مدونات

وفي أَنْفُسِكُمْ أَفَلا تُبْصِرُونَ

جيتي
النفس
النفس الآدمية خلق دال على العظمة الإلهية في خلق يحمل القدرة على التعلم والإبداع، من تشييد أبنية لا يُرى الإنسان إن وقف قربها لفرط فرق حجمهما، إلى إصلاح الإنسان بالطب والعلوم التي ما انفكت تتوسع وتُذهل. النفس هي أنت وأنت خلق الله. ألم تر أن الإنسان ما كُتب له الخلود في الأرض ومع هذا يعمرها، لا يغلبه إلا قضاء الله. وإبداعه يأتي بحسن إدارة أقدار الله باتباع سنن الكون؛ فالنفس الآدمية غير الجسد البشري، إنها أنا وأنت وكل كينونة حية من بني آدم. ولعل ما ذهب إليه المفسرون في أغلب الأحيان هو الأفعال الحيوية الموجودة في كل الأحياء المعروفة تقريبا، فهي ليست ميزة، وإنما التمييز للنفس التي تفكر وتقرر وتستوعب وترتقي درجات، وكلما تقدمت في العلم تجددت فكرا بازدياد المعرفة والخبرة والتفكر بها وهضمها.

علينا أن نوضح التباسا دارجا بين النفس وبين الروح التي تعني الأمر بالتكوين لكل الخلائق، فخلق جبريل أمر وخلق آدم أمر وكل صنف بأمره واسمه، فالروح لم تأت إلا مفردا في القرآن، وتعني أمر الخلق والحديث عن النفس بمفردة النفس وجمعها.

عمل النفس ومنظومتها العقلية

المنظومة العقلية التي هي النفس الآدمية حقيقة الأمر، والنفس لتقريب الصورة كالخزان الرئيس للحاسوب، لكنه فاعل يعقل ويتخذ قرار أي له مساحة العزيمة والإرادة، فلا بد إذن أن يمتلك الأهلية كاملة ليحكم عليه، وفق ما يملك من معلومة ويحللها فيستقرئ أو يستنبط أو يضيف لها الجديد، وهذه المنظومة تفقد الأهلية عندما لا يُتاح لها التفكير أو القرار حتى وإن فكرت، فالنفس تعتمل في منظومتها العقلية مسارات (سيناريوهات) متعددة لكل أمر وكل شيء، ومشاهدات يحللها الفؤاد وكذلك نزوات وغرائز وحاجات تحكم صلاحيتها معايير أخلاقية، وتستقر السيطرة لأحدها فتتحول إلى إرادة التنفيد، فإما أن تنفذ أو لا يكون لها فعل، بيد أن للزمن دورا كبيرا في إحياء النوايا بتكامل الأسباب.

الوعظ لا يصلح النفوس:

مع الزمن تتطور المدنية وتفرض محددات ومتطلبات سلوك، فليست الأخلاق منفردة تعمل في واقعنا كمعايير، وإنما هنالك عامل إضافته الحداثة، لكنه حوّل المعايير الأخلاقية إلى شعارات تُزعم، لكن لا تطبيق لها في أرض الواقع، ربما تستغل في التنمر على الآخرين، فهي ليست منكرة ولكن لا بيئة لتطبيقها. وفي أقوام أخرى تعتبر النفعية معيارا يحدث السلوك الحسن، فيكون الإنسان في دور العبادة شيئا، وعندما يغادرها يعود لحياة أخرى ولا يشذ الواعظ نفسه عن هذا الوصف؛ وهذا الأمر خلق ازدواجا وتنحية للقيم عن الواقع، فلم يعد الوعظ والواعظون وسيلة إصلاح أو قدوة، بل نحتاج إلى نموذج على الأرض من خلاله يجري الخطاب الأخلاقي. وهذا النموذج ليس قالبا يفرض فوقيا، وإنما ينمو مع خطط التنمية في الحياة المدنية.

