منذ وقع الزلزال الأخير بالمغرب بآلامه
ومآسيه، تعالت بعض الأصوات تفسره على أنه عقاب من عند الله، وأن كل بلاء يقع إنما
هو عقاب على الذنوب والمعاصي المرتكبة. وهذا الفهم موجود مع الأسف وشائع في
ثقافتنا وفهمنا للدين. وهو ناتج في رأينا عن سوء فهم لنصوص القرآن والسنة، وسوء
وعي بطبيعة
الكوارث وحقيقتها.
والمروجون لذلك الخطاب يقعون على الأقل في
ثلاث خطايا.
الأولى ـ التألي على الله والتقول عليه،
بادعاء أنه عاقب بهذا الزلزال، وهذا لا يكون إلا في علم الله، فكيف عرفوه؟ إضافة
إلى كونه كما سنرى يعارض عددا من الأدلة الشرعية الثابتة، والمعرفة البشرية
الواضحة.
الثانية ـ ذلك يسيء إلى آلاف الشهداء
والجرحى الذين لا ذنب لهم في وقوع الزلزال، بل هو قدر يجب أن يواسوا فيه ويخفف
عنهم، لا أن يصدموا بخطاب يجعلهم هم أو من حولهم مسؤولين عليه.
الثالثة ـ أن ذلك يصرف عن واجب الوقت، أو
يشوش عليه، وهو المواساة والتضامن والإسعاف والإسراع إلى الإغاثة وتضميد الجراح.
كما أنه قد يصرف عن إعطاء العلوم المرتبطة بالكارثة مثل الجيولوجيا وعلم الزلازل
مكانتها الضرورية في الوقاية منها.
الزلزال آية من آيات الله
روى البخاري أن النبي صلى الله عليه وسلم
قال: “إن الشمس والقمر آيتان من آيات الله لا يخسفان لموت أحد ولا لحياته، فإذا
رأيتم ذلك فاذكروا الله” وفي رواية “فَإِذَا رَأَيْتُمْ ذَلِكَ فَادْعُوا اللَّهَ،
وَكَبِّرُوا وَصَلُّوا وَتَصَدَّقُوا”.
فأمام الكوارث التي يتعرض لها الإنسان هناك
موقفان أشار إليهما الحديث.
الموقف الأول موقف موضوعي، دنيوي، يقضي بكون
تلك الآيات أقدارا ربانية، لها سننها وعواملها، وتحتاج إلى علم ومعرفة، وأخذ
بالأسباب والاحتياطات. فهي آيات كونية تصيب المسلمين وغير المسلمين، والمتدينين
وغير المتدينين دون تمييز؛ ولا تختلف في إصابة الناس باختلاف عقيدتهم أو تدينهم أو
عرقهم أو جنسهم أو غيرها.
الموقف الثاني موقف إيماني، ويقتضي استثمار
الفرصة لتذكر عظمة الله والواجب في حق الله، واللجوء إلى الذكر والدعاء والعمل
الصالح.
إن الكوارث الطبيعية التي وقعت في الآونة الأخيرة، مثل زلزال المغرب وفيضانات ليبيا، حملت آلاما كثيرة، لكنها تحمل في طياتها آمالا أيضا. وهي أقدار الله الجارية المطلوب من المؤمن أن يستفيد منها العبرة والتواضع والشعور بعظمة الله، ويتعامل معها في الوقت نفسه بأقصى درجات الموضوعية والعلمية. فبذلك يحوز خيري الدنيا والآخرة.
ومن الضروري التمييز بين الموقفين حتى لا
يغلو الإنسان في النظر إلى أحدهما على حساب الآخر. وهو نظير التمييز بين التوكل
والتواكل. فالأول يوازن بين الأخذ بالأسباب مع الثقة بالله والرضا بقضائه وقدره.
بينما الثاني لا يهتم بالأسباب أو يستهين بها.
