ملفات وتقارير

هل تستغل إثيوبيا أزمات السيسي والحرب في غزة لتنفيذ الملء الخامس للسد؟

إثيوبيا قامت بتجفيف الممر الأوسط لسد النهضة- جيتي
بينما ينشغل المصريون بحرب الإبادة الدموية التي يرتكبها الاحتلال الإسرائيلي في حق الفلسطينيين، وبينما يقوم رئيس النظام المصري، عبد الفتاح السيسي، وأجهزته الأمنية والسيادية بهندسة عملية الانتخابات الرئاسية، التي تجرى الأحد، قامت إثيوبيا بتجفيف الممر الأوسط لسد النهضة، تمهيدا لبدء عملية الملء الخامس لحوض السد الإثيوبي.

الخبير المصري في هندسة السدود وجيوتكنيك السواحل الطينية بجامعة "Uniten" بماليزيا، محمد حافظ، أكد أن "الحكومة الإثيوبية قامت بتجفيف الممر الأوسط للسد الإثيوبي ليلة أمس الخميس"، مؤكدا لـ"عربي21"، أن "الحكومة الإثيوبية تبدأ بهذه الخطوة العد التنازلي لتنفيذ للملء الخامس لحوض السد".

حديث حافظ، يأتي بعد نحو أسبوع من إعلان وزير الموارد المائية المصرية، هاني سويلم، أن هناك جولة جديدة من مفاوضات سد النهضة ستعقد في العاصمة الإثيوبية، أديس أبابا، خلال أيام 16 و17 و18 كانون الأول/ ديسمبر الجاري، وسط توقعات بعدم تحقيق أي تقدم، على غرار عشرات الجولات السابقة، التي تمت على مدار أكثر من 10 سنوات.

وكانت مصر قد أكدت أن جولة المفاوضات الثلاثية مع السودان وإثيوبيا بالقاهرة نهاية تشرين الأول/ أكتوبر الماضي، والتي تأمل منها الوصول لاتفاق قانوني ملزم لملء وتشغيل السد، لم تشهد تقدما في ظل التعنّت الإثيوبي.

وعلى الأرض، اعترفت الحكومة المصرية، بتأزم الوضع المائي للبلاد، حيث أعلن وزيرها سويلم، في مؤتمر المناخ "كوب 28" الذي انعقد في الإمارات، دخول مصر مرحلة الخطر المائي، كاشفا عن تراجع نصيب الفرد الواحد من المياه ليقترب من خط الشح المائي، مشيرا لـ"توجه حكومة بلاده للاعتماد على الطاقة المتجددة لتحلية المياه".

‌"حدود ومعالم الأزمة"
"أزمة مياه النيل" تفجرت منذ 13 عاما، وتحديدا مع اتفاق "عنتيبي" الذي وقّعت عليه خمسة دول محيطة بحوض النيل، هي إثيوبيا، وأوغندا، ورواندا، وتنزانيا، وكينيا، في أيار/ مايو 2010، ورفضتها دولتي المصب مصر والسودان، كونها تنتهي حصتيهما التاريخية المقدرة بـ(55.5 و18.5 مليار متر مكعب) وفقا لاتفاقيات 1929 و1959.

إثيوبيا لم تكتف بتلك الضغوط على المصريين، بل أعلنت عام 2011، عن بناء سدا على النيل الأزرق المورد الموسمي لنهر النيل، بتكلفة 5 مليارات دولار، وبارتفاع 145 مترا وبطول 1708 أمتار، يستوعب 74 مليار متر مكعب من المياه، يتم حجزها من حصتي القاهرة والخرطوم، السنوية.

جاء الرد المصري والسوداني متمسكا بالحوار، حيث جرى عقد عشرات جولات المفاوضات مع إثيوبيا، كما قدمت وزارتي خارجيتهما العديد من الشكاوى لمجلس الأمن الدولي، لوقف أعمال السد، كونه يشكل أزمة وجودية تهدد استقرارهما، ما دفع بعض الدول والمؤسسات المالية لوقف تمويل السد.

