في طفولتِنا كان يُقال لنا: "إذا ضربَك زميلُك في الفصل الدراسي فلا تضربْه، ولكن اشتَكِه إلى (المِسْ)".
هكذا كانت مدرّسة الفصل (المس) بلقبها الإنجليزي الباقي من عهد الاستعمار العسكري لبلادِنا، تمثِّل السُّلطة المحايدة في أعيُن آبائنا، وفي أعيننا بالتبعية.
وهكذا يتصرّف العرب الآن بطَريقةٍ نصفِ واعيةٍ إزاء الاعتداء الإسرائيلي على غزة، بحيث تتّجه أعيُنُهم – ساسةً ومحكومين، عامّةً ونُخبةً مثقَّفةً – إلى الغَرب الأوروأمريكي، لائذين بإنسانيّتِه ومواثيق حقوق الإنسان التي تفتّقَت عنها العقلية الأوربية الراقية، لعَلّه يُوقِف العدوان الغاشم الذي لا يفرِّق بين هدفٍ عسكريٍّ ومستشفى، ويضع حدًّا لنزيف الدم العربي.
وفي هذا الاتّجاه وهذا اللِّواذ افتراضٌ ضمنيٌّ أنّ هذا الغربَ محايدٌ عادلٌ إزاء الصراع الدائر في منطقتنا المبتلاة، أي أنه يمثِّل (المِسْ) التي كنا نلوذ بها في طفولتنا.
في كتابها الصادر عام 1983 (
الصهيونية غير اليهودية: جذورها في التاريخ
الغربي)، والذي تُرجم إلى العربية وصدر ضمن سلسلة (عالَم المعرفة) عام 1986، تبحث الدكتورة ريجينا الشريف معضلةَ التأييد الكاسح الذي تحظى به "إسرائيل" من الولايات المتحدة وأوربا الغربية.
وهل السبب فعلًا ضغط التكتُّل "اللوبي" الصهيوني على دوائر صُنع القرار في الغرب؟ أم أن الحرص على تصويت الناخبين اليهود هو ما دفع رؤساء الولايات المتحدة، وكثيرًا جدًّا من أعضاء الكونغرس إلى استرضاء إسرائيل وتغليب كفّتها في صراعها مع العرب؟
الحَقّ أنّ الكتاب يبدأ بمثل هذه الأسئلة، لكن الدور لا يأتي على مناقشتِها مباشَرةً إلا في ختام الكتاب، وذلك أنّ الباحثة قد أوغلَت في الماضي وراء طموحها الاستقصائي، فاستعرضَت علاقة أوروبا بمسألة توطين اليهود في
فلسطين منذ القرن السادس عشر الميلادي، وصولًا إلى مَطلع ثمانينييات القرن الماضي.
هكذا تأخذنا الكاتبة عبر ثلاثمئة صفحة في رحلةٍ صادمةٍ مُحزنةٍ بقَدر ما هي كاشفة، والبحث الطويل موثَّقٌ بالمَراجع، وكل اقتباسٍ مُثبَتٌ بالسطر الذي نجدُه فيه من الكتاب أو الصحيفة أو الدوريّة المتخصصة التي رجعَت إليها ريجينا الشريف.
النتيجة التي تتبدّى بجلاءٍ من هذا الاستقصاء هي أنّ الإصلاح البروتستانتي المسيحي في أوروبا قد حوّل دفّة قراءة النبوءات التوراتية المتعلقة بعودة اليهود إلى وطنهم، من كَونِها تعني حدَثًا وقع في الماضي البعيد حين سمح قورش ليهود المنفى في بابل أن يعودوا إلى الأرض المقدسة، إلى كَونِها تعني عودةَ يهود الشتات في أطراف الأرض الأربعة في العصر الحديث إلى فلسطين، تمهيدًا للظهور الثاني للمسيح وبداية العهد الألفي السعيد الذي يَحكم فيه المسيحُ الأرضَ ألفَ عام.
كما نسخَ تأويلَ نبوءات المستقبَل المُشرق لـ"إسرائيل" من كونِها تنطبق على (إسرائيل الجديدة) التي تعني الكنيسةَ المسيحيةَ وشعبَها، فجعلَها تعني مستقبلَ العبرانيين المُحدَثين الذين رآهم ممثلو الإصلاح البروتستانتي امتدادًا طبيعيًّا لعبرانيي العهد القديم.
