بقدر
ما خلفت الحرب الجارية بين القوات المسلحة ومليشيا الدعم السريع مآسٍ إنسانية
كبيرة على الشعب
السوداني، فإنها كشفت كذلك حجم الارتباك الأمريكي في السودان،
وأبانت للسودانيين مقدار الضعف والحيرة لدولة، طالما تخيّل السودانيون مقدرتها على
التأثير في قضاياهم والمساهمة في بناء مستقبلهم. وبما أن الحروب كاشفة للمواقف، فقد
تأكد بما لا يدع مجالا للشك أن الولايات المتحدة الأمريكية مرتبكة جدا في تعاملها
مع الأزمة السودانية، ولا تتوفر على سياسة واضحة يمكن التعويل عليها. ولعل هذا الاكتشاف
يساهم في إيقاظ كثير من الذين لا زالوا في أحلامهم الوردية، بأن أمريكا تمتلك زمام
الأمور وبإمكانها تحقيق آمالهم، كما يرجى أن تشجع هذه الحقيقة أطراف الأزمة
السودانية على الاعتماد على إرادتهم الوطنية الخالصة لحل مشاكلهم، دون الاعتماد على
الآخرين.
ولم
يكن هذا الارتباك جديدا في التعامل مع السودان، إذ بدأ منذ نهايات عهد الرئيس
السابق باراك أوباما، مع انطلاق الحوار بين الدولتين بعد عقود من القطيعة والتنافر،
فقد استقرت السياسة الأمريكية على نهج التنافر والعداء ضد السودان، ولذلك حين فرضت
عليها حقائق الواقع ضرورة التواصل مع السودان، صعب عليها الانتقال إلى ثقافة
التقارب والتعاون.
وعلى
الرغم من أن ذلك الحوار قد أدى في النهاية إلى رفع اسم السودان من قائمة الدول
الراعية للإرهاب، وشطب
العقوبات المتنوعة المفروضة عليه، بعد التغيير الذي قضى
بسقوط نظام الرئيس السابق عمر البشير في العام 2018، إلا أن البنية التحتية التي
تأسست طوال سنوات القطيعة بين المؤسسات يصعب تفكيكها بين ليلة وضحاها، وظل بعضها
يواصل ذات السياسات القديمة في التعامل مع السودان، خاصة في وزارة الخارجية التي
ظلت تشكل بؤرة من بؤر العداء للسودان طوال فترة النظام السابق.
على الرغم من أن ذلك الحوار قد أدى في النهاية إلى رفع اسم السودان من قائمة الدول الراعية للإرهاب، وشطب العقوبات المتنوعة المفروضة عليه، بعد التغيير الذي قضى بسقوط نظام الرئيس السابق عمر البشير في العام 2018، إلا أن البنية التحتية التي تأسست طوال سنوات القطيعة بين المؤسسات يصعب تفكيكها بين ليلة وضحاها، وظل بعضها يواصل ذات السياسات القديمة في التعامل مع السودان، خاصة في وزارة الخارجية
تراجع
الدور الأمريكي في السودان:
والمحيّر
حقا في قصة العلاقة بين البلدين، أن السودان لا يمثل أهمية استراتيجية للولايات
المتحدة الأمريكية كمصر مثلا أو المملكة العربية السعودية، ومع ذلك ظلت توليه
أهمية كبيرة وتضعه على لائحة أولوياتها حين يتعلق الأمر بالإجراءات التأديبية وفرض
العقوبات على الدول، وطوال عهد البشير، كانت تنظر للسودان على أنه دولة مارقة يجب
إعادتها لـ"الحظيرة".
ولكن
التطور الأبرز الذي حدث بعد صعود ترامب للبيت الأبيض ،وتبنيه سياسة التجاهل
لأفريقيا عموما؛ هو ظهور لاعبين جدد أكثر تأثيرا في المشهد الأفريقي، حيث استطاعت
الصين أن تكون الشريك التجاري الأول لأفريقيا، وبلغ حجم تجارتها في العام 2022
حوالي 282 مليار دولار، بينما أدت سياسات ترامب إلى تراجع حجم التجارة إلى 41
مليار دولار فقط في العام 2018، بعدما كانت 100 مليار في العام 2008. ومؤخرا أعلن
وزير الخارجية أنتوني بلينكن أن حجم التجارة مع أفريقيا ارتفع إلى 80 مليار دولار
في العام 2022، كما أن روسيا أعادت تخطيط سياستها تجاه أفريقيا وتستثمر حاليا في
أكثر من بلد أفريقي، حيث تعمل على توسيع نفوذها على حساب الولايات المتحدة الأمريكية
وفرنسا.