وهذا الموقف المتوازن هو أحد معنيي الآية
الكريمة: “وَمَا نُرْسِلُ بِالْآيَاتِ إِلَّا تَخْوِيفًا” (الإسراء/ 59)، أي
تنبيهًا للناس وتحذيرًا من معصية الله وتحريضًا على التوبة. فيكون الإرسال هنا
إرسالا كونيا قدريا، فإذا اقتضت سنة الله في كونه أن تحدث هذه الكوارث، فالواجب
على المؤمن أخذ العبرة والشعور بعظمة الله والإسراع إلى الطاعة.
وقد ارتبك كثيرون ولم يستطيعوا الحفاظ على
التوازن بين مستويي المعادلة. ففريق نظر إلى الجانب القدري الدنيوي، وهو عالم مغر،
استطاع العلم تحقيق اختراقات كبيرة فيه، وتفسير العديد من الظواهر، ومكن من التحكم
في كثير منها. لكن انتهى الأمر بهذا الفريق – عندما غيب النظر إلى جوانب الحكمة
وراء الظواهر، والتعرف على خالقها ـ إلى مادية مغرقة في الوسائل، متجردة عن
الإنسانية، ذاهلة عن الحكم الثاوية وراء الابتلاءات. وفريق نظر إلى الجوانب
المعنوية والإيمانية وأهمل الجانب القدري الدنيوي، فوقع في التخلف والعجز الدنيوي.
من البلاء ما هو اصطفاء
وعلى عكس ما يظن كثيرون فإن البلاء الذي
يصيب الإنسان ليس كله نوعا واحدا، بل هو أنواع ومستويات. ونوعه الأول هو البلاء
الذي هو اصطفاء مثل البلاء الذي يسلط على الأنبياء وأتباعهم. ومنه الحديث الصحيح:
“أشد الناء بلاء الأنبياء ثم الأمثل فالأمثل، يبتلى الرجل على قدر دينه”.
فالابتلاءات المسلطة على الرسل قبل بعثتهم، هو تدريب وترقية لمستوى تلقي الرسالة،
وبعد البعثة إكرام لهم ورفع لدرجاتهم. فهذا بلاء ليس عقابا على ذنوب.
ومن البلاء ما هو ابتلاء وامتحان
النوع الثاني من البلاء، وهو عموم ما يقع
للمؤمن من البلاء من المنظور الإيماني إنما هي ابتلاء وامتحان. وذلك مصداق قوله
تعالى: “وَنَبْلُوكُم بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً، وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ”.
فأحداث الحياة وتحدياتها وتقلباتها، وما يتعرض له المؤمن من مصائب وأمراض وكوارث
وأزمات هي امتحان له.
فإن أحسن التصرف إيمانا وعملا كان له الحسنى
والثواب عند الله، وإن أساء التصرف باطنا أو ظاهرا، كان له العقاب الديني/
الأخروي. وهذا المعنى يستنبط من قوله تعالى: “وإلينا ترجعون”. ومنه قول ابن عباس
عن الآية “وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْر”: “نبتليكم بالشدة والرخاء، والصحة
والسقم، والغنى والفقر، والحلال والحرام، والطاعة والمعصية، والهدى والضلالة.
وعن قوله تعالى: "وَإِلَيْنَا
تُرْجَعُون" يقول ابن عباس: وإلينا يردّون فيجازون بأعمالهم، حسنها وسيئها.
فالدنيا دار تكليف لا دارُ جزاء، والآخرة داء جزاء لا دار عمل.
ومن المنظور الإيماني أيضا، على المؤمن أن
يبحث عن الحكم الموجودة وراء كل ابتلاء بخير أو بشر. وأولها شعور الإنسان بضعفه
وعجزه أمام أقدار الله في ملكه، والعمل على التحقق بالعبودية لله، محبة وثقة وطاعة.
والبلاء تطهير للمؤمن من ذنوبه، وفي الحديث:
“لا يَزالُ البَلاُء بالمُؤمِنِ في نَفسِه ومالِهِ ووَلَدِه حتَّى يَلقَى اللهَ
وما عليه من خَطيئة”. وأعلى درجاته الشهادة التي كتبها الله لمن مات بسبب إحدى
الكوارث الطبيعية كما في الحديث: “الشهداء خمسة: المطعون، والمبطون، والغريق،
وصاحب الهدم، والشهيد في سبيل الله”. فالذي قضى في الزلزال أو بسبب الفيضان شهيد
بنص الحديث، فلا يستقيم أن يكون الزلزال أو الفيضانات عقابا من عند الله.
