الكتاب: الكينونة والعنف وصراع البقاء
المؤلف: هاني بيوس حنا
الناشر: المؤسسة العربية للدراسات والنشر، 2023
يطرح أستاذ الفلسفة العراقي الأب هاني بيوس حنا في كتابه هذا إشكالية
العنف والحرب ضمن رؤى تاريخية، وضمن ميادين فلسفية واجتماعية متعددة، تكشف، بحسب
ما يقول، أن إشكالية العنف أعمق بكثير من أن تكون محصورة في ظاهرة اجتماعية، فيبحث
في تساؤلات مثل : من أين يأتي العنف؟ أين تكمن جذوره؟ من أي ذريعة أو ضمن أي سياق
ينطلق العنف؟ هل ينشأ العنف من طبيعة الإنسان، أم أنه ينشأ فقط ضمن المجال
الاجتماعي، حيث يرى البشر أنفسهم منخرطين في كفاح من أجل اعتراف الغير بهويتهم؟.
ويتقصى في الكتاب أصول العنف من الناحية الانثروبولوجية والأسطورية وبدايات
المجتمعات البشرية، كما يبحث في تطور مفهوم المدنية، والعلاقة بين الدولة والسياسة
وأصول العنف المنظم في مفاهيم كالحرب والجيش، فيعالج علاقة الكينونة بالعنف في
"أبشع" أشكاله؛
حروب القرن العشرين المدعومة بـ"التفنن" التقني
المتمثل في اختراع الأسلحة.
يجد حنا أن انتشار العنف في مجتمعاتنا وما يحدثه من دمار على مستويات
عدة يدفع للتساؤل عن المساحة التي يحتلها في المجتمعات الحديثة، ومحاولة فهم
حضوره. فكل شخص إما شاهد على العنف أو مسبب أو ضحية له، ما يجعلنا نعيش شعورا
مقلقا بعدم الأمان من ظاهرة متنامية يخشاها الجميع.
ومن المفكرين من يرى العنف من
منظور أصولي أي مترسخ في تركيبة البشر، وأن الكائن البشري عنيف بالفطرة. ومنهم من
يرى أنه وليد التجمعات البشرية، وناتج عن احتكاك بين البشر ضمن تلك البنى
المجتمعية، وبالتالي هو وليد قسوة ظروف تلقي بثقلها على أفراد جماعة معينة لتجعلهم
عنيفين أكثر من غيرهم.
يقول حنا إذا كان الإنسان يولد عنيفا ألا يجدر بنا الإقرار بصحة
مقولة الفيلسوف الإنجليزي توماس هوبز "إن الإنسان هو إله لإنسان آخر،
والإنسان هو أيضا ذئب لإنسان آخر".. وهي مقولة طور هوبز على أساسها فكرته عن
تركيبة العنف عندما ميّز بين ثلاثة أسباب لوقوعه؛ الأول هو المنافسة، والثاني عدم
الثقة، والثالث السعي للمجد. في الأول يستخدم الناس العنف ليجعلوا من أنفسهم سادة
على الآخرين. وفي الثاني يدافعون عن أنفسهم وفي الثالث يمارسون العنف من أجل أمور
تافهة.
يشير حنا إلى خطورة افتراض أن للإنسان العاقل ميلا فطريا إلى الحرب
أكثر من إنسان العصور الغابرة، فهذا يعني أنه يمكن أن يدخل ضمن تدمير ذاتي ممنهج،
لا كالإنسان القديم الذي كانت ردة فعله فجائية، ولا فقط في إمكانية إغلاق السبل
الممكنة لحل الصراع سلميا، بل في جعل الحرب أكثر احتمالا. ويتساءل حنا: إذا كانت
نظرية غريزة العنف تستند إلى معطيات العلم، ألا يصح عندئذ طرح تساؤل مشروع: هل
يشكل التقاتل والصراع أسس طبيعة الإنسان "التطورية"، التي نحن اليوم
ورثتها؟وهل التدمير ما بين البشر جزء مشروع في عملية التطور ومرتبط بشكل وثيق
بالحرب والعنف؟ . يؤيد هذه النظرة عالم الأجناس نابليون شانيون، الذي درس قبيلة
يانومامي في أمازون البرازيل، عندما يقول إن البشر يولدون قتلة بالفطرة. لكن حنا
يرى أن العنف له بعد وجودي أكثر من كونه ظاهرة اجتماعية، تظهر وتتجدد وفق كل مجتمع
وحقبة.
