نشر
موقع "
المجلس الروسي للشؤون الدولية" تقريرًا للكاتبين جيسون واهلانج وسيرجي
ملكونيان، قال فيه إن الديناميكيات التي شهدها جنوب
القوقاز في السنوات الأخيرة غيرت
ميزان القوى المعتاد في المنطقة. فعلى خلفية الدور القيادي التقليدي الذي تلعبه روسيا،
بدأ اللاعبون الإقليميون -
إيران وتركيا، واللاعبون من خارج المنطقة، فرنسا والاتحاد
الأوروبي والولايات المتحدة- في لعب دور أكثر نشاطًا؛ حيث إن التنافس على الوجود على
الأرض، وعلى صيغ التفاوض، هو الذي يحدد اليوم التوازن الإقليمي. ومن بين العناصر المهمة
التي يمكن أن تؤثر على الديناميكيات الإقليمية ظهور لاعب جديد متمثل في
الهند.
وأوضح
الكاتبان أنه قبل أن تصبح الهند ملحوظة في جنوب القوقاز؛ أظهرت باكستان بعض النشاط.
ففي عام 2017، تم التوقيع على بيان ثلاثي حول التعاون في المنطقة بين باكو وأنقرة وإسلام
آباد، وفي وقت لاحق من عام 2020، قدمت باكستان الدعم لأذربيجان خلال حرب ناغورنو كاراباخ.
وشاركت إسلام آباد بانتظام في مناورات مع أنقرة وباكو، والتي أطلق عليها اسم
"الإخوة الثلاثة". وفي كانون الثاني/ يناير 2021؛ وقع الأطراف إعلان إسلام
آباد الثلاثي، الذي أكد على التضامن مع حكومة وشعب أذربيجان بعد الحرب.
ولفت
الكاتبان إلى أن هناك عقبة خطيرة في العلاقات بين الهند وأذربيجان؛ فالأخيرة تدعم وجهة
النظر الباكستانية بشأن قضية كشمير، وتتخذ
تركيا موقفًا مماثلًا بشأن هذه القضية، وألهم
التعاون الثلاثي بين باكستان وتركيا وأذربيجان الهند لإنشاء صيغتها الثلاثية الخاصة:
الهند وأرمينيا وإيران؛ حيث تبدي
أرمينيا دعمًا لا لبس فيه للنهج الهندي تجاه كشمير،
ويركز هذا التعاون الثلاثي في المقام الأول على الاتصالات وإدارة الموارد. ومع ذلك، يمكن أن يُنظر إليه في المستقبل على أنها معارضة للتعاون المتزايد في صيغة أنقرة-باكو-إسلام
آباد القائمة بالفعل.
واليوم
أصبحت الهند شريكاً رئيسياً لأرمينيا في مجال التعاون العسكري التقني، وهو الموقع الذي
كانت تحتله روسيا سابقًا؛ حيث استحوذت على أكثر من 93 بالمئة من الأسلحة والمعدات العسكرية
لأرمينيا في الفترة 2011-2020. وفي وقت لاحق في عام 2021، وقعت يريفان وموسكو اتفاقية
جديدة لتوريد الأسلحة. ومع ذلك، ونظرًا لاستحالة الوفاء بالتزامات العقد بسبب اندلاع
الصراع في أوكرانيا، لم يتمكن المصنعون الروس من تسليم المعدات في وقت قصير. وهكذا،
نشأ فراغ في هذه المنطقة، كان على يريفان أن تملأه بسرعة، حيث استمرت باكو في شراء
الأسلحة بشكل رئيسي من "إسرائيل" وتركيا، وممارسة الضغط العسكري على أرمينيا.
