بعيدا عن تقييم أداء السياسات الخارجية للدول العربية والإسلامية، فإن ما صدر عن عدد منها مؤخرا من إدانات صريحة لحرق
المصحف الشريف في
السويد تطور إيجابي لا يتكرر دائما. هذا مع التأكيد أن التنديد وحده لا يكفي، كما لا يكفي استدعاء سفراء السويد من قبل وزارات الخارجية لإبلاغهم امتعاض المسلمين مما جرى.
هذه المرة برزت ظاهرة جديرة بالاهتمام، تتلخص بحدوث هبّة شعبية غاضبة ضد جريمة حرق
القرآن بالإضافة للمواقف الرسمية، واحتجت حكومات عدد من الدول الإسلامية من بينها تركيا والإمارات والأردن والمغرب وإيران على حرق المصحف، ودعا الأزهر الشعوب الإسلامية إلى مقاطعة المنتجات السويدية؛ ردًّا على «تكرار الانتهاكات غير المقبولة تجاه المصحف الشريف»، ووصف تلك الانتهاكات بأنها «استفزازات لجموع المسلمين تحت لافتة حرية الرأي والتعبير الزائفة». ودعا مكتب المرجع الديني السيد علي السيستاني السويد لـ«اتخاذ خطوات فاعلة بمنع تكرار أمثاله، ودفع الدول إلى إعادة النظر في التشريعات التي تسمح بوقوعها، وتدعو إلى تثبيت قيم التعايش السلمي بين أتباع مختلف الأديان والمناهج الفكرية، مبنيا على رعاية الحقوق والاحترام المتبادل بين الجميع». وأعربت منظمة التعاون الإسلامي عن إدانتها الشديدة «لقيام أحد المتطرفين بحرق نسخة من المصحف الشريف أمام المسجد المركزي بالعاصمة السويدية ستوكهولم»، ودعت لاجتماع طارئ هذا الأسبوع لاتخاذ إجراءات مناسبة.
وهذه ليست المرة الأولى التي يُستهدف فيها كتاب الله بالحرق أو التمزيق في السويد وفي دول أوروبية أخرى، ومن المؤكد أن غياب الموقف الرادع من قبل الدول العربية والإسلامية ساهم في تكرار هذه الحوادث، التي يُتوقع حدوثها بين الحين والآخر مع استمرار غياب الموقف السياسي والدبلوماسي الرادع. إنه استخفاف ليس بالقرآن فحسب، بل بأتباعه؛ أي إن ما يقرب من ملياري مسلم يعيشون على هذا الكوكب لا يعادلون شيئا في نظر الحكومات التي تسمح باستهداف القرآن او الرسول عليه أفضل الصلاة والسلام، أما التذرع بمقولة «احترام حرية التعبير» فهو غير واقعي وليس صادقا. فهل كانت حكومة السويد ستسمح رسميا أو عن طريق القضاء لمجموعة من الأشخاص بحرق علم المثليين؟ أو تمزيق نسخة من التوراة او الإنجيل؟ فإذا كانت الدول الغربية تتجه لتجريم انتقاد سياسات الاحتلال الإسرائيلية بتصنيفها ضمن «معاداة السامية»، فلماذا لا تجعل استهداف الإسلام ومقدساته جرما؟ لماذا سمحت الحكومة السويدية بتنظيم التجمع الذي كان حرق القرآن هدفه المعلن؟ ففي أول أيام عيد الأضحى، استيقظ المسلمون على مقطع فيديو يظهر فيه شاب وهو يمزق نسخة من المصحف، ويضرم النار فيها عند مسجد ستوكهولم المركزي، بعد أن منحته الشرطة السويدية تصريحا بتنظيم الاحتجاج إثر قرار رسمي. ذلك المقطع أثار غضبا واسعا عبر مواقع التواصل الاجتماعي في جميع الدول العربية، واستنكر مغردون سماح السلطات في السويد القيام بهذه الأعمال، التي تؤجج مشاعر المسلمين بينما يحتفلون في أول أيام عيد الأضحى. فهل هذه هدية السويد للمسلمين؟ وما الذي اقترفه المسلمون بحقها ليستحقوا هذه المعاملة؟ وما القيمة الأخلاقية او الإنسانية التي ستنجم عن حرق نسخة من كتاب مقدس، يعتقد أتباعه أنه منزّل من السماء وأنه يتجاوز حدود الجغرافيا والتاريخ والجنس واللون، ليخاطب الناس جميعا بلغة إيمانية خالصة؟ أليس حرق نسخة المصحف أمام مسجد ستوكهولم المركزي دعوة لصراع ديني يقضي على المنجزات البشرية الحديثة، ومنها مقولات «حوار الأديان» و«التعدد الثقافي» و«الاحترام والاعتراف المتبادل»؟
الأمر المؤكد أن الدول الإسلامية لن تسمح بحرق أي كتاب سماوي، بعيدا عن الاختلافات السياسية والصراعات؛ فالكتب السماوية كافة (برغم تحريف الكثير منها) مقدسة لدى المسلمين، وكذلك جميع أنبياء الله ورسله والأديان التي جاؤوا بها. وهذا موقف شرعي ينطلق من إيمان المسلمين بأن الرسالات السماوية تحمل رسالة واحدة من الله تنسجم مع الإسلام، وإن كانت لها أسماء أخرى. ويؤكد القرآن الكريم أن احترام مقدسات الآخرين هو الطريق لحفظ السلم والأمن في المجتمعات البشرية التي تتوسع بشكل مضطرد: «ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لهدّمت صوامع وبيع وصلوات ومساجد يذكر فيها اسم الله كثيرا». فالتعدد الديني أحد عوامل أمن المجتمعات؛ لأن عقل الإنسان يقضي بأن التعايش لا يتحقق إلا بالاعتراف والاحترام المتبادلين، فليس من حق أحد استفزاز الآخرين بالمساس بعقائدهم ومقدساتهم؛ لأن ذلك أقصر الطرق لضرب السلم الاجتماعي وإضعاف أواصر الأخوّة الإنسانية والتأسيس لعداوات غير عبثية بين البشر. والواضح أن الحديث عن المسار الطويل للإنسان لضمان التعايش السلمي بين أبنائه المختلفين دينيا أو عرقيا أو ثقافيا، ما يزال عاجزا عن التأثير على سياسات الدول التي ما تزال مشوشة إزاء الحرّيّات العامة: حدودها ومناخاتها ومآلاتها. فلا يبدو أن هناك معيارا دوليا واحدا متفقا عليه للحرية الفردية، ما حدودها؟ وأين تتقاطع مع حقوق الآخرين وأين تتصادم معهم. والأسوأ من ذلك غياب الحكمة في التصرف وتقييم الأوضاع قبل الشروع في القيام بعمل، أو الإعلان عن موقف يؤسس لصراع مع الآخرين من خلال الاستفزاز والتحدي.