لكن السيسي، ووفق عدد من الخبراء والمراقبين، وعبر توقيعه على "إعلان مبادئ سد النهضة" في آذار/ مارس 2015، مع إثيوبيا والسودان، منح أديس أبابا ورقة دولية حصلت بمقتضاها على التمويل اللازم لبناء السد، وبموجبه تواصل عمليات ملء حوض السد منفردة دون اتفاق 4 سنوات متتابعة من "2020 إلى 2023"، وهي على أبواب الملء الخامس.

"عجز مصري.. وأزمات طاحنة"
ووفق تصريحات رسمية مصرية تسعى دولتي المصب لإبرام اتفاق قانوني ملزم، يتضمن آلية الملء وطرق التشغيل، وجهات التحكيم عند الخلاف، وهو ما تتماطل فيه إثيوبيا، حتى استكمال ما تبقى من بناء السد الذي سيولّد 5 آلاف ميغاواط من الكهرباء.

وتتخوف مصر من تهديد وجودي لأقدم بلدان العالم، وتبوير دلتا النيل، وتهديد حياة أكثر من 125 مليون مصري، مع تراجع حصتها من مياه النيل التي تمثل نحو 68.5 بالمئة من مواردها المائية، حيث تحتاج سنويا لـ114 مليار متر مكعب مياه.

وأمام عجز السيسي، أمام التعنت الإثيوبي، تتجه حكومته نحو تحلية مياه البحر كبديل لمياه النيل، حيث عقد صندوق مصر السيادي في كانون الأول/ ديسمبر 2022، مفاوضات مع صناديق سيادية عربية للاستثمار في مشروعات تحلية المياه.

وجرى الإعلان عن تنفيذ 3 مشروعات تحلية المياه، حتى عام 2030، بمحافظة البحر الأحمر، ورأس سدر بجنوب سيناء، وفي محافظة الدقهلية، بطاقة 50 و70 و35 ألف متر مكعب يوميا، إلى جانب مشروعات في السويس والبحيرة وكفر الشيخ.

وتتفاقم الأزمة الاقتصادية في البلاد، حيث أعلنت وزارة المالية المصرية على أن حجم الدين المحلي ارتفع بنهاية حزيران/ يونيو الماضي إلى 4.2 تريليون جنيه، فيما وصل حجم الدين الخارجي إلى 164.7 مليار دولار.

وعلى حكومة القاهرة سداد جدول مدفوعات ديون خارجية ثقيل، حيث أن هناك 42.26 مليار دولار تستحق في عام 2024 وحده، منها 4.89 مليار لصندوق النقد الدولي.

كما تعيش مصر على وقع تهديد الحرب الإسرائيلية الدموية على قطاع غزة، وسط ضغوط تل أبيب وواشنطن لتهجير نحو مليون فلسطيني إلى سيناء المجاورة، وذلك في الوقت الذي تجرى فيه انتخابات رئاسية هي الثالثة للسيسي، تمنحه مدة حكم لـ6 سنوات قادمة.

"يجري باتفاق"
وهو الواقع الصعب الذي يدفع للتساؤل: "هل تستغل إثيوبيا انشغال السيسي بالانتخابات الرئاسية، وأزماته الاقتصادية، وأزمات إقليم الشرق الأوسط والحرب في غزة، لتنفيذ باقي أجندتها حول السد؟".

ويقول محمد حافظ، لـ"عربي21": "على العكس تماما، فالملء الخامس مثل الملء الرابع والثالث والثاني والأول تحكمه اتفاقيات وقعت عليها الدول الثلاثة نهاية 2018، والمعروفة باتفاقية (عطبرة)، والتي أقرت جدولا زمنيا محددا لملء خزان بحيرة سد النهضة".

ويوضح أنه "تم الاتفاق على بدء الملء في آب/ أغسطس 2019، ويكتمل خلال 6 سنوات فقط حتى 2024"، موضحا أنه "لأسباب فنية بحتة تتعلق بتعديلات جوهرية على التركيبات الميكانيكية لتوربينات السد وخاصة بعد إزاحة هيئة التصنيع العسكري الإثيوبي من المشهد تعطلت عملية الملء الأول عام 2019، ليبدأ في آب/ أغسطس 2020".

