23 يوليو.. والوعي الذي ذهب ولم يعد..

بعد مرور عشرين عاما على ثورة يوليو (أي في 1972م) كتب الأستاذ توفيق الحكيم رحمه الله كتابه الشهير "عودة الوعي"، يقدم فيه اعتذارا إلى قرائه وإلى نفسه وإلى التاريخ.. من تأييده لها وللضباط الذين جاءوا لحكم البلاد بها وعبرها.. توفيق الحكيم عاش 89 سنة (1898- 1987م)، ولد في عصر الخديوي عباس حلمي الثاني، وتوفي في عصر الرئيس الأسبق حسني مبارك..

وبذلك يكون قد عاش في حكم خديوي وسلطان (حسين كامل) وملكين (فؤاد وفاروق) وأربعة رؤساء (نجيب وناصر والسادات ومبارك).. وترك للمكتبة العربية نحو 100 مسرحية و62 كتابا والكثير من المقالات والحوارات التي أثارت جدلا وخلافا واسعا..

"عودة الوعي" كان بمثابة الصرخة الفصيحة كما يقال، قال "الحكيم" في مقدمته: هذه السطور ليست تاريخا، إنما هي مشاهد ومشاعر استرجعت من الذاكرة، ولا تستند إلى أي مرجع آخر للفترة ما بين هذين التاريخين.. من: الأربعاء 23 تموز/ يوليو 1952 إلى 23 تموز/ يوليو 1972.

الكتاب كما قال الحكيم، كان انطباعات وتساؤلات، ودعوة إلى النقاش الواسع لمعرفة الحقيقة عن فترة مهمة من تاريخ مصر، لكن ردود الفعل على صدور الكتاب كانت عنيفة للغاية، وبالغة الشراسة والقسوة والتجريح الشخصي والأخلاقي بل وكل أنواع التجريح.. وكان اليسار وأنصار الدولة القديمة على رأس المهاجمين بالطبع

* * *

الكتاب كما قال الحكيم، كان انطباعات وتساؤلات، ودعوة إلى النقاش الواسع لمعرفة الحقيقة عن فترة مهمة من تاريخ مصر، لكن ردود الفعل على صدور الكتاب كانت عنيفة للغاية، وبالغة الشراسة والقسوة والتجريح الشخصي والأخلاقي بل وكل أنواع التجريح.. وكان اليسار وأنصار الدولة القديمة على رأس المهاجمين بالطبع..

وسنقرأ الراحل أ. محمد عودة (ت: 2006م) كتابا للرد على الحكيم.. ودون أي مراعاة لفارق القيمة والمكانة وحتى العمر، فكان رده بالغ العنف والشراسة وأسماه "الوعي المفقود"، وكتب على غلاف الكتاب: دفاع عن الشرف السياسي والثقافي لمصر! وقال في مقدمته: لا يليق بكاتب أن ينغمس في عصر إلى آخره ويعيش كل أحداثه ويبارك كل إنجازاته، ثم يخرج بعد نهايته وبعد قيام عصر آخر يرى أنه نقيضه ليعلن أنه سقط وأنه فقد وعيه خلال كل العصر.

* * *

الأستاذ عودة كان يعلم القسوة المفرطة التي كان يتعامل بها النظام مع معارضيه أو من يصنفهم في تعداد معارضيه.. وقد بدأ باللواء محمد نجيب نفسه؛ قائد حركة الضباط، والدكتور السنهوري باشا؛ رئيس مجلس الدولة وقتها، وهما كما نرى من كبار المقامات والهامات، وأصحاب تاريخ ضخم يحصنهم من اجتراءات الحقد والانتقام الأعمى.. فماذا سيكون الحال مع من هم أصغر..

* * *

وقد كان رد توفيق الحكيم على من هاجموه في تساؤلهم عن سبب سكوته وقت حدوثها.. بأنهم يعلمون علم اليقين السبب في ذلك..! فقد كانت أي معارضة تكلف الإنسان حياته وحياة أولاده وكل مَن يتصل به..