الأمر المؤسف له، أن الغرب ما يزال يؤمن بمنطق «المغالبة»؛ أي سياسات الاستفزاز التي تُطرح لتبرير سياسات ومواقف غير ذات أهمية من النواحي الأخلاقية والفكرية والقيمية. ثمة فرق شاسع بين حرية التعبير المسؤولة والحق في استفزاز الآخرين. فمنطق الحاكم السويّ يُفترض أن يتأسس على الرغبة في ضمان أمن الجميع كأولوية في السياسات الداخلية، ويُفترض أن تكون هذه أولوية تؤسس عليها القوانين المتصلة بالحرية والحق العام.
لقد تكررت حوادث استهداف المقدسات الإسلامية ضمن ظاهرة جديدة ـ قديمة: «قالوا حرّقوه وانصروا آلهتكم». ويوثق التاريخ حروبا نشبت بسبب التعصب والحقد والجهل. وما الحروب الصليبية إلا أحد مصاديق ذلك. كما أن بعض الحروب التي وقعت في أوروبا نشب ليس بسبب الأديان، بل استخدامها لتبرير العداء الذي يفضي إلى الحرب. فالأديان لا تدعو للعصبية او العداء مع الآخر، بل إن الرسالات السماوية تشجع استخدام العقل دائما والتغلب على العواطف والمشاعر الناجمة عن العقد الداخلية لدى البعض، خصوصا في عالم السياسة. وكثيرا ما اعتقد البعض أن عصور التنوير والتطور الصناعي والتكنولوجي قد أضفت على العقل والعلم قيما إضافية، ومنحتهما دورا في السجال البشري، وساهمت في تهميش ظواهر التعصب والجهل. ولذلك، ثمة استغراب أن العقل الذي أوصل الإنسان إلى المجرّات النائية وأعماق البحار ما يزال قاصرا عن استيعاب طبيعة الإنسان الذي يحمل هذا العقل. صحيح أن الإنجازات العلمية غير كاملة، بل عرضة للخطأ القاتل، ولكن الإنجازات العلمية عبر العصور لا يمكن إنكاره برغم بعض الإخفاقات العلمية التي تحدث بين الحين والآخر. هذا يكشف حدود العقل البشري وقصوره عن إدراك الأبعاد العلمية كافة من جهة، وحدود المنطق البشري ومدى سعة النفس الإنسانية أو ضيقها من جهة أخرى. فهناك مسافات طويلة لرحلة هذا العقل الذي لا يبدو أنه قادر على قطعها بسهولة، وأن الكثير من المعوقات والمشاكل ستعترضه في هذه الرحلة الشاقة. وما التصرفات التي يمارسها البعض مستهدفا البعض الآخر من أبناء الجنس البشري مع سبق الإصرار والترصد، إلا مؤشر للمخاطر التي تنتظر البشرية لأسباب من بينها تغييب دور العقل.
وثمة حقيقة أخرى مفادها أن حكومة السويد لم تتصرف بدوافع الحرص على حماية «حرية التعبير» كما تدعي، فهي تعلم، كغيرها من سائر حكومات العالم، أنه بموازاة تلك الحرية هناك حقوق الأفراد في التمتع بالسلم الاجتماعي، الذي يعتبر اختراقه جُرما يعاقب القانون عليه. وحين يشعر ملايين البشر بخطر انفجار الوضع الأمني نتيجة الاعتداءات والاستفزازات التي تسمح الدولة بحدوثها، فإن ذلك بداية نهاية تلك الدولة؛ لأن حفظ الأمن على رأس مهماتها. والسؤال هنا: لماذا أصبح الخط الفاصل بين «الحق الفردي» و«الأمن المجتمعي» باهتا إلى هذا المستوى؟ لماذا أصبح الوزير المعني بإصدار التصريح للاشخاص الراغبين في الاحتجاج، غير قادر على التمييز بين ما هو حق مشروع للفرد وما هو حق مشروع للمجتمع؟ في معمعة هذه الأفكار والسجالات، تزداد الصورة تشوشا والوضع غموضا. فهل من قبيل الصدفة تكرر حوادث استهداف المسلمين في عقائدهم ومقدساتهم؟ فمن تشارلي إبدو في فرنسا، إلى رسومات الكاريكاتير في الدنمارك، إلى حرق نسخ المصحف في السويد، هناك خيط يربطها معا، ويؤكد وجود جهات تقف وراء دفع خطة استهداف المسلمين إلى الواجهة.
القدس العربي اللندنية