من الأسباب العديدة للغضب الأمريكي على بطرس غالي، ومعاقبته بالحرمان من ولاية ثانية أمينا عاما للأمم المتحدة، أنه جاهر بانتقاد الدول الغربية على اهتمامها البالغ بحرب يوغسلافيا (حرب الصرب في البوسنة) مع عدم اكتراثها بالحروب التي كانت تعصف بأفريقيا، وخصوصا في الصومال ورواندا، حيث أنه شجب ازدواجية معايير أمريكا وبريطانيا وفرنسا التي كانت تسارع، في مجلس الأمن، إلى الموافقة على إرسال قوات أممية لحفظ السلام في ما سماه بـ«حروب الأغنياء» في أوروبا بينما تتجاهل حروب الفقراء واليتامى في أفريقيا. ولولا واجب التحفظ لربما ذهب الدبلوماسي المصري إلى حد القول بأن الدول الكبرى لا تحفل في الواقع إلا بحروب الرجل الأبيض.
وبالمثل، فإن من الأسباب العديدة لعدم اتخاذ الدول الأفريقية اليوم موقفا واضحا من الحرب الروسية-الأوكرانية، أو لإعلانها موقف حياد رسمي يبدو في معظمه أشبه بانحياز فعلي إلى روسيا المعتدية، أن هذه الحرب تحتل صدارة اهتمامات الدول الغربية إلى حد يقرب من الهوس وأن الحكومات الغربية أنفقت عليها، ولا تزال، عشرات مليارات الدولارات، وأنها استقبلت مئات آلاف
اللاجئين الأوكرانيين بالترحاب الرسمي والشعبي؛ ولكن هذه الدول ذاتها لا تكترث للحروب والنزاعات المستمرة في أفريقيا منذ سنين ولا تبدي أي تعاطف مع ضحاياها الكثر، ناهيك عن إغاثتهم، بل إن شعوب الغرب وحكوماته تصاب بالهلع لمجرد سماع نبأ مقدم اللاجئين الأفارقة على القوارب المتهالكة التي كثيرا ما تودي بركابها إلى الهلاك.
ولهذا يبذل الغرب كل ما في وسعه لمنع وصول هؤلاء اللاجئين إلى سواحله، مثلما تشهد بذلك حادثة تجاهل خفر سواحل اليونان صيحات النجدة التي كانت تطلقها السفينة التي غرقت آخر الأمر بركابها الستمائة، ومثلما تشهد الحمّى الدبلوماسية التي انتابت جورجيا ميلوني ومارك روته وأورسولا فندرلاين فإذا بهم يحشدون كل وسائل التأثير والترغيب لحمل تونس على الانخراط النشيط في سياسة وقائية، أو ردعية، ترمي لمنع هذه التدفقات البشرية، علما أن تونس هي الضحية الأولى لهذه التدفقات أصلا، بينما هي الآن في وضع اجتماعي واقتصادي هش يجعل من المستحيل على أبنائها وبناتها المثقلين بجبال من هموم المعيشة اليومية سلوك مسلك السماحة والأريحية وكرم الضيافة الذي سلكوه عام 2011 عندما استقبلوا مئات آلاف اللاجئين الليبيين إبان الثورة الشعبية على نظام العقيد. وقد صرحت متحدثة بأن الاتحاد الأوروبي يأمل التوصل إلى تفاهم مماثل مع مصر والمغرب تتقي به أوروبا مزيدا من موجات اللاجئين.
ولا مراء أن هذه الانتقادات وجيهة من المنظور الأخلاقي. إلا أنها تغفل حقيقة سياسية بسيطة هي أن الشعوب والحكومات لا تهتم في المقام الأول إلا بما يحدث في بلدانها أو في جوارها وإقليمها. وعادة ما يجري الإعلام نفس المجرى، فالبعيد عن العين جغرافيّا بعيد عن العقل سياسيّا. والواقع المشهود أيضا أن الحرب البوتينية ليست مجرد حرب إقليمية، بل إن لها نتائج تتعلق بالأمن الغذائي والطاقيّ يشمل أثرها معظم الإنسانية، فضلا عن أنها تنذر باحتمال اندلاع حرب نووية أو عالمية.
وقد برزت من تطورات هذه الحرب مسألتان. الأولى معروفة نسبيا، وهي أن بوتين لم يحقق إلا عكس ما كان يرمي إليه: كان يظن أنه سيمنع توسع
الناتو بابتلاع أوكرانيا، فإذا به يستفز الجيران في فنلندا والسويد استفزازا مجانيا كانت نتيجته أن الناتو توسع بالفعل بلوغا إلى حدود روسيا ذاتها. وهكذا أنقذ بوتين الناتو من مشكلة وجودية وبعث فيه روح الفتوّة والعنفوان فمنحه عمرا جديدا قد يصير مديدا، هذا بعد أن ظن الكثيرون أن قد انتهى دوره… وبعد أن ذهب ماكرون عام 2019 إلى حد إعلان موت الناتو بسكتة دماغية!
المسألة الثانية لم تكن في الحسبان. وهي أن الناتو قد دخل في ديناميكية جديدة ربما تؤول به إلى أن يتحول إلى منظمة عالمية مفتوحة لكل المترشحين! وليست هذه الفكرة جديدة، فقد أطلقت منذ عام 2006، عندما دعا كل من جيمس غولدغاير وآيفو دالدر (الذي صار من بعد سفير أمريكا لدى الناتو) إلى مراجعة المعاهدة التأسيسية، التي تحصر عضوية الناتو في الدول الأوروبية، بهدف فتح باب الترشح لكل الديمقراطيات التي تشاطر الناتو قيمه السياسية والعسكرية. وأول هذه الدول هي أستراليا، والبرازيل، واليابان، والهند، ونيوزيلاندا، وجنوب أفريقيا وكوريا الجنوبية.
(القدس العربي)