قبل بضعة أيام، سقطت طائرة خاصة شمالي موسكو وتحوّلت إلى قطع متناثرة
بعد اصطدامها بالأرض. وفي ظل التساؤلات التي أثيرت حول هويّة الطائرة والركّاب،
أعلنت السلطات الروسية أنّ زعيم مرتزقة
فاغنر الروسية يفغيني بريغوجين ومجموعة من
الشخصيات العسكرية القيادية المقرّبة منه كانوا على متنها وأنّهم قُتلوا جميعاً في
الحادث. وفقاً لهيئة الطيران الروسية، فإنّ الطائرة الخاصة كانت تعود لبريغوجين،
وأنّه و7 من المقربين منه بالإضافة إلى طاقم الطائرة البالغ عدده 3 أفراد، قتلوا
جميعاً في الحادث.
جاء هذا الحادث بعد حوالي شهرين على التمرّد الذي قادته فاغنر واستطاعت
خلاله السيطرة على أجزاء واسعة من
روسيا على الحدود مع أوكرانيا أثناء عملية الزحف
التي أعلنت عنها باتجاه العاصمة موسكو احتجاجاً على طريقة تعامل وزارة الدفاع
الروسية وبعض المسؤولين الروس معهم. وقد أدّى هذا التمرّد إلى تقويض صورة روسيا
والقوات الأمنيّة الروسية لكنّه أذى كذلك بشكل كبير ومباشر إلى زعزعة صورة وموقع ودور الرئيس
بوتين.
انتهى التمرّد الذي شغل روسيا والعالم حينها في 25 يونيو في ما بدا
أنّه تسوية تمّ التوصل إليها بين الأطراف المعنيّة بوساطة من الرئيس البيلاروسي
ألكسندر لوكاشينكو وضمانة من الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، وفقاً للرواية الرسمية
الروسية حينها. وقد قضت التسوية بإيقاف التمرّد المسلّح، وانتقال قائد مليشيات
فاغنر والطبّاخ السابق للرئيس بوتين إلى بيلاروسيا، وإسقاط التهم الجنائية ضده،
والسماح لعناصر فاغنر ممّن لم يشتركوا في التمرّد بالتعاقد مع وزارة الدفاع
الروسية للانضمام إلى صفوف القوات المسلحة، وإلغاء الملاحقة القانونية بحقّهم،
وعودة قوات فاغنر إلى معسكراتها. وقد اختار العديد من أعضاء فاغنر الانتقال إلى
بيلاروسيا مع إتمام التسوية.
وبالعودة إلى موضوع تحطّم الطائرة الخاصة، فإنه لم يتم ذكر السبب الدقيق
الذي أدّى إلى انفجارها ـ حتى لحظة كتابة المقال ـ سواءً أكان ذلك مؤامرة أو
عُطلاً فنيّاً أو خطأً بشريّاً، علماً بأنّ بعض التكهّنات كانت قد تحدّثت عن عدّة
سيناريوهات من بينها تعرّض الطائرة لصاروخ موجّه. ونظرًا لتورط مجموعة فاغنر في
صراعات دوليّة مختلفة وعلاقاتها بالكرملين، فإن من الممكن أن تكون عدّة جهات خلف
الحادث خاصة إذا ما كان مدبّراً.
يمكن اعتبار عملية الاغتيال بمثابة إعادة إنتاج لصورة الرجل القوي في الكرملين، وهي بهذا المعنى تؤكّد على سلطة وقوّة ومركز بوتين الذي شكك البعض مؤخراً بمصيره هو الآخر سيما بعد غرقه في وحل أوكرانيا في عملية فاشلة ترافقت فيما بعد بتمرّد داخلي قامت به ميليشيا الفاغنر، ووضعت بوتين حينها في موقف حرج ليس أمام الشعب الروسي فحسب، وإنما أمام العالم أيضاً.
لكنّ هذه التكهّنات لا تعني استبعاد تورّط السلطات الروسية الرسميّة
نفسها في الحادث، خاصّة أنّ ملابسات تحطّم الطائرة تعيد إلى الأذهان قضية التمرّد
سيما أنّها لم تبرد بعد ولم يمض الكثير من الوقت على انتهائها والتسوية الغريبة
التي تمّ التوصل إليها، حيث توقّع كثيرون اغتيال بريغوجين وعدد من قادة فاغنر بعد
التمرّد. مقتل زعيم فاغنر وعدد من قادة المليشيا المذكورة يمكن اعتباره إلى حد
كبير عملية انتقام كلاسيكية.
في التاريخ القديم يوجد الكثير من القصص الحقيقية التي يقوم بها حاكم
ما بالتخلص من مجموعة من القادة بعد دعوتهم إلى مأدبة أو اجتماع. الفارق الوحيد
أنّ الحاكم كان يجاهر بفعلته حينها كي ينشر الذعر في قلوب خصومه وأعدائه، لكن الآن
يتم كتمان هذا الأمر ليس فقط للتشويش على
الرأي العام وإنما للتهرب أيضاً من تحمّل
المسؤولية والعقاب، مع الحرص كذلك على أن تصل الرسالة المبطّنة إلى الخصوم، وهي
النهاية "المأساويّة" لكل من يتحدّى السلطة المركزية.
وفي جرعة دراميّة، تم إنشاء نصب تذكاري مؤقت في سانت بطرسبرغ، حيث
تجمع مقاتلو فاغنر وأفراد من الجمهور لتكريمهم. هناك تساؤلات بالطبع عن ما إذا كانت
فاغنر ستسعى للانتقام لمقتل قادتها أو ما إذا كان فلاديمير بوتين سيضع جيش الظل
هذا تحت سيطرة الكرملين بشكل كامل وأكثر صرامة الآن. ويبدو أنّ الاحتمال الأول
أقلّ واقعية فيما الاحتمال الثاني أكثر ترجيحاً.
ومع مقتل بريغوجين ومجموعة من قادة فاغنر، فإنه يصبح مستقبل المليشيا
الروسية موضع شك. إذ من الممكن أن تؤدي الصدمة عملياً إلى انقطاع الاتصال بين جسم
المليشيا ورأس
القيادة الذي تمّ فصله، وهو ما سيؤثّر بدوره على عمليات فاغنر
وانتشارها في مناطق مختلفة. وقد يعزّز هذا الانفصال من سيطرة الكرملين ليس على
المليشيا فحسب وإنما على عملائها والجهات التي تتواصل معها لأنّ الكرملين سيصبح
الجهة المخوّلة بالاتصال حينها، وسيحاول هؤلاء العملاء التقرّب من موسكو بدلاً من
التقرب من المليشيا نفسها.
وفي هذا السياق، يمكن اعتبار عملية الاغتيال بمثابة إعادة إنتاج
لصورة الرجل القوي في الكرملين، وهي بهذا المعنى تؤكّد على سلطة وقوّة ومركز بوتين
الذي شكك البعض مؤخراً بمصيره هو الآخر سيما بعد غرقه في وحل أوكرانيا في عملية
فاشلة ترافقت فيما بعد بتمرّد داخلي قامت به مليشيا الفاغنر، ووضعت بوتين حينها
في موقف حرج ليس أمام الشعب الروسي فحسب، وإنما أمام العالم أيضاً.
على أي حال، لن نضطر إلى الانتظار طويلاً حتى نرى تداعيات عملية الاغتيال
على المليشيا نفسها، وعلى عملياتها في الخارج وعلى علاقتها مع الكرملين، علاوة
على وضع بوتين وديناميات صراع القوّة والنفوذ الجاري في روسيا على خلفية الحرب
الدائرة في أوكرانيا.