الوقف المحدد زمنيا، إذا ما تم الاتفاق عليه سيكون بحد ذاته؛ دليل إدانة، لا العكس، ومع أن هذا الوقف للمجازر الصهيونية مهم جدا كي يتنفس الناس الصعداء، في ظروف مأساوية وكارثية ودموية وإجرامية لا نظير لها في كل تاريخ البشرية، لكن هذا الوقف المحدد زمنيا يحمل في ثناياه الكثير من الأسئلة.. والكثير من التداعيات.. والكثير من الخدع.
نتنياهو وضع خريطة طريق لما بعد الحرب؛ وفي كل الأحوال؛ لن تقبل بها المقاومة، كما أنها رفضت حتى من قبل أمريكا الدولة العظمى والمشاركة فعليا في حرب إسرائيل هذه، وهذا الرفض في رأيي؛ ما هو إلا لتبييض وجهها أمام شعوب العالم، وليس الأنظمة الرسمية، إلا بعض الاستثناءات منها؛ كما هو موقف الرئيس البرازيلي. هذه الخريطة يعرف نتنياهو قبل غيره أنها غير قابلة للتطبيق بخطوطها العريضة العامة كما طرحها، لكنه يعرف أيضا أنها ستكون على منضدة التفاوض الخفي بينه وبين الإدارة الأمريكية، لجهة الإخراج الناعم لها بإطار مقبول ومحتوى قابل للتفاوض، إنما في تفاصيل المحتوى تكمن الشياطين. أما من الجهة الثانية؛ فهذه الخريطة تشكل سقفا عاليا؛ كما هو الحال في أسواق البيع والشراء؛ أي كلما خُفِضَ منها، هنا وهناك؛ تظل إسرائيل حاصلة على ما تريد منها، ولكن هذا لن يحصل، لن تقبل به المقاومة الفلسطينية مهما كان الوضع، ومهما كانت الضغوطات عليها، سواء من الجوار العربي، أو من أمريكا، أو حتى من السلطة الفلسطينية والأخيرة بطريقة أو بأخرى. طوفان الأقصى رغم ما لحق بالفلسطينيين من مجازر يومية طيلة خمسة أشهر، ولم يزل الكيان الصهيوني يستمر في ارتكابها؛ انتجت تداعيات كثيرة ومهمة واستراتيجية، سواء ما كان منها على صعيد ضخ دماء الحياة بالقضية الفلسطينية، أو على الصعد الأخرى إقليميا وعربيا ودوليا، كما أنها عرّت بصورة لم يسبق لها مثيل؛ الأنظمة العربية المهادنة، ومعاونة البعض منها الكيان الإسرائيلي في التغلب على الحصار البحري الذي فرضته عليه؛ حركة أنصار الله في اليمن. ومن الجانب الثاني كشفت لشعوب العالم كم أن الكيان الصهيوني مجرم ويواصل إجرامه بحق الفلسطينيين؛ ما أدى وسيؤدي مستقبلا أكثر إلى عزل هذا الكيان من المحيط الدولي، شعبيا وإنسانيا وتعريته أخلاقيا.
لن يتخلى الفلسطينيون عن حقهم في الحياة تحت ظلال دولة مستقلة وذات سيادة كاملة، وليس حكما ذاتيا يحمل زورا وبهتانا مسمى الدولة
وبالعودة إلى الهدنة المرحلية المرتقبة؛ التي من المحتمل جدا، أو بالقناعة الشخصية وبسبب هول جرائم إسرائيل التي يندى لها جبين الإنسانية، سوف يتم الموافقة عليها وبتحفظ من قبل المقاومة الفلسطينية؛ لحفظ أرواح الناس والتخفيف عن كاهلهم، وما لحق بهم من قتل ودم ودمار. إن المقاومة سوف تستمر بالمقاومة، أشد وأقوى مما كانت عليه في الأشهر المنصرمة، بعد الهدنة، إن تم الاتفاق عليها، وبالذات حين يعاود الكيان الصهيوني بعدها، الحرب بطريقة أخرى مغايرة تماما للحرب قبل الهدنة؛ ستستمر المقاومة بدعم كامل وتام من الشعب الفلسطيني، كما هو تاريخيا ديدن هذا الشعب. أمريكا ودولة
الاحتلال الإسرائيلي يعولان كثيرا وكثيرا جدا؛ على خلق ظروف بديلة وإحداث خلخلة وهزة في الداخل الفلسطيني، وفي غزة تحديدا وليس في الرأي العام العربي والإقليمي والدولي؛ فهو مع الضحية كليا، وضد المجرم والجلاد؛ باستغلال واستثمار نتائج هذا الدمار الهائل لصالح أرباب القتل والتجويع والدمار في تل أبيب، وتحميل إسقاطاته على المقاومة الفلسطينية، كما هو حاصل للبعض من المأجورين، وهم أقل من القليل، لكنهم موجودون في الساحة إعلاميا وسياسيا. هذه الهزة والخلخلة التي يعول عليها الثنائي الأمريكي الصهيوني؛ سوف تكون هامشية، وفي زاوية ميتة حتى قبل أن تولد، هذا لا يعني وبكل الظروف وتبدلاتها، سواء الواقعية التي خلقها إجرام دولة الاحتلال الإسرائيلي، أو التي يتم توليدها قصديا من قبل العراب الأمريكي وذيوله في المنطقة العربية، أو في جوارها، كما حدث في أزمان أخرى؛ قريبة وبعيدة؛ لن يتخلى الفلسطينيون عن حقهم في الحياة تحت ظلال دولة مستقلة وذات سيادة كاملة، وليس حكما ذاتيا يحمل زورا وبهتانا مسمى الدولة.. كما كانوا في الأزمان السابقة، لن يتخلوا عن نضالهم وكفاحهم وجهادهم من أجل حياة حرة وكريمة؛ هم فيها سادة أنفسهم، وسادة مصائرهم.
