تطل أزمة جديدة برأسها على
الاقتصاد
المصري في الدولة التي تحل بالمرتبة الـ14 بقائمة أكبر دول العالم بحسب عدد السكان
والتي يقطنها نحو 1.33 بالمئة من إجمالي
سكان العالم، وتطال رغيف
خبز الشعب الذي يبلغ نحو 105 ملايين نسمة.
وكالة "رويترز"، وفي تقرير لها الخميس
الماضي، أكدت على لسان مسؤولين حكوميين وتجار ومستوردين أن الحكومة المصرية أكبر
مستورد للقمح بالعالم قررت تأجيل سداد ثمن وارداتها من القمح منذ كانون الأول/
ديسمبر الماضي، بفعل أزمة شح
الدولار.
البلد العربي والإفريقي الذي كان يطلق عليه لقب
سلة غلال العالم القديم في العهود السابقة، يستهلك نحو 25 مليون طن قمح سنويا، تنتج
منه أراضي الدلتا والوادي حوالي 12 مليون طن، فيما يجري استيراد الباقي من روسيا،
وأوكرانيا وغيرها.
وتعاني مصر من أزمات تتزايد تعقيدا، مع
تفاقم ديون خارجية بلغت 162.9 مليار دولار بنهاية كانون الأول/ ديسمبر الماضي، وسط
مطالبات بدفع التزامات بالعام المالي الجاري 2022-2023، بنحو 20.2 مليار دولار،
وهي الأزمة التي يفاقمها هروب الاستثمارات الخارجية والمال الساخن مع شح الدولار
وتغوله على قيمة العملة المحلية.
"19 شحنة"
وأشارت الوكالة إلى وجود شحنات قمح ما زالت
بالسفن والموانئ المصرية تحتاج لدفع ثمنها بالعملة الأمريكية، وأنه بفعل أزمة شح
الدولار فإن هناك 11 شحنة لم تدفع القاهرة ثمنها، بجانب الحاجة لفتح خطابات اعتماد لـ8
شحنات أخرى.
وفي الوقت الذي اعترف فيه وزير التموين علي
المصيلحي لـ"رويترز" بالتأخير وأرجع السبب لنقص العملة الأجنبية؛ ذكر
تاجر أنه "لم يحدث هذا التأخير من قبل إطلاقا"، وقال إن "هذا جديد
تماما على مصر".
وعلى الرغم من أن الوكالة، قالت على لسان مسؤول
حكومي إنه "يتم شحن وتفريغ معظم شحنات القمح، التي تأخر دفع ثمنها، دون
انقطاع حتى الآن"، إلا أن المخاوف كبيرة من أن تطال الأزمة رغيف الخبز المدعم
الوحيد الباقي من الدعم الحكومي لفقراء مصر.
ووفق بيانات مجلس الوزراء المصري مطلع
أيار/ مايو الجاري، فإن الحكومة تقوم بصرف رغيف الخبز المدعم لـ71 مليون مصري على
بطاقات التموين بـ 5 قروش.
"دونها ثورة"
وبالحديث إلى بعض المصريين عن أزمة
تأجيل الحكومة المصرية سداد ثمن وارداتها من القمح أعربوا عن مخاوفهم الكبيرة من
أن تطال الأزمة مع استمرارها رغيف الخبز المدعم، برفع سعره أو إخراجه من الدعم
كغيره من السلع والخدمات وبينها الوقود والكهرباء.
وفي آذار/ مارس الماضي، قفز سعر رغيف الخبز
البلدي في المخابز السياحية المصرية من 50 إلى 75 قرشا للحجم الصغير، ومن
جنيه
واحد إلى 1.25 جنيه للحجم الأكبر بسبب ارتفاع أسعار القمح عالميا.
وطالب فلاحون ومزارعون مصريون في حديثهم
لـ"عربي21"، الحكومة بـ"التركيز على الإنتاج المحلي بزيادة
المساحات المنزرعة من القمح ودعم الفلاح، وزيادة ثمن الأردب"، مؤكدين أن
"ذلك يساعد على تقليل حجم المستورد من الحبوب، وتوفير العملة الصعبة".