وبحسب
تقديرات مختلفة؛ يبلغ الحجم الإجمالي لعقود الأسلحة والمعدات العسكرية بين أرمينيا
والهند حوالي 2 مليار دولار مع مجموعة واسعة من المنتجات. وتشمل العقود رادارات وصواريخ
مضادة للدبابات مع ذخيرة ومدافع مدفعية 155 ملم وأنظمة مضادة للطائرات بدون طيار، كما
أن أرمينيا أصبحت أول مشغل أجنبي لنظام الدفاع الجوي الهندي "عكاش". ووفقا
للخبراء الهنود، بعد أن أصبحت أرمينيا أكبر مستورد للأسلحة الهندية، فإنها تتحول تدريجياً
إلى شريك استراتيجي للهند في جنوب القوقاز. وبالإضافة إلى الصفقات العسكرية؛ كان هناك
تطور مهم آخر في قطاع الدفاع وهو التعيين المتبادل للملحقين العسكريين من قبل الطرفين.
وأوضح
الكاتبان أن هناك مجال آخر مهم للتعاون بين يريفان ونيودلهي، والذي له بعد استراتيجي،
هو النقل والخدمات اللوجستية؛ حيث يهتم البلدان بتنفيذ ممر النقل الدولي "الخليج
– البحر الأسود"، والذي يهدف إلى ربط الهند بأسواق الاتحاد الاقتصادي الأوراسي
والاتحاد الأوروبي عبر إيران وأرمينيا وجورجيا والبحر الأسود، خاصة وأن الهند تواجه
مشاكل لوجستية مع الاتحاد الأوروبي عبر روسيا بسبب الصراع في أوكرانيا، وعبر قناة السويس
من كثرة الازدحام والتوتر المتزايد في البحر الأحمر. وبحسب الخطة؛ سيتم تسليم البضائع
إلى ميناء تشابهار الإيراني، ومن ثم عبر أراضي أرمينيا وجورجيا يمكن الوصول إلى الأسواق
الروسية والأوروبية.
الأهمية
بالنسبة لروسيا
وأشار
الكاتبان إلى أن التوسع التدريجي للوجود الهندي في جنوب القوقاز قد يقابله لاعبين إقليميين
بطرق مختلفة، فكل شيء سيعتمد على مدى تقاطع المصالح أو تصادمها، وبالنظر إلى دور المنطقة
ومكانتها في إستراتيجية السياسة الخارجية الحديثة لروسيا، يُقترح الانتباه إلى العواقب
التالية:
أولًا:
لقد تم بالفعل إسقاط المواجهة بين روسيا والغرب على أنظمة فرعية إقليمية ويُنظر إليها
على أنها لعبة محصلتها صفر. وفي هذا السياق؛ فإن الهند ليست جزءاً من الغرب الجماعي/السياسي
ولا تنقل مصالحه، كما أن المنافسة في المنطقة، التي تقع في نطاق اهتمام روسيا، ليست
على أجندة الهند. ولذلك؛ فإن توسيع وجود نيودلهي في جنوب القوقاز لا يمثل لعبة محصلتها
صفر بالنسبة لموسكو.
ثانيًا؛
تنظر الهند إلى أرمينيا باعتبارها جسرًا إلى الاتحاد الاقتصادي الأوراسي، وتستمر المفاوضات
بين الطرفين بشأن إنشاء منطقة تجارة حرة، وتستعد نيودلهي لتصبح دولة مراقبة في الاتحاد
الاقتصادي الأوراسي في عام 2024 الحالي.
ثالثًا:
يؤدي توريد الهند للأسلحة إلى أرمينيا، الحليف الوحيد لروسيا في منظمة معاهدة الأمن
الجماعي والاتحاد الاقتصادي الأوراسي في المنطقة، إلى تعزيز إمكانات يريفان العسكرية.
وهذا بدوره يساعد على معادلة توازن القوى في جنوب القوقاز، مما يقلل من خطر حدوث تصعيد
جديد، وهو ما يتوافق مع مصالح موسكو. وعلى خلفية عجز روسيا عن توريد الأسلحة، وجدت
أرمينيا خيار التسوية (من وجهة نظر سياسية) في شخص شريك غير غربي.