هيغل والحرب
يتوقف حنا عند الحرب باعتبارها ظاهرة تنطوي عادة على استراتيجية
معرفية تفصيلية وتخطيط واسع النطاق، ينصب في تعاون اجتماعي كبير. ويقول إنها تكتيك
حديث نسبيا لا يتجاوز عمرها العشرة آلاف سنة، أي أنها ظهرت مع ولادة أول التجمعات
السكانية، مع القرى الأولى، رافقتها عوامل كاختراع الزراعة والحرف الأولى،ما أدى
إلى تراكم موارد مادية قيمة دفعت آخرين إلى سرقتها، ومالكيها إلى الدفاع عنها.
استدعى ذلك بناء تسلسل هرمي اجتماعي متطور؛مؤسسات حامية كالشرطة والجيش.. التي
كانت شاغل جميع الجمهوريات والامبراطوريات على مر التاريخ.
يتابع حنا أن التمدن مدعوما بفكر "التطور" حاول إقناع
الجميع بفكرة أن التقدم وتحسين الحالة البشرية من شأنهما أن يقللا من العنف، لكن
المفارقة أن العنف استمر واتخذ أشكالا جديدة مخيفة أكثر، حيث تشير الإحصائيات إلى
أن حروب القرن العشرين وأيديولوجياته هي الأكثر فتكا في تاريخ البشرية كله، إذ وصل
عدد ضحاياها إلى ما بين 230 و270 مليون شخص، بين قتيل وجريح وضحايا الإجرام العرقي
والإبادات الجماعية.
إذا كان الإنسان يولد عنيفا ألا يجدر بنا الإقرار بصحة مقولة الفيلسوف الإنجليزي توماس هوبز "إن الإنسان هو إله لإنسان آخر، والإنسان هو أيضا ذئب لإنسان آخر
يقول حنا أن هيغل كان قد توصل إلى استنتاج مفاده أن تاريخ الوجود
البشري مستحيل بدون عنف. بحسب هيغل تجسد الحرب حقيقة الدولة الاولى التي تتجلى
بفضل وجودها بين الدول الأخرى، حيث تكافح كل دولة من أجل الاعتراف بكيانها. والحرب
بحسب ما يرى تمنع الدول من الهلاك بسبب تفردها وعزلتها، وهي تجنب الدول من الوقوع
في "العادة القاتلة أي السلم" الذي يدمر الاقتصاد، فالتصارع مع دول أخرى
تنعشه. بالنسبة لهيجل فإن الحرب هي التي سمحت ل"روح
العالم" بالتقدم من
الشرق إلى الغرب، ومن بلاد فارس إلى اليونان، ومن اليونان إلى روما، ومن روما إلى
الإمبراطورية الجرمانية.
العنف المنظم
هل بالإمكان التخلص من العنف؟
يرى حنا أن الجواب على هذا السؤال
غالبا سيكون بالنفي. لقد خلص المفكرون إلى قناعة بأن العنف جزء أساسي من طبيعة
البشر. ليست المسألة مرتبطة بشعب أو تقليد معين، بحسب ما يقول، ليوصفا بأنهما
عنيفان. لا تختلف في ذلك المجتمعات المتحضرة عن المجتمعات القديمة. ربما يظهر
الفرق شكليا، ويستند إلى حاجة كل حقبة ومتطلباتها. لذا اختلفت درجة العنف ووطأته.
