رحل السياسي الإيطالي سيلفيو
برلسكوني يوم الاثنين الماضي، بعد 3 عقود قاد فيها معارك على أكثر من جبهة، وبأكثر من سلاح. الشاب الذي تخرج في كلية الحقوق، واندفع إلى العمل الخاص، استطاع أن يصعد بسرعة على سلم المقاولات.
مدينة ميلانو عاصمة الاقتصاد في الشمال الإيطالي، ومنطقة الصناعات المختلفة، وعلى رأسها شركة «فيات»، كانت ولا تزال أرض الإنتاج والغنى والرفاهية. سيلفيو برلسكوني سيكون الرجل الميلاني الأبرز في اقتحام دنيا المغامرات المالية والرياضية والإعلامية والسياسية والغرامية. يدخل مبارزا في كل حلبات الربح والشهرة والمتعة. يصارع مغامرا واثقا، ولا يتردد في أن يكون مبارزا في كل المعارك بأكثر من سيف. امتلك شخصية التاجر والمطرب والراقص والمصارع. خلَّق صناعة الكيمياء الإنسانية مع من جاؤوا إليه، أو ذهب إليهم. في ثمانينيات القرن الماضي، شهدت
إيطاليا هزّة سياسية عنيفة قادها القضاء، عرفت بـ«حملة الأيدي النظيفة» (tangentopoli). شن فيها القضاء حملة ضد الأحزاب التي اتهمها بالفساد، وترتب على ذلك تفكك الأحزاب التاريخية الكبيرة التي هيمنت على المسرح السياسي الإيطالي، بعد إنهاء النظام الملكي وقيام الجمهورية عام 1946. سيطر الحزب الديمقراطي المسيحي، بالتحالف مع بعض أحزاب يمين الوسط، على السلطة، في حين كان الحزب الشيوعي القوة المعارضة الكبرى المسيطرة على النقابات، ولها رجالها في الوسط القضائي.
لاحق القضاء أغلب الشخصيات السياسية، وبدعم من الرأي العام، نجح القضاء في إنهاء سيطرة الأحزاب القديمة، وإخراجها من المشهد السياسي. باتت البلاد في حالة فراغ سياسي غير مسبوق، وتحركت تيارات سياسية كثيرة من أجل ملء الفراغ الكبير.
سيلفيو برلسكوني ربطته علاقة صداقة متينة ببنتينو كراكسي زعيم الحزب الاشتراكي الإيطالي، الذي أدى دورا كبيرا في الحياة السياسية الإيطالية لسنوات طويلة، وترأس الحكومة الخماسية. كراكسي خدم سيلفيو برلسكوني عندما سمح له بتأسيس قنوات إذاعية خاصة، وذلك يحدث للمرة الأولى في الجمهورية الإيطالية. كانت الحكومة تحتكر البث التلفزيوني. توسع برلسكوني في امتلاك القنوات التلفزيونية على المستوى الوطني، وامتلك صحفا، وأسس دار نشر واشترى نادي ميلان. عندما تفككت الأحزاب السياسية الإيطالية التقليدية، نصح كراكسي صديقه برلسكوني بأن يقتحم مضمار السياسة المتحرك، وأن يواجه احتمال تسيد اليسار للحياة السياسية في البلاد، وهو الذي وجه الضربة القاضية للأحزاب القديمة التاريخية. كان القضاء الإيطالي يرتبط بعلاقات وطيدة مع اليسار. اتفق الاثنان كراكسي وبرلسكوني على العداء لليسار بكل أطيافه، وصار برلسكوني القبضة الأقوى التي تقارع اليسار. وظَّف برلسكوني جيشه الإعلامي المرئي والمسموع والمكتوب، لمشروعه الشامل السياسي الطويل المدى. انتهج خطابا إعلاميا شعبويا، توجه إلى الشباب والمرأة بلغة جديدة بسيطة مباشرة، فتح وسائل إعلامه للجيل الجديد ليعبر عن طموحاته بصوت آخر، وحوّل نادي ميلان إلى منصة شعبوية يجلس عليها.
الحركة النسوية التي انطلقت في كل أنحاء إيطاليا في أواسط سبعينيات القرن المنصرم، جذبها خطاب برلسكوني الجديد، المدافع عن المرأة بلغة شعبوية مفتوحة. والشباب الذي صُدم بموجة العنف الدموية التي عاشتها إيطاليا، جراء ما قامت به مجموعة الألوية الحمراء، وقتلها للسنيور ألدو مورو زعيم الحزب الديموقراطي المسيحي، انشد إلى مشروع برلسكوني الإعلامي والرياضي. التقى برلسكوني مع زمن إيطالي، بل أوروبي جديد، وصافحه بيد جديدة. كانت له شخصية التاجر المغامر الذي يتقن لغة الفم والجسد، ويعرف رسم الخرائط الإعلامية والسياسية بألوان مبتكرة.