ويضيف: "بناء عليه، لا يمكن القول بتاتا إن إثيوبيا تستغل موقف مصر الضعيف سياسيا واقتصاديا اليوم في تنفيذ الملء الخامس لكونه ببساطة (متفق عليه) منذ 2018، ثم أعيد الاتفاق عليه ثانية أمام الرئيس الأمريكي دونالد ترامب".

ويعيد الخبير المصري نشر "توقيع وزير الري المصري على جدول الملء المعروف بجدول عطبرة، والذي أعيد التوقيع عليه مرة أخرى منفردا أمام ترامب، وذلك بعد إنسحاب إثيوبيا من مؤتمر أمريكي بسبب الإختلاف على حصتها من النيل الأزرق".

"خطيئة السيسي الكبرى"
من جانبه يقول، الخبير في الشؤون السياسية والاستراتيجية، ممدوح المنير، في حديثه لـ"عربي21": "بدء إثيوبيا الملء الخامس مسألة وقت، ما ينذر بكارثة وجودية على مصر".

وتوقع أن "رئيس الوزراء الإثيوبي، آبي أحمد، لن يفوت فرصة انشغال الجميع بحرب غزة والانتخابات الرئاسية المصرية التي يتم طبخها بهدوء، فضلا عن الحرب الأهلية بالسودان التي أنهكت وقضت على كل مقومات الدولة".

ويضيف: "في الحقيقية، المفاوضات التي قال وزير الموارد المائية المصري أنه ذاهب إليها، هي للاستهلاك المحلي، ويعلم أنها بلا قيمة، وبكل مرحلة من ملء السد كانت هناك مفاوضات عبثية تنتهي بفرض أديس أبابا أجندتها، لعلمها أن مصر بظل حكم السيسي منزوعة القوى والتأثير".

ويلفت إلى أن "السيسي الذي وقع اتفاقية المبادئ التي تعترف لأثيوبيا بحق بناء السدود، وبالتالي ما يجري حاليا، هو محاولة للتغطية على خطيئة السيسي الكبرى عام 2015".

وفي السياق نفسه، يعرب المنير عن أسفه من أن "مصر والسودان في حالة يرثى لها، ورقبة البلدين دون مبالغة تحت رحمة إثيوبيا، فهي من تمنع وتمنح الماء، وإذا حدث انهيار للسد تنتهي الدولتين فعليا".

ويختم بقوله: "هذا ملخص الوضع الكارثي الذي نسير إليه، ونسأل الله السلامة للدولتين وأن يتم تخليصهم من هذين النظامين اللذين قضيا على سيادتهما وأمنهما القومي".

"حجم الخطر" 
وبسؤاله حول احتمالات حجم الملء المحتمل ومدى تأثيره على حصتي مصر والسودان السنوية، يؤكد حافظ، أن "إجمالي حجم التخزين ببحيرة سد النهضة وصل حتى نهاية إكتمال الملء الرابع قرابة 41 مليار متر مكعب عند منسوب يعادل 620 فوق سطح البحر".

ويوضح أن "المتبقي يعادل (33 مليار متر مكعب) حتى يكتمل ملء البحيرة"، ملمّحا إلى أنه "لازال هناك 20 متر ارتفاع بخرسانة الممر الأوسط لتصل البحيرة لمنسوب الفيضان عند (640 مترا فوق سطح البحر)".

ويتابع: "يحق لإثيوبيا وفقا لجدول الملء الموقع عليه من الدولة المصرية، أن تستكمل الملء بالعام السادس أي 2024، حال تم حساب عام 2019، كسنة ملء فشلت إثيوبيا في تحقيقه، لكن لايزال من حقها اكمال الملء تماما خلال فيضان 2024".

غير أن الأكاديمي المصري، يعتقد، أنه "لن يحدث وفقا للتوازنات السياسية مع الإمارات، والتي شاهدناها بالملء الرابع هذا العام، وخفض إثيوبيا المنسوب المتفق عليه عند (625 مترا) إلى (620 مترا) فقط، ترضية لأبوظبي، الداعم الأول للسيسي، حتى لا يتسبب النقص الكبير بمياه النيل الأزرق الوارد لبحيرة ناصر، بإحراج السيسي بالانتخابات الرئاسية أمام الشعب".

