طبقت أربع عشرة دولة مجموعة واسعة من القيود المالية وتدابير الرقابة على الصادرات، والعقوبات المستهدفة، ردًا على العدوان الروسي الشامل ضد أوكرانيا. وكان القصد منها هو الحد من قدرة الأفراد الخاضعين للعقوبات على تقديم الدعم للكرملين، ومن ثم إقناع
المليارديرات الروس باستخدام جميع الوسائل المتاحة للتأثير على قرارات الرئيس الروسي فلاديمير
بوتين.
ونشرت مجلة "ناشيونال إنترست" الأمريكية
تقريرا، ترجمته "عربي 21"، قالت فيه إنه على الرغم من أن
العقوبات أدت إلى تقليص ثروة أفراد
الأوليغارشية، فإن عدد المليارديرات الروس وصافي ثروتهم الجماعية قد زاد فعليًا خلال العام الماضي منذ بدء الغزو الروسي؛ حيث ساهمت العقوبات الفردية في "التجمع حول تأثير الكرملين" وزيادة اعتماد النخب على موسكو، لكونها -في شكلها الحالي- أداة ضعيفة لتفكيك الرأسمالية المحسوبة في
روسيا، وأتاحت فرصًا جديدة لمكافأة كبار رجال الأعمال الموالين من خلال إعادة توزيع الأصول وزيادة القمع الاقتصادي ضد نخب الأعمال المتمردة.
وأفادت المجلة بأن الرئيس بوتين قام، بعد شهرين من تنصيبه في 7 أيار/ مايو 2000، بجمع 21 رجل أعمال روسيا في الكرملين، وأبرم معهم نوعًا من "العقد الاجتماعي"؛ حيث وعدهم بأن حكومته ستلتزم بنتائج الخصخصة الفوضوية في التسعينيات التي أثرت على النخبة الروسية في فترة ما بعد الاتحاد السوفييتي، وذلك في مقابل ولائهم وعدم التدخل السياسي، وهو ما أدى إلى تضخم طبقة النخبة الاقتصادية الثرية في روسيا خلال فترة حكم بوتين الطويلة.
وأوضحت المجلة أنه بعد حملة 2013 التي هدفت إلى تشديد قبضة حكومة بوتين على رجال الأعمال والنخب السياسية، قامت النخبة الاقتصادية الروسية، غير الراغبة في الانصياع لبوتين، بنقل رؤوس أموالها وإقامتها للخارج قبل عام 2014؛ حيث حصل 1993 مواطنًا روسيًا، بين عامي 2008 و2014، على "التأشيرات الذهبية" للمملكة المتحدة، والتي تتيح الإقامة للأشخاص الذين يستثمرون مليوني جنيه إسترليني أو أكثر في البلاد. وكانت الولايات المتحدة والبرتغال والنمسا من بين أكبر مصدري تأشيرات المستثمرين للأثرياء الروس، إلا أن هذه الفرص قد بدأت تتلاشى بعد فرض عقوبات ذات صلة بشبه جزيرة القرم على عدد من الأوليغارشية الروسية المرتبطة بالكرملين.
وأشارت المجلة إلى أن الحكومة الأمريكية فرضت على الفور، عقب الغزو الروسي الفج لأوكرانيا، مجموعة من العقوبات الاقتصادية والفردية المنسقة جيدًا. فيما دعا بوتين -بعد يوم من الغزو- إلى اجتماع مع أربعة عشر من كبار رجال الأعمال الروس ورؤساء الشركات المملوكة للدولة؛ حيث طالبهم بتضامن مجتمع الأعمال الروسي معه مقابل دعم حكومته، كما هدد المنشقين.
وفي الأشهر اللاحقة، خسر أباطرة رجال الأعمال الذين عبروا عن انتقادهم للحكومة الروسية أصولهم القيمة؛ فعلى سبيل المثال، باع الملياردير الروسي أوليغ تينكوف، الذي انتقد "الحرب المجنونة" ضد أوكرانيا على إنستغرام، حصته البالغة 35 بالمئة في بنك تينكوف - أحد أكبر المقرضين في روسيا - لشركة يسيطر عليها فلاديمير بوتانين، أحد المقربين من بوتين والرجل الأغنى في روسيا، وذلك بسعر أقل من ثمنها الحقيقي بـ"عشرة أضعاف".
وقالت المجلة إن التهديد المتصور لحياة الأباطرة غير الموالين أدى إلى تفاقم مخاطر الاستيلاء على الأصول؛ حيث توفي، خلال السنة الأولى من الحرب في أوكرانيا، ما مجموعه تسع وثلاثون شخصية روسية مؤثرة، بما في ذلك خمسة عشر من رجال الأعمال والمديرين التنفيذيين الروس، في ظروف غامضة، وهو ما هز نخبة رجال الأعمال الروس، ما منعهم فعليًا من التحدث علانية ضد تصرفات الحكومة الروسية في الخارج.