وهذا البعد الإيماني يجب ألا يحجب البعد
الموضوعي/ الدنيوي، والذي يقتضي استثمار المعرفة البشرية لفهم الظواهر والوقاية
منها والتخفيف من آثارها. فالبعدان لا يتعارضان، بل يتكاملان. وهو ما فعله عمر بن
الخطاب لما وقع طاعون عمواس بالشام وهو في طريقه إلى هناك. فاختلف الصحابة هل يدخل
الشام وفيه الطاعون، أم يرجع حتى لا يصاب به هو ومن معه. فاستقر
رأيه على الرجوع.
ولما قال له أبو عبيدة بن الجراح: أفرارا من قدر الله؟ قال عمر: “لو غيرك قالها يا
أبا عبيدة، نعم نفر من قدر الله إلى قدر الله”. فهو فرار من قدر المرض إلى قدر الوقاية
منه.
ومن البلاء ما هو عقوبة
وهذا هو المستوى الثالث، وهو أن البلاء قد
يكون عقوبة إما شرعية دينية، وإما كونية قدرية. وكثيرون يقعون في أخطاء عدم
التفريق بينهما، وعدم تمييز طبيعة كل منهما.
أما العقوبة الشرعية الدينية فهي أن يعاقب
الإنسان على ذنب ببلاء يصيبه. وهذا لا يمكن أن يدعى على إنسان معين إلا بنص صريح.
وذلك مثل النبي يونس بن متى الذي عوقب لكونه ترك قومه مغاضبا دون إذن من ربه. وهو
قوله تعالى في سورة الأنبياء: "وذا النون إذ ذهب مغاضبا فظن أَن لن نقدر
عَليه فنادىٰ في الظلمات أَن لّا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظّالمين".
أما في غير ما هو منصوص عليه، فإن الأصل
الذي تشهد له الآيات والأحاديث الوافرة هو أن عقوبة الذنب تكون في الآخرة لا في
الدنيا. والنصوص التي يستدل بها البعض على أن الذنب سبب للبلاء إما ضعيفة لا تقوم
بها حجة، وإما أولت على غير معناها الصحيح، بالخلط بين العقوبة الدينية والعقوبة
الكونية القدرية.
ومن أمثلة ذلك أن أبا هريرة لما روى الحديث:
"إن الميت يعذب ببكاء أهله عليهِ”، أنكرت عليه عائشة أم المؤمنين، لأنه يناقض
قوله تعالى: “ولا تزر وازرة وزر أخرى". وقد ذهب العلماء مذاهب شتى في فهم
الحديث، لكن الراجح أن العذاب هنا ليس هنا العقاب على الذنوب يرتكبها الإنسان، بل
هو العذاب بمعنى التألم الذي هو من جنس الآلام الدنيوية. يقول ابن تيمية: "وقد
أنكر ذلك طوائف من السلف والْخلف واعتقدوا أَن ذلك من باب تعذيب الْإنسان بذنب
غيره فهو مخالف لقوله تعالى (ولا تزر وازرة وزر أخرى)"، ثم يقول: "وأما
تعذيب الميت: فهو لم يقل: إن الميت يعاقب ببكاء أهله عليه، بل قال: يعذّب،
وَالعذَاب أعم من الْعقاب فإن الْعذاب هو الْألم، وليس كل من تألم بسبب كان ذلك
عقابا له على ذلك السبب، فإن النبي صلى اللَّه عليه وسلم قال: (السفر قطعة من
العذاب يمنع أَحدكم طعامه وشرابه)، فسمى السفر عذابا وليس هو عقابا على ذنب”.
فكثير من الألفاظ مثل المعصية والذنب والكسب وغيرها ترد في النصوص الشرعية بالمعنى
القدري/ الدنيوي، فيحسبها البعض أنها بالمعنى الشرعي الديني، فيقع الخطأ في فهمها.