رابعًا:
لا بد وأن يكون هناك رابط مهم بين الاتحاد الاقتصادي الأوراسي والهند يتمثل في تنفيذ
الطريق التجاري بين الخليج والبحر الأسود،
والذي لا يتعارض مع المبادرة الروسية بين الشمال والجنوب فحسب، بل ويكملها أيضًا. وفي
هذا السياق؛ ستلعب إيران دورًا مهمًّا، بعد أن وقعت اتفاقية تجارة حرة مع الاتحاد الاقتصادي
الأوراسي، ومن خلال أراضيها ستكون هناك اتصالات تربط الهند بأرمينيا، ثم مع روسيا وسوق
الاتحاد برمته.
وهكذا،
في جنوب القوقاز، لا تتعارض مصالح روسيا والهند فحسب، بل تكمل بعضها البعض أيضًا. فالهند
لا تهدف إلى استبدال مواقف موسكو. بل على العكس من ذلك، فهي تعزز الحفاظ على الوضع
الراهن، مما يقلل من احتمالية الصراع من خلال دعم حليف روسيا ويعتبر المنطقة وأرمينيا
بمثابة رابط مع الاتحاد الاقتصادي الأوراسي.
الأهمية
بالنسبة لإيران
اعتبر
الكاتبان أن توسيع الوجود الهندي في جنوب القوقاز يشكل أهمية كبيرة بالنسبة لإيران
من وجهات نظر عديدة. فأولاً؛ زيادة دور الترانزيت لطهران ليس فقط على المستوى الإقليمي،
بل على المستوى العالمي أيضًا؛ حيث إن مشاركة الهند في تحديث ميناء تشابهار ومشاركتها
اللاحقة في تطوير الخليج العربي والبحر الأسود وممر النقل بين الشمال والجنوب من شأنه
أن يعزز مكانة إيران كمركز يربط الهند بأوروبا وروسيا. وقد تزيد هذه الطرق من أهميتها
كطريق بديل وسط التصعيد المستمر على طول محيط طرق الشرق الأوسط التقليدية.
ثانيا:
سيساعد تطوير التعاون العسكري التقني بين يريفان ونيودلهي في بناء الإمكانات العسكرية
لأرمينيا. واليوم؛ يتعين على إيران أن تنتهج سياسة نشطة ووقائية إلى حد كبير للحفاظ
على الوضع الراهن ومنع تعزيز الكتلة التركية الأذربيجانية. ويؤدي هذا النشاط إلى ضرورة
مراكمة الوسائل السياسية والدبلوماسية والعسكرية، كما كان الحال مثلاً في عام 2022،
عندما تمكنت طهران من وقف "العدوان الواسع النطاق لأذربيجان على أرمينيا".
مثل هذه التصرفات لا يمكن إلا أن تخلق توترًا في العلاقات بين طهران وباكو. وفي الوقت
نفسه؛ يتعين على يريفان أن تستخدم أدوات ردع إضافية، على سبيل المثال، من خلال وضع
بعثة مراقبة تابعة للاتحاد الأوروبي على الحدود.
ثالثًا:
تعزيز موقف الهند في جنوب القوقاز سيساعد على معادلة التوازن الإقليمي. واليوم؛ يؤدي
وجود جهات فاعلة من خارج المنطقة، مثل "إسرائيل" وباكستان إلى جانب أذربيجان،
والتي تربطها علاقات تصادمية أو تنافسية مع إيران، إلى إدامة اختلال توازن القوى. لذلك،
إذا كان تورط الهند في المنطقة، فضلًا عن تقاربها مع أرمينيا، يعمل على تحييد الخلل
الواضح في التوازن، فإن إيران تستطيع أن ترحب بهذا الاحتمال بشكل إيجابي.
الأهمية
بالنسبة لتركيا
وذكر
الكاتبان أن تركيا من المستفيدين من تغير التوازن في جنوب القوقاز نتيجة حرب 2020،
فقد أضفت الشرعية على وجودها العسكري في المنطقة، ووقعت وثيقة إستراتيجية مع أذربيجان،
ونجحت في الترويج لصيغة التفاوض "3+3"، التي قبلتها مراكز القوة الرئيسية:
روسيا وإيران. أي أن توسيع الوجود السياسي والدبلوماسي والعسكري التركي في جنوب القوقاز
يسمح لأنقرة بالتأثير، بل وحتى تحديد الأجندة في المنطقة في بعض الأحيان.