علاقات النفس:

في النفس هنالك دولة كاملة بوزاراتها الرئيسة، فهنالك وزارة تعنى بالداخلية ممكن أن نسميها الإدارة المحلية، وهي تدير تعاملات الداخل وتطوير الذات ومراجعة المعلومات وتقديم التقارير لاتخاذ القرار، تتعامل مع المعلومة والحاجات والغرائز والقيم المكتسبة، وما يأتي من الخارجية التي تتعامل مع العادات والتقاليد وعلاقات الإنسان مع الآخرين، ومدى قوة العلاقة وأبعادها وتتفاعل الأفئدة هنا لتشكيل ردود الأفعال، ومدى انضباط المنظومة العقلية في ترشيد الأفعال وردود الفعل.

هنالك تصويب للتفكير ومتانة المعايير والمتغيرات، فالآدمي السليم هو من ملك قلبا سليما أي منظومة عقلية سليمة تتفاعل مع المعطيات وتحسن التعامل.

الإنسان مخلوق يمتلك أدوات إصلاح ذاته وتتطور، ورضا الإنسان عن ثبات ذاته موت سريري ومباهاة بإشهار التخلف بسوء فهم معنى الثبات والحقيقة، لهذا فكر المفكر ليس في كتاب أو مقال منشور بل في كتاب يكتبه.

كيف تعرف نفسك:

النفس (أنا) لها استقلالها، وتندمج مع اسمها في مرحلة متقدمة عندما تعلم أن الاسم الذي ينادونها به يحمل تصور الآخرين لها وليس تصورها، ثم تعتاد أن تكون كما تريد البيئة أو تفهم البيئة نظرتها لذاتها فتقول أنا، وفي البداية لا تقول أريد وإنما فلان أو فلانة تريد. والتربية مهمة في تصويب النفوس، فمن تربت نفسه على الشك بالبيئة، لا يستقيم له حال ولا تجد له عِشرة دائمة ناجحة، ومن زادت ثقته بالناس تعرض لامتحان سفه الآخرين، لكنه يبقى برقي الإنسانية يألف ويؤلف، وهي صفة ممدوحة في الإسلام.. والنفس تستعبد بما تعتاد عليه ما لم تثبته عندما تراجعه، فتحررها هو تحرر من تصوراتها وقيودها، ووضع مسارات لأحداث ليست حقيقية فيتملكها الخوف المعطل، بينما التغيير هو نوع من إبدال المسارات أو التراجع عن المتاهات المسدودة لخيارات أخرى، وسنة الكون الحركة والبقاء في ذات الدوار، هو تضييع لأمور أفضل قد تكون وراء الجبل الذي ينبغي أن ترتقي سفحه.

ميزان الحكمة

النفوس التي لا تتوسع فكرا ولا تتطور علما ولا ترشد رأيا، نفوس ميتة لن تتمكن من الارتقاء بالبشرية، والنفوس التي لا تحب ولا تهدي للرشاد، والنفوس التي ملكتها الأنا فقيرة مهما ملكت من مال ووضيعة مهما أحاطها الجاه، فلا يمكن أن يُستعبد الإنسان، وإن استعبد، ما لم تستعبده ذاته بالأنا، فلننظر إلى أنفسنا كيف صنعها الله وهي تدير ذاتها بأدواتها وكيف تشح عن غنى وكيف تعف عن فقر وكيف ترتقي بالمعرفة عندما تتفكر ويكون لها عزم، تلك النفس التي نُبهنا إليها أن نبصر ببصيرة المنظومة العقلية ولم يقل أفلا تنظرون؛ لأن النظر يرى السلوك والظاهر، أما البصيرة فهي تفكر وتدبر ترى القيم في ظاهر السلوك وباطن العزم والإرادة، اللتين يعبر عنهما الفعل والفاعلية في المجتمع.