وإنّ القراءةَ القديمةَ هي تلك التي صاغَها وجسّدَها كتابُ "مدينة الرَّب" "De Civitate Dei" للقديس أوغسطين في بداية القرن الخامس الميلادي، والذي يُعَدّ تحفة اللاهوت الكاثوليكي.
أما القراءة البروتستانتية فقد أصرّ روادُها على أن تكون حَرفيةً بسيطةً، وهجروا التأويلات الرمزية والمجازية التي اقترنَت بالكاثوليكية.
تتتبّع المؤلفة التحول التدريجي في موقِف الأوروبيين من القراءة الجديدة (الإصلاحية) للكتاب المقدَّس ونبوءاتِه، من الرفض الذي يَرى فيها شكلًا من أشكال الهرطقة والبدعة اليهودية، إلى تشرُّب المجتمَع لهذه القراءة تمامًا وتغلغُلِها فيه حين نصِل إلى القرن التاسع عشر، لاسيّما أنّ أعمالًا أدبيةً بأقلام نخبة أدباء أوروبا قد ظهرَت في هذا القرن، تتغنى بأمجاد صهيون (إسرائيل القديمة) وتبكي ضَياع أُمّة اليهود وشتاتَها، أو تَخلقُ أبطالًا يهودًا باحِثين عن كيانِهم حتى يجدوه في العودة إلى أرض أسلافِهم في فلسطين، وكلُّها أعمالٌ أدبيةٌ لكُتّابٍ مسيحيين تشرّبوا الثقافة العِبريةَ ضمن ما تشرّبوه من إملاءات الإصلاح البروتستانتي.
هكذا نصطدِم برواية (دانييل ديروندا) للروائية الإنجليزية جورج إليُت التي كان لها أثرٌ كبيرٌ في صناعة صورة البطل الصهيوني من قبل تأسيس الحركة الصهيونية العالَمية، ونصطدم بإشاراتٍ إلى عودة اليهود إلى الأرض الموعودة في قصيدة "الفردوس المُستعاد" لجون مِلتُن، وفي ديوان "الألحان العِبرية" للورد بايرُن، إلى غير هذه الأمثلة.
ثمّ نترُك الأدبَ وإرهاصات الصهيونية المبكرة فيه إلى الحِراك السياسي، فنجِد أنّ الصهيونية قد بدأَت ميدانيًّا بوَصفِها حِراكًا سياسيًّا على أيدي مسيحيين بروتستانت، فيما كان اليهود يقِفون منها موقفًا متشككًا في البداية، إذ درجَ يهودُ أوروبّا على النظر إلى مسألة عودة "إسرائيل" على أنها مسألةٌ رُوحيةٌ لن تَحدث إلا بمعجزةٍ إلهيةٍ، لا بأيدي البشَر، كما كانوا يَنظرون إلى فكرة انبعاثِهم من كلِّ رُكنٍ في أوربّا إلى فلسطين باعتبارِها طَردًا من أوطانِهم التي اعتادوها إلى مكانٍ قاحلٍ بعيد.
هكذا نجِد أنّ أوليفر كرومويل في القرن السابع عشر قد اهتمّ بالسماح بعودة اليهود إلى إنجلترا، ربما بوَصفِها خطوةً على طريق عودتِهم مستقبَلًا إلى فلسطين، وإن لم يكن قد رأى لبلادِه دورًا في تلك العودة المستقبلية.
ونرى نابليون يدعو اليهود إلى حمل السلاح والاستيلاء على "إرثهم الشرعي من أجدادهم" كما سمّاه وهو على أبواب دمشق في حملتِه على سوريا عام 1799، حتى إنّ حاييم وايزمان أولَ رئيسٍ لدولة
الاحتلال قد قال عنه: "إنه أول الصهاينة الحديثين غير اليهود".