ما في جعبة الغول الأمريكي والصهيوني وذيولهما في المنطقة العربية وربما في جوارها؛ يتركز حول النقاط التالية، أو الأسئلة التالية أولا: كيف تتم إدارة غزة بعد الحرب؟ ثانيا: هل تكون إدارة محلية من الناحية الواقعية، بإشراف إسرائيلي أمني كما يريد نتنياهو؟ كما هو حاصل مع السلطة الفلسطينية في الضفة الغربية التي لم يبق منها سوى أقل من 18%. ثالثا: سوف يتم إعمار غزة (هذا هو المعلن..) بأموال عربية؛ لكن بإشراف من؟ رابعا: كيف يتم التعامل مع طروحات نتنياهو والتي تتلخص في منطقة عازلة والسيطرة على المعابر؟ كيف يتم التعامل أيضا مع طروحات نتنياهو في ما يخص نزع سلاح المقاومة، وأن لا تكون لحركة المقاومة في غزة أي مشاركة في الإدارة؟ المقاومة الفلسطينية لن تقبل بتلك الشروط، حتى إن جرى تخفيفها مع الإبقاء على جوهرها ومحتواها؛ هنا تكمن خطورة مرحلة ما بعد الحرب، أو الأصح مرحلة ما بعد المجازر الصهيونية. هذه الخطورة تتمحور حول؛ ألا تنسحب دولة الاحتلال الإسرائيلي من المدن والأماكن التي احتلتها خلال هذه المحارق، وتظل تطوق المدن التي توجد قواتها على حافاتها، بقوات قليلة، لا تشكل ثقلا على الاقتصاد الإسرائيلي، مدعومة جويا واستخباراتيا بمختلف الوسائل والطرق الاستخباراتية، ومن الأرض ومن وسائل الاختراق الخسيسة، مع ممارسة عمليات الاغتيالات لقيادات المقاومة الفلسطينية؛ لأشهر مقبلة أخرى، وربما تتجاوز الأشهر إلى أمد أبعد من حساب الأشهر. الخطورة الثانية؛ هي وفي هذه الظروف أن لا يتم القيام بالإعمار الواسع والجدي، أو يتم، وهذا هو الأرجح، جزئيا.. بحجة أن الأوضاع لم تستقر بعد. في ظل مناورات قصدية؛ حوارات ومفاوضات وجولات مكوكية يقوم بها الراعي الأمريكي لهذه العاصمة العربية أو تلك. الخطورة الثالثة وهي الأهم والأخطر في المستقبل ما بعد المنظور؛ كبداية وعلى مراحل بلا ضجة وصخب وضجيج؛ هو التهجير الناعم وليس بالقوة العسكرية المكشوفة، بل بالقوة العسكرية غير المرئية، لكنها فاعلة ومؤثرة جدا. هذه الخطط لا تنفصل أبدا عن الذي جرى ويجري وسيستمر يجري في السر والعلن؛ لبعض الدول العربية وأعني مخطط الأقلمة لهذه الدول التي تتمتع بموقع جيوستراتيجي في المنطقة العربية وفي جوارها، وثروة هائلة من النفط والغاز؛ وهذا له علاقة عضوية وتكاملية بالتهجير الناعم، وهذا موضوع آخر لا يسع هذه السطور الخوض فيه، إنما سيصاحب كل هذا؛ إعلام واسع وقوي ومؤثر جدا، وهو إعلام أمريكي وغربي وإسرائيلي، كما هو حاصل قبل عدة سنوات من الآن، والأخير (الإعلام الإسرائيلي) يختفي وراء أسماء إعلامية عربية وإقليمية، من الذين باعوا الضمائر لقاء أجر معلوم، يتركز في مسارين؛ أولا: إن العالم المتحضر، أو أن التطورات والتحولات في العالم تفرض؛ أن تكون للفلسطينيين دولة (دولة كارتونية وتحت الوصاية الإسرائيلية، أي حتى أقل من حكم ذاتي). ثانيا: العالم وبالذات أمريكا والغرب بدأوا يدركون؛ أن السلام في المنطقة لا يتم إلا بإقامة دولة فلسطينية؛ وكأن أمريكا والغرب والعالم لم يدرك أهمية ذلك إلا الآن. إنها لعمري خدع ليس إلا..
المصدر: القدس العربي