نشأت فكرة الدولة الحديثة التي انبثقت عن اتفاقية وستفاليا
عام 1648م على استبعاد العامل
الديني عن الساحة السياسية والعلاقات الدولية؛ هي
فكرة أوروبية توصل لها الأوروبيون بعد حروب طاحنة، كانت المعتقدات الدينية لديهم هي
المحرك الأساس لتلك الحروب. وبعد ثلاثة قرون دعمت أوروبا ذاتها أتباع الديانة
اليهودية لإنشاء كيان جديد تحت مسمى "دولة"؛ يستند إلى أوهام دينية يزيد
عمرها عن ثلاثة آلاف عام.
وأوروبا ذاتها حديثا استخدمت مصطلح "الأرض الموعودة"،
وهو مصطلح ديني، في تهنئتها لـ"
إسرائيل" في ذكرى قيامها الخامسة والسبعين
وتشريد شعب عن أرضه؛ وذلك على لسان رئيسة المفوضية الأوروبية أورسولا فون دير لاين
في ذكرى ما يسمى استقلال "إسرائيل"؛ أعقب هذه التهنئة انعقاد الحكومة
"الإسرائيلية" في نفق أسفل المسجد الأقصى؛ بالإضافة إلى جملة من
الاستفزازات "الإسرائيلية" في القدس الشريف؛ ففي مصلحة مَنْ يصب استحضار
العامل الديني في الصراع؟
لا يعتبر مشروع "إسرائيل" في المنطقة مشروعا
دينيا بالدرجة الأولى؛ ولكن الأبعاد الدينية للصهيونية جاءت متقاطعة مع الأهداف
الغربية المتمثلة في حل المشكلة اليهودية في أوروبا، وإيجاد قاعدة متقدمة للعالم
الغربي المستعمر في العالم العربي. فـ"إسرائيل" استحضرت البعد الديني
للصراع بهدف جعل الحل صعب المنال؛ فستصبح مناقشة "إسرائيل" بأي حل أو
إجراء على الأرض مناقشة تتعلق بالعقائد. فالاستيطان في الضفة يعتمد على نصوص دينية
لا يمكن التلاعب بها، وهذا الاستيطان جعل من حل الدولتين التي يتمسك به العالم
الغربي حلا لا يمكن تطبيقه؛ وبات النداء به أوروبيا لذر الرماد في العيون، واكتفت
أوروبا بدور "المستثمر في عملية السلام" لتغطية فشلها في ممارسة أي دور
سياسي في الصراع.
أما الدور الأمريكي فيعتبر أكثر فجاجة في الانحياز
للخيارات "الإسرائيلية"، فصفقة القرن الأمريكية مثلا بُنيت على استحضار
الرواية الدينية "الإسرائيلية"، ولم تستطع إدارة بايدن التراجع عن
الصفقة؛ بل استمرت في الضغط على الدول العربية واحدة تلو الأخرى للانضمام لاتفاقيات
"أبراهام" للتطبيع، وهذا استحضار لمعني ديني (إبراهيم عليه السلام) محل
تقدير في الديانتين الإسلامية واليهودية؛ وانطلاق نحو
التطبيع والسلام في المنطقة
من أبعاد دينية أيضا، وهذا سلوك سياسي "إسرائيلي" خطير. ففي جانب تتمسك
"إسرائيل" بادعاءاتها الدينية في القدس وفلسطين؛ ضاربة عرض الحائط بكل
الأعراف والقوانين الدولية، وبكل المشاعر العقائد العربية والإسلامية. وعلى الجانب
الآخر يضغط الأمريكي على العرب والمسلمين للانخراط في اتفاقيات "أبراهام"
من منطلقات السلام والعيش والمشترك.
للوهلة الأولى يعتقد الكثيرون أن استحضار البُعد الديني
لا يصب في مصلحة "إسرائيل"؛ فالإجراءات "الإسرائيلية" تستفز
بشكل كبير مشاعر ربع سكان الكوكب من المسلمين الذين يُقدر عددهم بملياري نسمة وهذا
السلوك "الإسرائيلي" غير عقلاني؛ وهذا الذي اعتقدته رئيسة وزراء
"إسرائيل" جولدا مائير ليلة حرق المسجد الأقصى، ولم تنم ليلتها، لقد
كانت مخطئة بكل المقاييس، فالأقصى بالتأكيد له مكانة كبيرة في قلوب المسلمين حول
العالم، وهذا جيد؛ ولكن ما قدرة هؤلاء على التأثير؟ هل ترى "إسرائيل" هذا
العدد غثاءً لا خوف منه؟
تُعتبر الحالة التي وصلت لها "إسرائيل"
بالاستخفاف بمشاعر ربع سكان الأرض؛ حالة متقدمة جدا من الاستعلاء والتكبر، وعادة
الكِبر والاستعلاء يدفع بالقادة وحتى الأذكياء منهم لارتكاب ممارسات غير عقلانية؛
فهل ترى "إسرائيل" أن الحالة الغُثائية التي يعيشها المسلمون حاليا
ستبقى للأبد؟ ألا ترى "إسرائيل" أن ما عجز عنه قادتها المؤسسون
الأقوياء؛ بكل تأكيد سيعجز عنه أقوى قادتها الحاليين؟ ألا يقرأ قادة
"إسرائيل" أن من سمات العرب والمسلمين أنهم وإنْ طال نومهم فإنهم
يستيقظون فجأة ويقلبون الحسابات سريعا؟ ألا ترى "إسرائيل" بعد كل بطشها
بالجيوش والشعوب العربية؛ كيف خرجت لها جيوش على حدودها الجنوبية والشمالية، تمثل
طليعة مهمة لمشروع التحرير والعودة؛ ينتظرون نصرة العرب المسلمين لها؛ لتذيق
"إسرائيل" أضعاف ما أذاقته للشعوب العربية على مدار السنين الطويلة؟