وأكد أحدهم، أن "خروج رغيف الخبز من منظومة
الدعم لأي سبب سواء شح الدولار أو عدم دفع
ثمن شحنات استيراد القمح، أو انشغال الحكومة بمشروعاتها على حساب الفقراء، أو
تورطها في سداد الديون؛ دونها ثورة شعبية تطيح بهذا النظام".
حديث "رويترز"، وفق مراقبين، يعد
مؤشرا خطيرا على عجز الحكومة المصرية عن توفير أهم السلع الاستراتيجية، وتأكيدا
لاستمرار تفاقم أزمتها مع الدولار، كما ينذر بخطر قادم يهدد حياة ملايين المصريين،
ويثير التساؤل حول كيفية خروج مصر من شبح إفلاس الدولة وتجويع الشعب.
"انعدام الشفافية"
وفي تعليقه، قال الخبير الاقتصادي
والأكاديمي المصري الدكتور أحمد ذكرالله، أن "تأجيل سداد ثمن وارداتها من
القمح ليس دليلا فقط على أزمة شح الدولار في مصر لأن أزمة الدولار عليها أدلة
كثيرة".
أستاذ الاقتصاد بكلية التجارة جامعة
الأزهر، أضاف لـ"عربي21": "ولكن هذا دليل على عمق انعدام الشفافية
التي يمر بها الاقتصاد المصري خلال كل المراحل منذ 2013 وحتى الآن، وأن أزمة
الشفافية متعمقة ومتجذرة به بصورة كبيرة".
ولفت إلى أن "الوكالة تتكلم عن 11 شحنة من
القمح لم يتم دفع ثمنها، كما أنه لا نعرف على وجه التحديد حجم الدين الداخلي، ولا
الدفعات المطلوبة كخدمة للدين حتى حزيران/ يونيو المقبل، ولا حتى نهاية العام
الجاري".
وألمح إلى أن "ما ينشر عن ذلك هي
تقارير دولية، والدائرة الحكومية التي تعرف حقيقة الأرقام محدودة للغاية، وبالتالي
لا يمكن لخبراء أو متخصصين إعطاء الرأي".
وأكد أن "أزمة الدولار في مصر بلا
شك تؤثر على واردات القمح، كما أن لها مؤشرات كثيرة منها ضغط الحكومة المصرية على
بنوك تجارية لإخراج احتياطاتها من النقد الأجنبي، حتى أصبحت الاحتياطيات في آخر
تقرير لسنة 2023 مليار دولار بالسالب".
ويرى الخبير المصري، أن "هذا ينذر
بعدم قدرة البنوك على سداد ودائع المدعين بالعملة الأجنبية، بالإضافة إلى تخفيض
بالتبعية في التصنيف الائتماني للاقتصاد المصري ككل وللبنوك أيضا".
وقال: "يوجد الكثير من المؤشرات
التي تقول إن هناك أزمة كبيرة، وأن هناك انعدام مواجهة لها"، معربا عن أسفه
من أن "الحلول من وجهة النظر المصرية محصورة في البيع، والبيع من وجهة النظر
الخارجية مشروط بخفض قيمة العملة".
وختم حديثه بالتأكيد على أن
"الأزمة في مصر مركبة ولا حلول لها على المدى القريب أو المتوسط، وربما يكون
هناك حلول على المدى البعيد".
"أرقام خبز المصريين"
وفي كانون الثاني/ يناير الماضي قال
رئيس الوزراء المصري مصطفى مدبولي، إن جملة ما تنتجه مصر من الخبز يوميا، حوالي
275 مليون رغيف، وأن المصريين يستهلكون نحو 100 مليار رغيف سنويا.
ومطلع أيار/ مايو الجاري، أكد مساعد
وزير التموين إبراهيم عشماوي، أن منظومة الخبز هي الأكبر بالدولة، وأن الرغيف يكلف
الحكومة 90 قرشا ويباع للمواطن بـ5 قروش، وأنها تدعم الخبز بـ92 مليار جنيه نحو (3
مليارات دولار).
وقال وزير المالية محمد معيط، لموقع
"الشرق بلومبرغ" في حزيران/ يونيو الماضي، إن واردات القمح ستكلف موازنة العام
الحالي 3 مليارات دولار، إذا ظلت الأسعار عند مستوياتها الحالية.
