ثمة حاجة اليوم لدراسة الشكل الذي أخذه النقاش حول الدولة، والاشتباك
بين الديني والسياسي في عهد
الإصلاح الديني بأوروبا، ذلك أن ثمة كتابات كثيرة غربية
وعربية، تحاول أن تقرأ نشأة الحركات الإسلامية في السياق العربي الإسلامي، بتشابه
السياقات، وتحاول أن تقرأ المآل الذي انتهى إليه الفكر الأوروبي، على أساس أنه
حتمية حداثية، تنتهي معها التيارات الإسلامية كما انتهت معها التيارات التي قامت
على خلفية الإصلاح الديني أو على الأقل تطورت، وشكلت الأساس للفكر الحداثي.
ولئن اختبار فرضية التشابه، وفرضية تطور حتمية تطور الحركات
الإسلامية، واستحالتها إلى تيارات علمانية على شاكلة الأحزاب المسيحية الأوروبية،
يتطلب الحفر في تجربة الإصلاح الديني، يأتي هذا المقال البحثي، ليحفر في هذه
التجربة ويحاول الإمساك بموقع الدولة في الإصلاح الديني وحدود الاشتباك بين الديني
والسياسي في أدبياتها.
في طبيعة حركات الإصلاح الديني بأوروبا
يكشف الرصد التأريخي لسياق نشأة حركات الإصلاح الديني في
أوروبا،
تباين التفاسير التي تقدم لطبيعة هذه الحركات التي نشأت في أواخر القرن السادس عشر
الميلادي. فبينما يجنح البعض إلى أن طبيعة هذه الحركات ثيولوجية محضة لا علاقة لها
بالسياسة، يتبنى البعض الآخر تقييما مختلفا، فيرى أن الإصلاح الذي بدأ بطبيعة
ثيولوجية خالصة، كان القصد منه التأسيس لرؤية مختلفة لعلاقة السلطة الدينية
بالسلطة الزمنية، والتأسيس الديني لتحجيم نفوذ الكنيسة.
لكن مهما يكن الاختلاف بين هذا التقييمين لطبيعة حركات الإصلاح
الديني، على الأقل في الصورة اللوثرية، فإن الاختلاف لم يحصل حول الجوهر الذي
انطلقت منه هذه الحركة، كونها اجتهدت في تقديم تفسير مختلف للنص الديني، أثار جدلا
كبيرا داخل المؤسسة الدينية المسيحية، وتسبب في خروج تأويل جديد للمسيحية، اعتمد
أساسا للبروتستانتية.
هذا التأرجح في تقييم طبيعة حركات الإصلاح الديني الذي عرفتها أوربا،
بين تثوير الفكر الديني من زاوية ثيولوجية خالصة، أو الاشتغال على التأسيس لثورة
اجتماعية وسياسية من أرضية تثوير النص الديني، يعين في تقريب مفهوم هذه الحركات،
وطبيعة الإصلاح الذي كانت تتبناه، مما يتطلب التوقف عند الوظيفتين: التثوير
الديني، والتثوير السياسي.
حركات الإصلاحي الديني.. وظيفة تجديد فهم النص الديني
لا تختلف كتب التأريخ للفكر للسياسي الحديث، في كون الإصلاح الديني
بدأ مبكرا مع جهود سبقت الجدل الثيولوجي الذي انخرط فيه لوثر، ممهدا لثورة دينية،
وضعت اللبنات الأولى لثورة اجتماعية ضد سلطة الكنيسة.
فقد برزت الإشراقات الأولى للإصلاح الديني في أوربا منذ العصر الوسيط
مع جهود عدد من القديسين، وفي مقدمتهم توما الإكويني، الذي يعتبر من منظري
المسيحية البابوية الذي عني بإرساء ما يسمى بالفكرة الجامعة التي حاول، من خلال
الـتأصيل الديني لمقوماتها، أن يؤسس لمفهوم الدولة الموجهة لتحقيق الخير العام،
حيث اتجه توما الإكويني إلى معالجة توتر العلاقة بين السلطتين الدينية والزمنية
بقدر من الحكمة.
فمع إقراره بأن السلطة الروحية والسلطة الزمنية تصدران كلاهما عن
السلطة الإلهية، إلا أنه اعتبر أن خضوع هذه السلطة لتلك، يكون بالقدر الذي أخضعها
الله فيه إليها، أي ما يتعلق بخلاص النفس، أما الموضوعات التي تتعلق بتدبير
المدينة، فإن السلطة الزمنية هي الأولى بالطاعة. كما أن الاجتهاد الذي قدمه توما
الإكويني، فيما يخص تحديد طبيعة النظام السياسي، وتقديمه لمفهوم جديد للملكية
بإدماج مفهوم الجدارة، وبعض من لوازم الديمقراطية فيه، يعتبر من أهم الجهود
الإصلاحية التي حاول أن يؤسسها من خلال فهمه للنص الديني، ففي كتابه "الخلاصة
اللاهوتية" أدخل مفهوما جديدا لإصلاح الملكية، هو ما سماه بـ"النظام
الذي أحكمت مقاديره"، والذي يقر فيه بأن أفضل نظام للحكم هو الذي ينفرد بحكم
الدولة فيه فرد واحد، ويعتبر أن الملك أو
الأمير لا يستطيع وحده أن يؤمن الخير العام للشعب إلا إذا استند إلى الشعب، بما يعني ذلك دعوة لتعاون جميع
القوى الاجتماعية المفيدة للمصلحة العامة، لكي تتولى قيادتها وتوحيدها. فالنظام الأفضل حسب المنظور الإصلاحي الإكويني
هو الذي يرتكز على الملكية غير المطلقة، التي يختار فيها إنسان واحد من
الأرستقراطية يقوم بدور الحكم، ويمارس معه كثيرون السلطة بسبب جدارتهم، ويساعده في
ذلك أناس يتم اختيارهم من قبل الشعب عبر الانتخاب .
