في التاسع عشر من أيار/مايو الماضي قام ولي عهد المملكة العربية السعودية بفك عزلة رئيس النظام السوري بشار
الأسد بعد 12 سنة من تجميد عضوية
سوريا في الجامعة العربية بسبب القمع الوحشي للشعب السوري بعد انطلاقة ثورته بدعوته لحضور قمة
جدة، وجاء قرار عودة النظام السوري إلى الجامعة في 7 أيار/ مايو بعد مشاورات عدة بين مصر، والأردن، والإمارات، والعراق على أعقاب زيارة الملك عبد الله إلى واشنطن لإقناع الإدارة الأمريكية بضرورة الانفتاح على نظام الأسد، التي لم تعارض شريطة أن لا يتم خرق العقوبات المفروضة عليه حسب قانون «قيصر».
حجج الدول العربية التي دفعت بعجلة
التطبيع استندت على أمنيات في تحقيق الاستقرار في سوريا، والحد من صنع وتهريب المخدرات وخاصة مادة كبتاغون التي أصبحت سوريا أول مصنع ومصدر لهذه المادة إلى دول الجوار، وخاصة إلى دول الخليج العربي الغنية حيث أشارت إحصائيات جمركية حول العالم أن منذ العام 2016 تم مصادرة أكثر من مليار حبة كبتاغون، وما لم يصادر يفوق هذا الرقم بكثير، إذ ذكرت أكثر من وسيلة إعلامية غربية وخبراء اقتصاد أن هذه التجارة تدر على ميزانية النظام السوري بمعدل 6 مليارات دولار سنويا، وربما أكثر، دون أن يعبأ نظام الأسد بتدمير مجتمعات بأكملها من جراء إدمان بعض مكوناتها على المخدرات. أمنية المطبعين الأخرى تكمن في تطلع الدول المستقبلة للاجئين السوريين وخاصة لبنان والأردن، وتركيا بأن يفتح التطبيع الباب أمام عودتهم إلى سوريا، فوجود أعداد كبيرة من
اللاجئين السوريين في دول الجوار- 3.5 مليون في تركيا، و1.5 مليون في لبنان، و700 ألف في الأردن أصبح عبئا من الصعب تحمله حسب ما ترى هذه الدول لأسباب مختلفة وخاصة بعد انخفاض كمية المساعدات التي خصصتها بعض الدول والمنظمات الإنسانية لدعم الدول المستضيفة. والأمنية التي دفعت الإدارة الأمريكية لقبول التطبيع مع نظام تمارس عليه عقوباتها، هو إمكانية إبعاد النظام السوري عن إيران ومطالبته بسحب ميليشياته من سوريا. كما أن الدول المطبعة تمنت انخراط النظام السوري في عملية سياسية حسب خطة «خطوة مقابل خطوة « استنادا إلى القرار الدولي رقم 2254 التي قدمها المبعوث الأممي إلى سوريا غير بيدرسون واعتمدها الأردن وأيدها وأقنع نظراءه العرب بها. لكن هل هذه الأمنيات تحقق ولو جزء بسيط منها بعد أشهر ثلاثة من سير بشار الأسد على السجادة الحمراء لدى استقباله في جدة لحضور القمة العربية؟
لا يمكن للدول المطبعة وعلى رأسها دول الخليج إخفاء امتعاضها من انتظار الإرهاصات الأولى لنية تغيير نظام الأسد نهجه التي لا بوادر لها في أفق السياسة الأسدية تتجاوب مع ما قدم له من حضور على المستوى العربي على أقل تقدير.