ثم إننا نجِد فلسطين تتحول إلى بؤرة اهتمام القوى الاستعمارية الأوربية في القرن التاسع عشر، حين تتصارع هذه القُوَى على ميراث الإمبراطورية العثمانية – رجُل أوربا المريض آنّذاك – فتخطو بريطانيا خطواتٍ واسعةً في سبيل الحيلولة دون توسُّع الإمبراطورية الروسية المُخيفة جنوبًا، بأن يُناصر رئيس وزراء بريطانيا پالمرستُن توطينَ اليهود في فلسطين التابعة للعثمانيين، ليصبح لبريطانيا مَن تحميهم داخلَ أقاليم الإمبراطورية العثمانية، مقابلَ أن يرعى اليهودُ مصالحَها فيما بعد.
ولمّا كانت فرنسا ترعى كاثوليك الدولة العثمانية، وروسيا ترعى الأرثوذكس في البلقان بعد انتصارها على العثمانيين عام 1828، فقد وجَّهَت بريطانيا أنظارَها - وعلى رأسها بالمرستُن – إلى اليهود، إذ لم يكن هناك مَن تحميهم بسببٍ من الدين المشترَك. وهنا تدخَّلَت السياسة والمصالح واتخذَت من الدين سِتارًا تعمل تحتَه.
لكن كاتبتَنا تمضي مستقبَلًا لتستكشِف الإرهاصات الحقيقية لوَعد بلفور، ابتداءً ممّا قبلَ تحرُّكات هرتزل الرئيس الأول للحركة الصهيونية.
واقتباسًا وراءَ اقتباسٍ نرى كيف نظر الصهاينة غيرُ اليهود – من صُنّاع القرار في بريطانيا ثم الولايات المتحدة على الأخَصّ - إلى العرب في فلسطين بوَصفِهم كَمًّا مهمَلًا، وهذا إذا تغاضَينا عن النظرة الأشدّ عدوانيّةً تجاهَ العرب والمسلمين.
فأمّا نظرةُ (الكَمّ المهمَل) فمثالُها قولُ بلفور في مذكراته "بالنسبة إلى سوريا وفلسطين وما بين النهرين": "ليس في نيتِنا حتى مراعاةُ مشاعر سكان فلسطين الحاليين، مع أن اللجنة الأمريكية تحاول استقصاءها."
وأما النظرة المُعادية في صراحةٍ، فمثالُها قولُ السيناتور الأمريكي هنري كابوت لودج رئيس لجنة العلاقات الخارجية بالكونغرس، الذي كان هو القوة الدافعة وراء تأييد الولايات المتحدة الرسمي عام 1922 لوعد بلفور، إذ قال في خِطابٍ ألقاه في بوسطن في ذلك العام:
"إنني لم أحتمل أبدًا فكرة وقوع القدس وفلسطين تحت سيطرة المحمديين. إن بقاءهما بالنسبة إلى اليهود، وبقاء الأرض المقدسة بالنسبة إلى كل الأمم المسيحية الكبرى في الغرب في أيدي الأتراك كان يبدو لي لسنواتٍ طويلةٍ وكأنه لطخةٌ في جبين الحضارة، ومن الواجب إزالتُها".
ختامًا، فإنه أمرٌ بالغ الصعوبة في الحقيقة أن نحاول تلخيص الكتاب أو تقديمَ فِقراتٍ تمثّل موضوعاتِه الأساسيةَ في مقالٍ قصيرٍ كهذا، غيرَ أنّ ما تَخلُص إليه المؤلفة هو أنّ مسألة تأييد الكيان الصهيوني المحتلّ في فلسطين ليسَت مسألة أصواتٍ يهوديةٍ انتخابيةٍ تمثل ضغطًا على صُنّاع القرار، فليس ذلك إلا محضَ أسطورةٍ، يبدو أننا اختلَقناها وابتلَعناها، فالأمر أعمق من ذلك بكثير، لاسيما في البيئتَين الأنغلوسكسونيتين البروتستانتيتين في بريطانيا وأمريكا، فهو تأييدٌ نابعٌ من عقيدةٍ متجذرةٍ في الوعي الجمعي للمواطنين الإنـجـليز والأمريكان. ويُضاف إلى هذه العقيدةِ النابعة من الصورة التوراتية لإسرائيل القديمة في أمريكا ما أسمَته كاتبتُنا "صورة التماثُل الذاتي"، وتعني بها أنّ قطاعًا كبيرًا من الأمريكان قد درجَ على أن يرى في اليهودي الذي غامرَ بالعودة إلى أرض فلسطين واستكشافها من جديدٍ صورةً للأنغلوسكسونيّ الذي خرج من بريطانيا قديمًا واستكشف أمريكا واستوطنَها وقدَّم إليها حضارةَ الغرب، وفي هذه الصورة العضوية يصبح العربُ أمّةً بائدةً متخلفةً ليس لديها ما تقدمُه، تمامًا كالهنود الحُمر. ويلخص هذه الرؤيةَ قولُ القسّ البروتستانتيّ جون هاينز خلال زيارته إلى فلسطين عام 1929:
"عندما قابلت فالِحي الأرض هؤلاء وتحدثتُ معهم لم أكن أفكر إلا في المستوطنين الإنـجـليز الأوائل الذين قَدِموا إلى شواطئ ماساتشوستس القاحلة، واستطاعوا أن يُرسوا قواعدَ جمهوريتنا الأمريكية الثابتة، وسط برد الشتاء في أرضٍ لم تُفلَح، وبين السكان المواطنين المناوئين لهم....." إلى أن يقول: "من الواضح أنّ المواطنين العرب الذين لا يقلّون عنادًا ووحشيةً عن الهنود الأمريكيين الحُمر لا يمكن إبعادُهم عن مسرح الأحداث".