وحتى إذا صح الفرض بأن السكوت عن الجريمة كان ذنبا.. فما قولهم عن الذي ارتكب الجريمة؟ أتترك من ارتكب الجرائم وتحاسب من سكت عنها؟.. حاكموا الاثنين على الأقل.

رغم أن الرجل لم يصح عليه وصف "السكوت" وقت صولة الدولة الناصرية على رقاب الناس، فقد كتب عن ظاهرة خنق الحريات وتعطيل القانون عام 1960م -أميز صفات مصر وقتها- كتب ذلك في مسرحيته الشهيرة "السلطان الحائر"، يوضح فيها وجوب احترام القانون والحرية، والابتعاد عن استعمال السيف والعنف

رغم أن الرجل لم يصح عليه وصف "السكوت" وقت صولة الدولة الناصرية على رقاب الناس، فقد كتب عن ظاهرة خنق الحريات وتعطيل القانون عام 1960م -أميز صفات مصر وقتها- كتب ذلك في مسرحيته الشهيرة "السلطان الحائر"، يوضح فيها وجوب احترام القانون والحرية، والابتعاد عن استعمال السيف والعنف، وعبارته المشهورة في المسرحية أن "السيف يفرضك ولكنه يعرضك.. أما القانون فإنه يحرجك ولكنه يحميك".. الخطر الذي يمكن أن يتعرض له سيكون من السيف الذي يظن أنه يحميه.

وفي عام 1966 م كتب أيضا عن ظاهرة "القلق" الذي تفشي في المجتمع إلى حد أن أصبح المجتمع المصري كأنه يعيش بغير عمود فقرى، مجتمع رخو وهلامي ومتعفن، لا يصلح لمواجهة الأخطار الخارجية.. محذرا من عواقب أي "مغامرة عسكرية"، فكتب مسرحيته الشهيرة "بنك القلق"، ولم يؤخذ بطبيعة الحال بهذه الكتابات وهذه التحذيرات، إلى أن وقعت "هزيمة كل يوم" يونيو 1967م.

وأنا شخصيا أرى أنه ليس غريبا ولا عيبا أن يغير مفكر رأيه في حاكم أو سلطان، خاصة إذا تبين له استبداده ورغبته المرضية في التفرد بالحكم والقرار..

إن أفضل ترياق نملكه لمواجهة الأسطورة التاريخية الكذوبة التي غالبا ما تصنع لتبرير مصالح مطلوبة.. هو أن نكشفها ونرفع عنها الغطاء الوهمي من طبقات الكذب المتراكم.. على الأقل لمنع تكرارها وإعادتها إذا صحت مقولة أن التاريخ مغرم بإعادة نفسه..

* * *

أفضل ترياق نملكه لمواجهة الأسطورة التاريخية الكذوبة التي غالبا ما تصنع لتبرير مصالح مطلوبة.. هو أن نكشفها ونرفع عنها الغطاء الوهمي من طبقات الكذب المتراكم.. على الأقل لمنع تكرارها وإعادتها إذا صحت مقولة أن التاريخ مغرم بإعادة نفسه

ونموذج المفكر الفرنسي شاتو بريان (ت: 1848م) مع نابليون بونابرت (ت: 1821م) نموذج شهير.. وقد كان لا يكف عن كيل المدح له واصفا إياه بأنه "أحد كبار رجال التاريخ"، وحين تبين له أطماعه قال عنه: "ذلك الغريب الذي غدر بالثورة ليبني مجده الخاص.. فصار سيدا على الفرنسيين، بانيا ذلك المجد"؛ ابتعد عنه وكتب كتابه الشهير "بونابرتي وآل البوربون"..