وبينما
تحتفظ الصين باستثماراتها في النفط السوداني، وتعمل روسيا على زيادة حجم التبادل
التجاري مع السودان، تهمل الولايات المتحدة الأمريكية السودان كمجال للتجارة والاستثمار، وتركز فقط على الجانب السياسي وفرض العقوبات (لا توجد حاليا أي اتفاقيات تجارية
سارية مع أمريكا، وحجم التبادل التجاري ضعيف جدا، في حدود 50 مليون دولار، 80 في
المئة لصالح الولايات المتحدة الأمريكية) وكيل وزارة التجارة السودانية..
عادت إدارة
بايدن لتستأنف السياسة الأمريكية التقليدية في السودان، ولكنها فوجئت بمتغيرات
كبيرة، هي سبب هذه الربكة في نظرنا، فبجانب التمدد الروسي في السودان طوال سنوات ترامب
وتغلغله بصورة هادئة في الشأن السوداني، برزت قضية التطبيع مع إسرائيل في السياسة
الداخلية السودانية كعامل مهم في توجيه السياسة الأمريكية في السودان.
فبينما
يميل الإسرائيليون بصورة براغماتية إلى العسكر الذين قادوا عملية التطبيع معهم
وينشطون عمليا معهم، تسعى بعض الدوائر المؤثرة في البيروقراطية الأمريكية إلى التحالف
مع المدنيين من قوي الحرية والتغيير، حيث ترى فيهم أملا لتنفيذ أجندتها المتعلقة
بدعم التحول الديمقراطي وتمكين الأقليات في العالم العربي، وتتركز هذه الدوائر في
وزارة الخارجية والكونغرس، بينما تتعامل وزارة الدفاع وCIA والبيت الأبيض بصورة أكثر واقعية مع الملف السوداني والمكون العسكري.
هذا
التنازع هو الذي جعل موقف الولايات المتحدة الأمريكية متأرجحا منذ سقوط النظام
السابق في نيسان/ أبريل من العام 2019، وظهر بصورة أكثر وضوحا بعد قرارات الخامس
والعشرين من تشرين الأول/ أكتوبر 2021 التي أصدرها قائد الجيش، بينما طائرة المبعوث
جيفري فيلتمان لم تغادر الأجواء السودانية؛ بعد زيارة وُصفت وقتها بأنها لدفع عجلة
التحول الديمقراطي.
تيقن قطاع عريض من السودانيين أن أولويات الحكومة الأمريكية ليست هي ذات الشعارات المعلنة، إذ ظلت تعلن الموقف وضده في أكثر من قضية. فبينما كانت تصر على دعم الانتقال الديمقراطي وتفكيك الجيش، كانت قيادة الأفريكوم تطور علاقاتها مع الجيش وتصرح برغبتها في توسيع التعاون العسكري بين البلدين، وفي الوقت الذي ينشط فيه سفيرها في الخرطوم تحت ذريعة دعم الديمقراطية والقوى المدنية، يصرح ذات السفير بعدم القبول بتنظيم أي انتخابات في الوقت الحالي (لأنها ستعيد الإسلاميين)!!
وترددت
الحكومة الأمريكية كثيرا لوصف ما جرى بالانقلاب العسكري، وهو ما حدا بالسفيرة
ميشيل غافين لانتقاد موقف الإدارة الأمريكية (كان رد فعل الولايات المتحدة مثبطا
للآمال وأكثر إرباكا)، بينما جاء مقال روبي غريمر، مراسل شؤون الديبلوماسية والأمن
القومي لمجلة فورين بوليسي المؤثرة، أكثر وضوحا في التنازع بين المؤسسات الأمريكية
(ردة فعل سلبية وغضب بين الديبلوماسيين والمسؤولين في واشنطن، الذين شعروا أن
الإدارة الأمريكية قوَّت الجنرالين وسط الأزمة الحالية، وفاقمت التوترات وهي تدفع باتجاه
حل سياسي، وتجاهل القوى المدنية الراغبة في التحول الديمقراطي)..
والسبب
الثاني للارتباك الأمريكي، هو تراجع النفوذ الأمريكي في المنطقة العربية لصالح دول
إقليمية استثمرت في السودان في السنوات الأخيرة، وباتت الولايات المتحدة الأمريكية
لا تستطيع اتخاذ أي قرار حاسم في المسألة السودانية بمعزل عن حلفائها الإقليميين
المملكة العربية السعودية والإمارات العربية المتحدة أو مصر. ولأن أجندة هذه الدول
ومصالحها متقاطعة أحيانا، فإن أمريكا تسعى إلى خلق حل توفيقي يجمع بين مصالح
حلفائها المتباينة، وهو ما يظهر الموقف الأمريكي في النهاية بصورة مرتبكة وغير
متماسكة..