ووفق المجلة، فقد التزمت الدولة الروسية، على وجه الخصوص، بوعدها بدعم أباطرة مخلصين، وذلك بعد مغادرة أكثر من ألف شركة غربية روسيا، وتركوا وراءهم أصولاً تقدر بمئات المليارات من الدولارات، وقامت الدولة الروسية بتأميم هذه الأصول انتقامًا لتجميد الأصول الروسية في الخارج؛ حيث صادرت موسكو أصول إكسون موبيل التي تقدر قيمتها بأكثر من 4 مليارات دولار، وصادرت أسهم شل في مشروع سخالين مع غازبروم، الأمر الذي عاد بالفائدة على الموالين لبوتين من إعادة توزيع الثروة؛ حيث حصل جينادي تيمشينكو، حليف بوتين، على سبيل المثال، على عقد حكومي جديد لبيع الغاز الروسي المسال إلى الصين، كما أصبح يوري كوفالتشوك، المعروف باسم "مصرفي بوتين"، يمتلك الآن معظم الإنترنت الروسي.
وبحسب المجلة، فقد أيد بوتين أيضًا تغييرات في قانون الضرائب الروسي التي تعفي الأفراد الخاضعين للعقوبات من دفع ضريبة الدخل الشخصي وغيرها من الضرائب على الدخل والأصول المجمدة، لتخفيف تأثير العقوبات على الأثرياء الروس؛ حيث تنهي التعديلات الإضافية للقانون الجنائي الروسي المسؤولية الجنائية أو تخفف العقوبة على أفظع حالات التهرب الضريبي في روسيا. في الوقت نفسه، تجرم القوانين الروسية الجديدة الدعوات إلى فرض عقوبات أجنبية على روسيا أو دعم تنفيذها، وتحظر التعاون مع الهيئات الدولية "التي ليست روسيا طرفًا فيها"، مثل المحكمة الجنائية الدولية.
وأشارت المجلة إلى أن الإجراءات الجديدة التي نفذها الكرملين لحماية الموالين له من الآثار الضارة للعقوبات عززت النظام الرأسمالي المحسوب لبوتين، وحقق أغنى الأفراد في روسيا ثراءً أكبر بواقع 154 مليار دولار في آذار/ مارس 2023 مقارنةً بالعام الماضي. وتلك الثروة هي التي تتطلع إليها الحكومة الروسية لفرض ضريبة حرب جديدة لمرة واحدة لسد الفجوات في ميزانية الدولة.
وأفادت المجلة بأن الأوليغارشيين يتمتعون بوصول غير مقيد إلى ثرواتهم من خلال نقل الملكية القانونية لأصولهم إلى أفراد الأسرة، وبالنظر إلى ذلك، يجب تطبيق العقوبات على أي مرشح لديه الحقوق الرسمية في ملكية نخبة الأعمال الخاضعة للعقوبات. فيما تتمثل النقطة الضعيفة الحرجة في الشبكة الغامضة من الثقات والشركات الخارجية والشركات التابعة التي يمتلكها المليارديرات الروس هي شبكة صغيرة وسرية من الخبراء الماليين الذين يديرون ثروة الأباطرة، لذلك فإن تحديد هؤلاء المديرين الماليين وفرض عقوبات عليهم، الذين هربوا في السابق من الفحص، سيكون له أيضًا عواقب معوقة للأوليغارشيين الروس.
وأضافت المجلة أن الكشف الفعال عن أصول كبار رجال الأعمال والاستيلاء عليها يتطلب مشاركة المعلومات المالية والمصرفية والاستخباراتية بين البلدان، وهو ما تم تحقيقه من قبل مجموعة عمل النخبة والوكلاء والقلة الروسية متعددة الأطراف (ريبو)، والتي تتعاون فيها أجهزة الاستخبارات للولايات المتحدة وأستراليا وفرنسا وكندا وألمانيا واليابان وبريطانيا العظمى والمفوضية الأوروبية.
ومع ذلك، يجب أن تمتد جهود منظمة ريبو (REPO) لتشمل المزيد من البلدان؛ حيث تنتشر مصالح وأصول رجال الأعمال الروس في جميع أنحاء العالم. ولقد تم الترحيب برجال الأعمال الروس الخاضعين للعقوبات في إسرائيل وتركيا والإمارات العربية المتحدة، من بين دول أخرى. كما يجب فرض التهديد بعقوبات ثانوية وتكاليف السمعة على البلدان التي توفر ملاذات لنخب الأعمال الروسية ومشاريعها التجارية.
واختتمت المجلة تقريرها مؤكدة أن الولايات المتحدة والمملكة المتحدة والدول الغربية الأخرى تحتاج إلى حشد الإرادة السياسية لسد الثغرات أمام التهرب الضريبي وآليات مكافحة غسيل الأموال. ففي الولايات المتحدة، على سبيل المثال، تمكن 1 في المئة الأغنى من الأمريكيين من إخفاء أكثر من 20 في المئة من دخلهم باستخدام هياكل الملكية غير الشفافة وعلاقات ثقة معقدة، خاصة في قطاع العقارات والشركات الخارجية، وهي الثغرات ذاتها التي جعلت أسواق العقارات الغربية وسلطات الملاذ الضريبي ملائمة لاستثمارات الأوليغارشية الروسية.
ومن المرجح أن تواجه زيادة شفافية ملكية الأصول والمعاملات المالية، ونشر تطبيق قواعد مكافحة غسل الأموال في العقارات والقطاعات الخارجية مقاومة محلية. في الواقع، لقد اجتذبت هذه القواعد نفسها "الأموال القذرة" الروسية، وهو يعود بالفائدة على رجال الأعمال الأثرياء والمشاهير والسياسيين في الغرب.