وقد
يكون لظهور لاعب جديد في شكل الهند عواقب على تركيا في سياق توازن القوى في المنطقة
واتصالات النقل. ففي الحالة الأولى؛ فإن عواقب تطوير التعاون العسكري التقني بين يريفان
ونيودلهي لا تتوافق مع مصالح أنقرة في المنطقة، لأن إعادة ضبط ميزان القوى لن تكون
موجهة لصالح الحليف الاستراتيجي لتركيا. ومع ذلك، فإن القضية ذات الأولوية القصوى في
هذا السياق قد تكون تنفيذ طرق النقل والخدمات اللوجستية التي تروج لها الهند.
ووفق
الكاتبيْن فإن تركيا الحديثة، ذات الطموحات العالمية، تقوم بتنفيذ عدد من المشاريع
التي تهدف إلى تعزيز مكانتها في نظام الاتصالات (النقل والطاقة). ويهدف هذا الاتجاه
السياسي إلى تحويل تركيا إلى أحد المحاور الرائدة. ويجري في هذا الصدد تنفيذ مشاريع
مختلفة في مجال الاتصالات والطاقة - "الممر الأوسط" و"ممر الغاز الجنوبي"
وغيرها.
وكقاعدة
عامة، تكون هذه الطرق خطوط عرضية وتربط أوروبا بآسيا على طول الخط الغربي الشرقي عبر
تركيا. وبهذا المعنى، فإنها تتنافس مع طرق النقل لمسافات طويلة "الشمال-الجنوب"
و"الخليج-البحر الأسود"، التي تمر عبر أراضي إيران. ولن يؤدي تنفيذ هذه المشاريع
إلى تعزيز مكانة طهران في الصراع على القيادة الإقليمية فحسب، بل سيحرم أنقرة من الدور
المحوري الذي تسعى إلى احتكاره. والرابط المهم في هذا السياق هو الهند، التي تساهم
في إطلاق العنان لإمكانات النقل في إيران وهي مدرجة في مشاريع الاتصالات في جنوب القوقاز.
ونوه
الكاتبان إلى أنه في جنوب القوقاز، كما هو الحال في العديد من الأنظمة الفرعية الإقليمية
الأخرى؛ يتوسع اليوم وجود الدول غير الغربية والجنوب العالمي. وبهذا المعنى؛ تواصل
الهند لعب الدور الأبرز. ومن نواحٍ عديدة؛ تشكل نيودلهي عاملًا قادرًا على التأثير
على العمليات الإقليمية المختلفة. ووجود مؤشرات لآفاق طويلة المدى للتواجد على المستوى
الإقليمي (تنفيذ ممرات النقل)، وبناء الطبيعة الإستراتيجية للعلاقات مع مراكز القوة
الرئيسية في جنوب القوقاز ومباشرة مع دول المنطقة على المستوى الثنائي. تشير إلى إمكانيات
التحول إلى جهة فاعلة قادرة على تحديد العمليات في المنطقة، وليس التأثير عليها فقط.
وخلص
الكاتبان إلى أن النهج الذي تتبناه الهند في التعامل مع جنوب القوقاز لا يتفق مع المصالح
الروسية والإيرانية في المنطقة فحسب، بل ويكملها أيضاً. وفي هذا الصدد، قد يكون من
المفيد بعض الاهتمام مناقشة القضايا الإقليمية على المنصات الدولية القائمة بمشاركة
روسيا وإيران والهند (على سبيل المثال، الاتحاد الاقتصادي الأوراسي وبريكس)، التي انضمت
إليها إيران بالفعل. وفي الوقت نفسه، يمكن تحديد نقطتين على الأقل من نقاط تضارب المصالح
مع تركيا. وفي هذا الصدد، لا يمكن استبعاد معارضة معينة من جانب أنقرة، خاصة على المستويين السياسي والدبلوماسي.