ما الذي
تريده أمريكا من السودان؟
كان
أمل شريحة كبيرة من السودانيين وفي مقدمتهم تحالف قوى الحرية والتغيير المجلس
المركزي، أن تطلع الولايات المتحدة الأمريكية بدور كبير بعد سقوط النظام السابق،
ولكن سرعان ما خاب أملهم حين رأوا أن السياسات القديمة ذاتها تطبق على السودان.
فقد تأخرت تسمية سفير في السودان لمدة ثلاث سنوات بعد سقوط النظام السابق، ولم تكن
الصدمة الأكبر في عدم مد يد العون الاقتصادي لحكومة حمدوك، وهي تترنح تحت تأثير
الفشل جراء سياساتها الاقتصادية القاسية، ولكن جاءت الطامة الكبري حين أصرت
الولايات المتحدة الأمريكية على أخذ أكثر من 300 مليون دولار من الخزينة السودانية
الخاوية ثمنا للإزالة من قائمة الدول الراعية للإرهاب.
هنا
تيقن قطاع عريض من السودانيين أن أولويات الحكومة الأمريكية ليست هي ذات الشعارات
المعلنة، إذ ظلت تعلن الموقف وضده في أكثر من قضية. فبينما كانت تصر على دعم الانتقال
الديمقراطي وتفكيك الجيش، كانت قيادة الأفريكوم تطور علاقاتها مع الجيش وتصرح
برغبتها في توسيع التعاون العسكري بين البلدين، وفي الوقت الذي ينشط فيه سفيرها في
الخرطوم تحت ذريعة دعم الديمقراطية والقوى المدنية، يصرح ذات السفير بعدم القبول
بتنظيم أي انتخابات في الوقت الحالي (لأنها ستعيد الإسلاميين)!!
العبرة التي يمكن استخلاصها من الانخراط الأمريكي الطويل في القضايا السودانية، هي أنها لا تريد أن تبني هذه العلاقات على قاعدة المصالح المشتركة للعلاقات الثنائية، ولكنها تريد أن تكون في وضع الذي يفرض الشروط على الجانب السوداني في قضاياه الداخلية، مثل قضايا السلام وحقوق الأقليات الدينية والحريات العامة، كما أنها ولتقديرات تخصها تريد إبقاء حالة النزاع في البلاد لأطول فترة ممكنة.
وحتى
بعد اندلاع الحرب الحالية، لم تغير الحكومة الأمريكية هذه السياسة المربكة
والمرتبكة، حيث كان جل اهتمامها في الأسابيع الأولى للمعارك، هو محاصرة الوجود
الروسي في المنطقة، الأمر الذي فُهم منه أنها لا تهتم بالمأساة الجارية، إلا في
حدود خدمة مصالحها، خاصة بعدما سحبت بعثتها الديبلوماسية من الخرطوم، وانخرطت بعد
ذلك مع المملكة العربية السعودية في الوساطة بين الطرفين، ولكنها بدلا من التركيز
على الحوافز، قامت بفرض عقوبات على الطرفين، في أغرب مقاربة لأي عملية وساطة يمكن
أن تكون بين أطراف متنازعة. وهذا ليس شيئا جديدا في تعامل واشنطن مع الخرطوم، فقد
فعلت نفس الشيء في مفاوضات نيفاشا 2005، ومفاوضات أبوجا بخصوص دارفور بعد ذلك.
إن
العبرة التي يمكن استخلاصها من الانخراط الأمريكي الطويل في القضايا السودانية، هي
أنها لا تريد أن تبني هذه
العلاقات على قاعدة المصالح المشتركة للعلاقات الثنائية،
ولكنها تريد أن تكون في وضع الذي يفرض الشروط على الجانب السوداني في قضاياه
الداخلية، مثل قضايا السلام وحقوق الأقليات الدينية والحريات العامة، كما أنها
ولتقديرات تخصها تريد إبقاء حالة النزاع في البلاد لأطول فترة ممكنة، وهي الخلاصة
التي توصل إليها مركز دراسات غرب آسيا من خلال بحث بيئة النزاع في السودان، الذي
يرى أن الرؤية الأمريكية تقوم على تحفيز بيئة النزاع عبر الدعاية السلبية والتحريض
وتعطيل عمليات بناء الثقة بين الأطراف المختلفة والتحكم بالوساطات والوسطاء، وكل
ذلك من أجل محاصرة النفوذ الصيني والروسي المتزايد في أفريقيا، وتطوير الحضور
العسكري الأمريكي الإسرائيلي للتأثير على التوازنات في البحر الأحمر.
ولذلك، فإنه من المستبعد جدا أن تكون للتدخل الأمريكي نتيجة إيجابية لصالح الحلول
المستدامة في السودان.