ويضيف: "من المتوقع ألا تحجز إثيوبيا هذا العام كل تلك الكمية، ولربما تكتفي بحجز قرابة (20 مليار متر مكعب) بفيضان 2024، ثم (13 مليار متر مكعب) بفيضان 2025، وبذلك تكون أكملت الملء بـ(6 سنوات) ولكن دون الأخذ في الاعتبار عام 2019".

ومع ذلك يظل السؤال حاضرا: وماذا بعد الملء الخامس من أضرار قد تلحق بمصر؟


ويجيب حافظ بقوله: "وفقا للبرلماني الإثيوبي ومستشار وزارة الطاقة محمد العروسي، فإن إثيوبيا لا تريد الإضرار بمصالح مصر والسودان، وأنه من المتوقع بمفاوضات أديس أبابا نهاية الشهر الجاري، تقديم حكومة إثيوبيا عدة مشاريع إقليمية تستفيد منها الدول الثلاثة، ويحدث تعاون اقتصادي يعوض مصر عن العجز المتوقع".

ويبرز الخبير المصري أن "هذا الكلام وُضع على لسان العروسي، من قبل صندوق أبوظبي للاستثمار الذي يقف خلف مخطط ملء المنطقة الجغرافية بين سد النهضة والخرطوم بمشاريع زراعية استثمارية ممولة من أبوظبي، تستخدم فيها حصة مصر من النيل الأزرق لري تلك المشروعات".

ويشير إلى أن "أبوظبي تخطط لتحويل المنطقة الزراعية السهلة خلف سد السرج، وصولا للحدود السودانية الجنوبية، ومنها لولاية النيل الأزرق، لمنطقة عالمية لزراعة وصناعة قصب السكر".

ويلفت إلى أنه "جرى تقديم تلك المقترحات بجلسات سرّية عُقدت بالإمارات بداية العام الجاري، واضطرت مصر الانسحاب منها في آذار/ مارس الماضي، بعدما تبين لها تآمر أبوظبي على حصة مصر تحت مسمى استثمار (20 مليار دولار) بمشاريع زراعية مشتركة بين دول حوض النيل الأزرق".

"بداية سنوات العجاف"
وعن كميات المياه المحتمل وصولها للدولة المصرية من مياه النيل الأزرق بالعام المائي الحالي، يقول حافظ: "تعتبر 2023، بداية سنوات العجاف بشرق أفريقيا، والتي غالبا ما ينقص متوسط تدفقها قليلا عن المتوسط العام لتدفق النهر، والذي يعادل 48.5 مليار متر مكعب سنويا".

ويضيف: "لو أُحسن الظن بالمناخ هذا العام، فربما يصل التدفق لـ45 مليار متر مكعب فقط، ومن تلك التدفقات يتم خصم (20 مليار متر مكعب لزوم الملء الرابع) + (4 مليار لزوم تعويض عملية تجفيف الممر بشهر شباط/ فبراير 2023) + (3 مليار فواقد) + ( 8.5 مليار تخزين في السدود السودانية) بإجمالي خصم يصل لقرابة 35.5 مليار متر مكعب".

ويؤكد أنه "عندئذ يعادل المتبقي (45- 35.5= 9.5 مليار متر مكعب) قد تصل كلها لمصر، أو جزء منها، فمن المنتظر من منتصف كانون الثاني/ يناير المقبل، ألا يكون هناك أي منفذ للمياه من سد النهضة غير المنافذ السفلية والتوربينات المنخفضة، وكلها تأتي بكمية مياه تتراوح بين (80- 100) مليون متر مكعب يوميا".

وهو التدفق المعروف بالتدفق (البيئي) الذي يسمح بالحياة للكائنات النهرية بمجرى النيل، وغالبا ستحجز منه السودان أكبر قدر ممكن لرفع كفائة سدودها التي تعاني نقصا بإنتاج الكهرباء"، بحسب الخبير المصري.

ويختم بالقول: "من المتوقع ألاّ يزيد ما سوف يُضاف لبحيرة ناصر من تدفقات النيل الأزرق عن (4 أو 5) مليارات متر مكعب، ويتوقف الأمر على كم ستخزن السودان من مياه لزوم رفع كفاءة سدودها".