كلمةُ أخيرة:
لقد مضى على صدور الكتاب في نسخته العربية سبعةٌ وثلاثون عامًا، ومن المؤكد أن مياهًا كثيرةً جرَت في نهر الأحداث والمعتقَدات والآراء.
لكننا رغم ذلك لا ينبغي أن "نُعيد اختراعَ العَجلة" كما يُقال! هل نتجاهل هذا التاريخ الطويل ونلتمس من الغرب الأوررأمريكي أن يتوقف فجأةً عن مناصرة "إسرائيل"؟ إن الكتاب الذي بين أيدينا يُرينا بوضوحٍ أنّ قراراتِ الساسة الرسميةَ في بريطانيا وأمريكا على الأقلّ لم تكُن رضوخًا لضغطِ جماعاتٍ واسعة النفوذ بقَدر ما كانت تعبيرًا عن ثوابتَ مستقرّةٍ في رؤية هؤلاء الساسة وفي تقاليد دُوَلِهم، كما كانت تعبيرًا عن الرأي العام لدى شعوبهم، وأنّ منبعَها عَقَدِيٌّ على نحوٍ صريحٍ، حتى إنّ الفكرة الصهيونية نفسَها – بمبادئها الأساسية المتمحورة حول استيطان اليهود في فلسطين - لَتُعَدُّ اختراعًا بروتستانتيًّا، لا يهوديّا!
وهذا المقال لا يدعو إلى قطيعةٍ تحاوُريّةٍ مع تلك القُوَى المساندة لـ"إسرائيل" رغم ذلك – رغم أنها تمثِّل بحَقٍّ الكيان الصهيونيَّ الأكبرَ، في مقابل دولة الاحتلال المزروعة بيننا، والتي تمثِّل الكيان الصهيونيَّ الأصغر – وإنما علينا ألا نعوِّل كثيرًا على قراراتِ الساسة في تلك الدُّوَل، وألا ننتظر تحوُّلًا جذريًّا في قَناعات شعوبها أو تغيُّرًا مفاجئًا في اتجاهات الرأي العامّ هناك.
أي أننا لا ينبغي أن نكون جادِّين في شكوانا إلى (المِس)! إنّ الصراعَ سياسيٌّ نَفعيٌّ، لا جدالَ في هذا، إلا أنّ عنصرًا دينيًّا قويًّا يغذيه، وإذا ما أنكرناه رغمَ ما يسوقُه هذا الكتاب من حُجَجٍ بيّنةٍ، فإمّا أننا ندفن رؤوسَنا في الرمال، وإما أننا نخافُ أن نستدعيَ إلى خِطابِنا – سواءٌ أكان خطابًا شعبيًّا أم مثقَّفًا، رسميًّا أم غيرَ رسميٍّ – مفرداتِ الإسلام ورؤاه ونبوءاتِه، بوصفِها طرفَ المعادَلة الدينية الذي يخصُّنا، أي أننا واقعون أسرَى لخَوفٍ – أزعمُ أنه خوفٌ مرَضيٌّ – من الإسلام، وإن كان لهذا حديثٌ آخَر.