ما وقع من عمليات التضامن والتعبئة وبث الوعي، والاستعداد لتجاوز الآثار وبناء مستقبل أفضل، نقاط قوة في مجتمعاتنا. ورحمة الله على شهدائنا وعجل بشفاء الجرحى
أما العقوبة الكونية القدرية، فهي العقوبة
وفق سنن الله وقوانينه في الكون وفي الاجتماع البشري. وهذا النوع كثير في القرآن
والسنة، بل من مقاصد القرآن الكريم التنبيه إلى قيام الكون وقيام الاجتماع البشري
على سنن مضبوطة مستقرة: "ولن تجد لسنة الله تبديلا ولن تجد لسنة الله تحويلا"،
وأن على المسلم التسلح بالعلم بتلك السنن ليسخرها لعبادة الله ولخير البشرية
وسعادتها.
والعقوبة الكونية تكون عندما يخالف الإنسان
مقتضيات تلك السنن، إما جهلا أو عجزا أو ظلما، فتصيبه الآفات والمصائب التي
يقتضيها ذلك. فإذا تعرض الإنسان لأسباب المرض مرض، وإذا أخذ بأساليب الوقاية منه
سلم. وهكذا كل جوانب الحياة. والعلم هو الذي يجعل الإنسان قادرا على تسخير تلك
السنن، وبقدر تسلحه به يتفوق على غيره. وهذا يحتاج إلى عقلية علمية صارمة، قادرة
على اكتشاف السنن وفهمها وتسخيرها.
وقد اهتم القرآن بالتفصيل في السنن
الاجتماعية، التي تهدي لصعود الأمم والحضارات، أو لضعفها وانهيارها. وقد توقف
عندها المفسرون، وتوسعت فيه دراسات متخصصة عديدة، لكننا نؤكد هنا فقط على أن أغلب
ما يستدل به القائلون بربط البلاء بالذنب من هذا النوع.
وأكتفي في هذه العجالة بمثال واحد، وهو
الوارد في الحديث الذي يقول فيه الرسول صلى الله عليه وسلم: "لا تقوم الساعة
حتى يقبض العلم وتكثر الزلازل، ويتقارب الزمان، وتظهر الفتن، ويكثر الهرج ـ وهو
القتل، وحتى يكثر فيكم المال فيفيض". فالحديث يشير إلى مشاكل اجتماعية
وسياسية تقرب الأمة من الانهيار. والراجح أن المقصود بالساعة، ساعة الأمة، وليس
الساعة الكبرى المؤدية لفناء العالم.
فكل العلامات المذكورة يمكن أن توجد في أمة
من الأمم، أو حضارة من الحضارات، فتؤدي إلى ضعفها أو إلى انهيارها. والراجح في
قوله: “وتكثر الزلازل”، أنها زلازل المجتمعات، مثل الاضطرابات السياسية
والاجتماعية، لا الزلازل الطبيعية. فهذا الذي يجعل ذكرها يكون في انسجام مع باقي
علامات الانهيار المذكورة في الحديث. وقد ذكر بعض العلماء هذا المعنى فعلا في شرح
الحديث. ومنه قول ابن رجب الحنبلي مثلا: "ويمكن حمله على الزلازل المعنوية،
وهي كثرة الفتن المزعجة الموجبة لارتجاف القلوب".
وختاما، إن الكوارث الطبيعية التي وقعت في
الآونة الأخيرة، مثل زلزال
المغرب وفيضانات
ليبيا، حملت آلاما كثيرة، لكنها تحمل
في طياتها آمالا أيضا. وهي أقدار الله الجارية المطلوب من المؤمن
أن يستفيد منها العبرة والتواضع والشعور بعظمة الله، ويتعامل معها في الوقت نفسه
بأقصى درجات الموضوعية والعلمية. فبذلك يحوز خيري الدنيا والآخرة.
وإن ما وقع من عمليات التضامن والتعبئة وبث
الوعي، والاستعداد لتجاوز الآثار وبناء مستقبل أفضل، نقاط قوة في مجتمعاتنا. ورحمة
الله على شهدائنا وعجل بشفاء الجرحى.. آمين.
*رئيس الحكومة المغربية السابق