ولا النظام نفسه الذي عبر عن خيبته وكان يمني النفس بعد عملية التطبيع والوعود المقطوعة من بعض الدول بتدفق المليارات الخليجية لدعم الاقتصاد السوري المنهار، وإعادة الإعمار. ففيما يتعلق بتحقيق الاستقرار في سوريا فإن الأحداث الجارية على الساحة السورية تؤكد عكس ذلك، فما أن تم الاتفاق ولم يجف حبره بعد عادت الطائرات الروسية وقوات النظام وميليشيات إيران لقصف مناطق المعارضة وقتل المدنيين وتدمير منازلهم، واعتقال المئات وقتل العشرات تحت التعذيب، وفي منطقة حوران قُتل حوالي 15 شخصاً في محافظة درعا الجنوبية. وفي منتصف تموز/يوليو، حاصرت قوات النظام قرى في طفس، التي اتُهمت بمنح معارضي النظام ملجأ، قبل هدم 18 منزلاً كعقاب (على الطريقة الإسرائيلية بالتعامل مع الفلسطينيين) بل وتصاعد التوتر العالي بين روسيا وأمريكا في الأجواء السورية بما ينذر للأسوأ، وتشير بعض التقارير إلى أن واشنطن قد زودت قاعدتها في منطقة التنف السورية بطائرة «إف 35» تحسبا لأي طارئ، أو تحضيرا لمخطط ما في المنطقة. ومن الطرف الآخر قامت موسكو بمناورات عسكرية ليلية مشتركة مع قوات الأسد كرسالة موجهة إلى واشنطن عن الجاهزية لمواجهة أي مخطط تنوي القيام به. من جانب آخر كشفت بيانات المصادرات لحبوب الكبتاغون المخدرة في المنطقة أن سيل التهريب لم ينقطع أبدا، بل ربما زاد تدفقه فخلال الأشهر الثلاثة الأخيرة وصلت قيمة الصادرات الموقوفة إلى مليار دولار. بل إن التصنيع وصل إلى أوروبا حيث اكتشفت ألمانيا مصنعا لإنتاج الكبتاغون وكميات من الحبوب تصل قيمتها إلى 20 مليون دولار، وحوالي 3 طن من المواد الكيميائية التي تدخل في تركيب المواد المخدرة. وتشير المؤشرات الاقتصادية إلى أن الاقتصاد السوري سجل تراجعا كبيرا بعد أن هبط سعر الليرة السورية مقابل الدولار إلى مستويات غير مسبوقة (وصل سعر الدولار إلى 13 ألف ليرة سورية أي أنها فقد 77 بالمئة من قيمتها وتراجع دخل الفرد العادي إلى 8 دولارات شهريا) مع أنه من المفروض أن يكون عكس ذلك مع الإعفاءات الأمريكية والأوروبية من العقوبات بعد الزلازل الذي هز تركيا وشمال سوريا، لكن الفساد المستشري، وسوء الإدارة المالية، وعدم استثمار النظام هذه الظروف التحسينية بالطريق الصحيح أدى إلى مفعول عكسي.
وحول إنهاء الوجود الإيراني في سوريا، أو حتى التخفيف منه، فقد ضرب النظام عرض الحائط أمنيات المطبعين وقام بتمتين علاقاته مع نظام الملالي أكثر من ذي قبل، إذ قام وزير خارجية النظام فيصل المقداد بزيارة إلى طهران مؤخرا يرفقه وفد اقتصادي كبير حيث شهدت هذه الزيارة توقيع اتفاقيات جديدة بين الطرفين، إضافة إلى الاتفاقيات التي وقعها الرئيس الإيراني إبراهيم رئيسي بالزيارة التي قام بها إلى دمشق (تم التوقيع على ثماني مذكرات تفاهم، شملت التعاون في مجالات الزراعة والسكك الحديدية والطيران إضافة إلى التعاون في مجال الاتصالات وتقانة المعلومات والقطاع النفطي، فضلا عن الاعتراف المتبادل بالشهادات البحرية، واتفاق تصفير التعرفة الجمركية بين البلدين). وعلى المستوى الميداني فإن إيران تصاعد من تسليح ميليشياتها في سوريا، وقد قام قائد الحرس الثوري إسماعيل قاآني بزيارة غير معلنة لسوريا حيث تفقد قواته في مناطق مختلفة من سوريا، ونقل موقع المنار عن قاآني قوله إن: «أعداء إيران وسوريا يعرفون جيدا أن المبادرة في المنطقة بيد محور المقاومة» لكنه لم ينته من كلامه حتى قصفت إسرائيل مجددا مكان تواجد قواته في محيط دمشق، وتشير المطارات والمعابر على الحدود العراقية السورية إلى حركة مستمرة للطائرات والشاحنات الإيرانية وهذا ما يدفع دولة الاحتلال إلى القيام بغاراتها الصاروخية والجوية لضرب قواعد ومخازن الأسلحة الإيرانية.
وأكد مراقبون أن سبب جمود التطبيع العربي يعود لعدم تنفيذ دمشق بنود المبادرة العربية التي قادتها السعودية والأردن بشكل خاص، ولم يف الأسد بوعده فيما يخص تهريب المخدرات وتوقيف تصنيعها، ولم يلتزم بالحل السياسي واعتبر نفسه منتصرا وعلى المعارضة أن تنصاع له.
فضلا عن وجود انقسام عربي حول الالتزام بتطبيق القرار الأممي الخاص في الحل بسوريا – 2254 – من عدمه. وتفيد بعض الأنباء الواردة من سوريا أن السعودية أوقفت ترميم سفارتها في دمشق. وهذا دليل قاطع على أن الأنظمة المطبعة قدمت هدية مجانية لنظام يأخذ ولا يعطي.
(عن صحيفة القدس العربي)