تولى رئاسة 3 حكومات إيطالية. في 10 مايو (أيار) عام 1994 تولى رئاسة الحكومة الإيطالية للمرة الأولى، وفي11 يونيو (حزيران) عام 2001 تولى رئاسة حكومته الثانية. وفي 8 مايو (أيار) عام 2008 ترأس أطول الحكومات عمرا في إيطاليا. البلاد التي لا تختلف فيها الحكومات عن مواسم الموضة، ولا يكاد الفرقاء السياسيون يتفقون على تأليف حكومة متعددة الأحزاب، حتى يشتعل الخصام والمواجهة بين أطرافها. صار رجل الأعمال والإعلام، المبارز الساحر في بلد ميكيافللي، الذي تحتضن عاصمته دولة الفاتيكان قلب الديانة الكاثوليكية، صار هو النجم الإيطالي الألمع. كانت له في كل ميدان جولات. بعد خوض معاركه المالية المتواصلة، بدأت اللطمات القانونية تلاحقه من دون توقف. اتهم بالتهرب من الضرائب، وصدر ضده حكم بالسجن لمدة 4 سنوات، وحيث إنه تجاوز سن الخامسة والسبعين من العمر، فقد كلّف بالعمل في أحد بيوت العجزة بدلا من دخول السجن. وأعفي من عضويته بمجلس الشيوخ، لكنه استمر يواجه، ونجح في الحصول على عضوية البرلمان الأوروبي.
لاحقته تهم أخلاقية، وقيل إنه أقام علاقات حميمة مع فتيات، وصار محفله العاطفي جدا الذي عُرف بمهرجانات «بونغا بونغا» في قصره بجزيرة سردينيا، حديث الخاصة والعامة. صارت التهم المختلفة قطعا من الحجارة التي تلقى عليه من دون توقف، وركض وراءه رتل طويل من القضاة في كل أنحاء إيطاليا، لكنه أتقن المبارزة بأكثر من سيف، مع أكثر من غريم. رفع ضده أكثر من 34 قضية، كثير منها جنائية، لكنه تعامل معها على قاعدة المشي على الحبل، وفي يديه زانة التوازن السحرية. يضرب بكلماته التي يمتزج فيها الهزل والنكتة، بالعنف اللفظي المشتعل. كل ذلك جعله الفارس النجم المنافح. الإيطاليون في عمومهم يتعلقون بصور النجوم، سواء أكانوا قادة عسكريين أم سياسيين أم ممثلين سينمائيين أم لاعبي كرة قدم. انضمت صورة سيلفيو برلسكوني إلى صور كل من بينيتو موسوليني الذي يصرخ بصوته واضعا يديه وسط قامته بميدان فينيسيا، وألبيرتو مورافيا الكاتب الروائي الذي كتب روايات كثيرة، خاطب في أحدها شيئا من جسده، وكذلك الممثلة جينا لولا بريجدا، والمبدع السينمائي والشاعر بازوليني، واللاعب مارادونا، وقبله دي روسي، وغيرهم. الإيطاليون يكبّرون النجوم ويحتفون بهم، ومن لا يغامر ويصارع ويقارع، لا يمكنه أن يعلو إلى هامات النجوم. مُنح وسام الفارس من قبل رئيس الجمهورية لما قدّمه من أعمال في مجالات البناء، لكن برلسكوني في الحقيقة كان نجما وفارسا حيثما حلَّ. استطاع وهو على كرسي السلطة أن يقيم علاقات مع المتفقين والمختلفين معه في إيطاليا وخارجها، من اليمين واليسار، وأدى دورا بارزا في التيار الشعبي الأوروبي. في جولته الأخيرة قبل وفاته، قام برلسكوني بدور المهندس المعماري لبناء الحكومة الإيطالية الحالية. ألّف حكومة بـ3 رؤوس، من حزب «إخوان إيطاليا» و«رابطة الشمال» مع حزبه «فورزا إيطاليا»، وهي حكومة يمين الوسط.
أقيمت له، يوم الأربعاء الماضي، جنازة غير مسبوقة بكاتدرائية ميلانو. احتشد عشرات الآلاف بميدان الدومو المقابل للكنيسة. تجمع كبار السياسيين؛ من كان معه ومن كان ضده. رئيس الجمهورية ماتاريلا يتقدم الجميع. عاشت إيطاليا أيام حزن، وتسابق السياسيون والمثقفون والرياضيون والفنانون على الحديث عن مناقبه، وخصصت أغلب وسائل الإعلام برامجها وصفحاتها للحديث عن الفارس الأخير.
يبقى السؤال؛ ماذا بعد سيلفيو برلسكوني؟ هل يطول عمر الحكومة الإيطالية الحالية التي تقودها امرأة للمرة الأولى في إيطاليا؟ وهل سيأتي فارس آخر يستطيع رسم خرائط تجمع قوى سياسية، لا تتفق إلا لكي تختلف؟
(
الشرق الأوسط)