"الساعة لا تدور إلى الوراء"
وفي رؤيته، قال المستشار السياسي
والاقتصادي المصري الدكتور حسام الشاذلي، لـ"عربي21": "لم يعد
ممكنا لأي جهة أو مؤسسة بمصر أو خارجها تجاهل مدى خطورة الموقف الذي يقفز بخطى متسارعة
نحو انهيار كامل".
الشاذلي، الذي يرأس جامعة "كامبردج
المؤسسية" بسويسرا، أضاف: "ولا اختلاف على أن الحالة المصرية نتاج واضح
لحالة الفساد السياسي والمؤسسي والسوق الأحادي الذي يسيطر عليه العسكر
ومنسوبيهم".
وتابع: "أضف لذلك انعدام الكفاءات
والقدرات على الصعيدين السياسي والاقتصادي، ما أسقط مصر بيد حفنة بهلوانات وعديمي
التجربة والذين لا يفقهون ما يقولون ولا يميزون بين الأولويات، ولا توجد لديهم
حلولا لأي معضلة سوى الاقتراض بعد الاقتراض".
ويرى الأكاديمي المصري، أن "كارثة
القمح التي نراها تتفاقم هي مؤشر طبيعي لحالة انهيار العملة المحلية، وغياب مصادر
النقد الأجنبي، وفشل الموازنة، وضياع الحكومة، وتسيس القضاء والبرلمان والمؤسسة
العسكرية".
ولفت إلى أنه "وقد يري البعض أن
مصر تقفز بخطوات واسعة نحو النموذج اللبناني؛ لكن الأمر أشد خطرا وقد يكون أعنف،
فكلٌ على قدر حجمه".
وتابع: "ستبدأ المؤسسات المالية
بمصر في إعلان افلاسها؛ ولن تكون البنوك
قادرة على رد أموال وودائع المواطنين عند طلبها".
وأكد أنه "لم يعد أمام المصريين
إلا أن يتحرروا من نظام ديكتاتوري فاشل، وأن يحاولوا بناء مرحلة جديدة تقوم على
تغيير شامل سياسيا واقتصاديا واجتماعيا".
وواصل: "وذلك في ظل منظومة جديدة
تُفرج عن المعتقلين، وتُوظف موارد مصر توظيفا محترفا، وتبحث عن الشركاء الحقيقين
لمصر الجديدة، وتوقف نزيف بيع الأصول والتفريط بمقدرات المصريين".
وختم بالتأكيد على ضرورة وجود
"منظومة توصل لمرحلة تلعب فيها تكنولوجيا التصنيع والتحول الرقمي دورا
رئيسيا، حيث تكون القيادة المصرية قيادة مؤهلة وقادرة، وليست مجرد أشباح لصور
مستهلكة أو بقايا برلمان سيسي فاشل"، وفق قوله.
"تجويع الشعب"
وعبر مواقع التواصل الاجتماعي، أشار
الكاتب المصري عمار علي حسن، إلى خطورة ما بثته وكالة الأنباء الأولى عالميا عن
عجز السلطة في مصر عن دفع أثمان قمح
استوردته منذ عدة أشهر لعدم توفر الدولار.
وعبر "تويتر"، أكد أن
"هذا أمر لا يمكن التعامل معه بخفة، ولا إحالته إلى الخانة المكررة عن
الدعاية المغرضة لأعداء الوطن، إنما يجب الرد عليه ووضع الشعب في الصورة".
وعلق الخبير الاقتصادي ورجل الأعمال
المصري الأمريكي محمود وهبه، بالقول: "لن أقول مؤشر إفلاس؛ ولكن مؤشر أن
الحكومة لا تمانع جوع الشعب لكي تسدد أقساط وفوائد الديون لتتجنب التعثر في السداد
أو لو أرادت الإفلاس".
وعبر صفحته بـ"فيسبوك"، أشار
إلى أن "هذا قرار تم اتخاذه ولم يُفرض على الحكومة"، مؤكدا أنها
"تفرض على الشعب نتائج فشلها وإفلاسها وتترك الأثرياء في اقتصاد الجيش
والصناديق السيادية والخاصة يعيشون في رخاء وأرستقراطية".
وتساءل: "لماذا لا تطلب الحكومة
أن يدفع الجيش أو الصناديق الخاصة ثمن القمح أو سداد بعض الديون؟"، ليجيب
بقوله: "الإجابة بسيطة؛ أموالهم مهربة خارج البلاد".