* * *

ماذا قال توفيق الحكيم في هذا الكتاب الذي أثارهم ويجعلهم في هذه الحالة من الهياج؟ دعونا نقرأ فقرات من الكتاب، ونتأمل حاضرنا الصعب في ضوء ماضٍ أليم.. بل هو مخزن كل الآلام.. يقول:

"أذكر يوم جاءني صاحبي الصحفي اللامع صديق عبد الناصر بنسخة من كتاب "فلسفة الثورة" مُهدى من مؤلفه الزعيم.. بعد قراءته فكرت وقلت: كيف يصح لسياسي أن يكشف ورقه للعالم هكذا؟!

والجواب بسيط.. فلم تكن هناك أوراق استراتيجية ولا وسياسة ولا عالم ولا كل هذا الكلام الضخم، المسألة كانت بسيطة للغاية.. فقط كانت لونا من الاحتيال الماكر على الجماهير في الصحف والإعلام".

وحدث أن اطلع الحكيم على مقال في جريدة فرنسية حلل فيها أستاذ تاريخ فرنسي كتاب فلسفة الثورة وبيّن ما فيه من أحلام وآمال وتصورات تكاد تشبه الإمبراطورية الواسعة للدول العربية والأفريقية، التي تنتظر الزعيم أن يؤلفها.

ويقول في موضع آخر: "قابلت رجلاً من أهل الريف أعرفه، وسألته عن سبب وجوده في القاهرة، فذكر أن الاتحاد الاشتراكي أحضره وزملاءه في القطارات باستمارات سفر للاحتشاد في استقبال الرئيس عبد الناصر عند عودته من الخارج، وأنهم أعطوه ورقة مكتوبا فيها ناصر.. ناصر.. ناصر يا زعيم الأمة العربية.. وهتافات نحو ذلك.

كيف يكون الاستقبال "شعبيا" كما يقال في العادة؟.. كنت أظن أن الشعبية تنبع فقط من القلوب وبتلقائية.. أو حتى من صور الأماني والوعود والأوهام والأكاذيب، ولكني ما كنت أظن حتى تلك اللحظة، أنها يُمكن أيضا أن تصنع وتؤلف تأليفا، وتوزع لها أوراق هتاف كأنها نوتة موسيقية للغناء..!!".

"لم يكن من الممكن عقلاً ولا منطقا أن نصدق بسهولة أن جيوشنا يمكن أن تُهزم في بضعة أيام، لقد لبثنا الأعوام وهم يروون عنها الأعاجيب.. إلى أن اتصل صديق بالتلفون منتصف ليل الخميس ليخبرني بأن مصر قبلت وقف إطلاق النار فأفقت قليلاً: كيف تقبل مصر ذلك وهي منتصرة؟!".

* * *

".. وتوفي عبد الناصر بعد ثلاث سنوات من الهزيمة، ولا ندرى كيف أمكنه أن يعيشها.. فاقترحت إقامة تمثال له في ميدان بالقاهرة، فجاءتني خطابات محبذة متأثرة مثلي بالعاطفة، وجدت من بينها خطابا يقول فيه صاحبه إنه موافق على إقامة التمثال، ولكنه يرى أن يكون مكانه ليس في القاهرة بل في تل أبيب! لأن إسرائيل لم تكن يوما تحلم بأن تبلغ بهذه السرعة هذه القوة العسكرية ولا أن تظهر بهذا التفوق الحضاري إلا بفضل سياسة عبد الناصر!.."..

"انزع عن الناس أوهامهم تنزع عنهم سعادتهم" كما قال لنا الأديب النرويجي الشهير هنريك أبسن (ت: 1900م) من خلال مسرحية الشهيرة "البطة البرية".. حيث يعيش أبطال المسرحية مجموعة "أكاذيب" تحولت إلى مجموعة "أوهام" أنتجت "سعادة" كاذبة.. وما أن نُزِعت تلك الأوهام من حياتهم حتى انهارت سعادتهم الكاذبة..

كل ما حاوله المفكر الكبير توفيق الحكيم وقتها هو أن يكسر نافذة على "الوعي الذي ذهب وغاب".. لكن النافذة للأسف لا تكفي لعودته.

twitter.com/helhamamy