وقد يختلف عنف إنسان العصور الغابرة، لأنه كان مدفوعا بالبحث عن الغذاء والمأوى،
عن عنف إنسان اليوم الذي يبحث عن هوية فردية، متمثلة بالأنا أحيانا وبالجماعة
والدولة أحيانا أخرى.
ويتطور هذا الصراع ليأخذ شكل تنافس أمم، يبلغ ذروته في الحروب
والمذابح. يضيف حنا أن اليانانيون ومن بعدهم الرومان فطنوا مع ذلك إلى أهمية بث
الانسجام بين أفراد الشعوب التي كانوا يستولون عليها ويحكمونها. فكان تشييد
المسارح وحلبات رياضة المصارعين أول ما يفعلونه عند استيلائهم على مدينة ما،
كوسيلة لتفريغ العنف الكامن فيهم، وتصريف الغضب، وترويض إرادتهم.بمعنى آخر محاولة
لتنظيم العنف. بل ذهب الرومان إلى إعطاء الجنسية الرومانية لمواطني الشعوب التي
استولت عليها الامبراطورية.
يقول حنا: إن العيش سويا سار وفق عنف منظم يدير المجتمعات ويحميها من
الحروب الأهلية والتطاحن. لقد أصبحت الظروف المعيشية أكثر أمانا، لكن من جهة أخرى
تزايدت سرعة عطب المجتمع، عبر استمرار السلوك المحفوف بالمخاطر، فكلما انتظمت
المجتمعات أكثر زادت مخاطر كبت أفرادها... الضغط الذي يولده المجتمع وعدم المساواة
تدفع العديدين للانفجار. هل تحول الإنسان إلى الحياة المدنية سبّب خللا في توازن
العناصر الطبيعية عندما كان جزءا من الطبيعة في حياته البدائية؟ يجيب جان جاك روسو
: لقد اختفى سلام الطبيعة ومع سلام الإنسان، بعدما حور الإنسان الطبيعة بواسطة
الوسائل التقنية التي اخترعها، ومن المستحيل الرجوع إلى الوراء. وعلى الإنسان منذ
وافق على ترك طبيعته البدائية ودخوله المدنية أن يتعايش مع رغبته في الصراع
والتزاحم مع أبناء جنسه.
يلفت حنا الانتباه إلى أن "السلم" يمثل صنوا أقصى للعنف
كونه توقفا وقتيا للصراع، أما السلام فهو حالة دائمة للسلم، وبما أن توقفا نهائيا
للصراعات بعيد المنال وأشبه بالمستحيل، فالسلام أشبه بحلم البشرية في بلوغ نهاية
مستقرة. لذا على الأديان، بحسب ما يقول، والفلسفات الروحية البحث باستمرار عن أسس
سلام جديدة تتجدد مع كل عصر وعقلية، ضمن أبعاد أخلاقية وأواخرية، في عالم آخر غير
عالم البشر. هكذا يتحول الدين، بخلاف ما ينظر أليه الكثير من معاصرينا سببا
للصراعات والعنف، إلى مسند للسلام، كون الوحي هو الوحيد القادر على حمل أخلاقية
التواصل البشري، لأن هذه الأخلاقية غائبة عن المؤسساتية الاجتماعية.
ويتابع : إن اختفت الأخلاق فكيف يمكن الكلام عن الإنسانية؟ على ماذا
يمكن أن تستند هكذا بشرية ليميزها المرء عن بقية الكائنات؟. تتطلب التساؤلات عن
إشكالية العنف إذن إعادة النظر في أخلاقية الدين ودوره في جعل الإنسان أكثر
إنسانية لا العكس. إنها تتطلب على هذا الأساس البحث عن وسائل سلمية تضمن بقاء
البشرية في إنسانيتها، لا تنحرف نحو صراع قد يدمرها إلى الأبد.