انطلقت المراجعات الثيولوجية في فكر لوثر من إعادة النظر في طبيعة الإنسان، والميل نحو تأكيد فكرة تفاهة الإنسان الكاملة وعدم جدارته، ووقوفه على خط الافتراق من قناعات توما الإكويني، التي كانت تتأسس على النظرة العالية لفضائل الإنسان وقدراته، والتي تقاطع فيها مع آراء أصحاب النزعة الإنسية
وإذا كانت آراء توما الإكويني الإصلاحية الجريئة، قد صيغت بمنطق
تجميعي يراعي فكرة الإبقاء على السلطة العليا في يد من اتحدت لديه السلطة الروحية
والسلطة الزمنية (حالة البابا)، فإن الأدبيات الثيولوجية التي قدمها مارتن لوثر،
انشغلت بشكل كبير بالأسس الدينية، وبشكل خاص، ما يرتبط بالعقيدة المسيحية،
ومفاهيمها المركزية، دون توغل في قضايا السياسة، على النحو الذي جعل
البعض ينفي الطابع السياسي عن أفكاره، في حين أن مؤدى هذا الإصلاح في الحقل
الثيولوجي الديني، لم يكن سوى ترتيب نتائج سياسية تتعلق بالتأسيس لعلاقة جديدة بين
السلطة الزمنية والسلطة والروحية، وخوض معركة كبيرة على صلاحيات الكنيسة وسلطاتها
الواسعة، بل خوض معركة على فساد الكنيسة ورجالاتها .
يقدم سكنر، كوينتن، مؤرخ الفكر السياسي الحديث بأوربا، استعراضا
كثيفا لتطور فكر مارتن لوثر، يرصد فيه تطور العقيدة اللوثرية من خلال أدبياته
المتلاحقة، وذلك انطلاقا من بداياته الأولى، مع الفعل الشهير الذي قام به عندما
أقدم على تعليق خمسة وتسعين أطروحة على بوابة كنيسة القلعة في ويتنبرغ عام 1517
بمناسبة مساء جميع القديسين، بعدما قضى أزيد من ست سنوات على تصدره كرسي
الثيولوجيا في جامعة ويتنبرغ .
انطلقت المراجعات الثيولوجية في فكر لوثر من إعادة النظر في طبيعة
الإنسان، والميل نحو تأكيد فكرة تفاهة الإنسان الكاملة وعدم جدارته، ووقوفه على خط
الافتراق من قناعات توما الإكويني، التي كانت تتأسس على النظرة العالية لفضائل
الإنسان وقدراته، والتي تقاطع فيها مع آراء أصحاب النزعة الإنسية.. وقد كانت أدبيات لوثر السجالية التي خاضها ضد
الإنسانيين في هذه القضية تروم إثبات فساد الإنسان، وعبوديته الكلية للخطيئة، واستحالة تحقق القدرة والإرادة في ظل فساد الإنسان
وعبوديته للخطيئة، لأن جميع أفعال الإنسان ـ حسب لوثر ـ تصدر من طبائع الإنسان
المبتعدة عن الله والشريرة.
ثم تأتي اللحظة الثانية في العقيدة التكوينية لمارتن لوثر، وهي لحظة
إعادة صياغة العلاقة بين الله والإنسان، إذ أقر بأن أوامر الله تبدو للإنسان غامضة
وملغزة لأنه عاجز عن الأمل في فهم طبيعة الله وإرادته، وأن هذه الأوامر يجب أن
تطاع لأنها أوامر الله، حتى ولو لم تبد للإنسان عادلة. ويتوقف سكنر كويتن على
التمييز الذي أقامه لوثر في طبيعة الله، بين الطبيعة التي يكشف الله عنها عن طريق
الكلمة، والطبيعة التي يعجز البشر عن فهمها فهما كليا. وقد انتهت هذه المقدمات
الثيولوجية إلى إجبار لوثر على الاقتناع بنتائجها، والإقرار تبعا لذلك، بأن كل
أفعال الإنسان تعبر عن طبائعه الساقطة، وأنه لا رجاء له بعمل يمكن أن يبرره أمام
الله ويساعده على النجاة والإقرار أيضا بأن الله وحده، هو الماسك بخيوط المستقبل،
يقرره كيف يشاء لاسيما ما يتعلق بالخلاص.
ويستأنس سكنر بمسار حياة لوثر، لتفسير التحولات النفسية والفكرية
التي عاشها، وأثرها على صياغة أفكاره الثيولوجية، ويخلص إلى أن مسار حياته، كما
حكاه لوثر نفسه في سيرته، قاده إلى رؤية جديدة، أخرجته من أزمته الروحية، وساهمت
في ولادته الثانية، انطلقت من تأمله في مفهوم البر الإلهي كما ورد في المزمور 30
(خلصني بربك) ليستعيد التوازن بضم لازمة ثانية لعقاب الرب للخطأة من البشر، وهي
استعداده أن يرحم الخطائين من البشر. وقد
شكلت هذه الرؤية الجديدة في مسار أزمته الروحية، العلامة الفارقة التي دفعته لأخذ
مسافة كبيرة عن البابوية وعن الكنيسة الكاثوليكية.
وقد كان من نتائج هذه الرؤية إعلان لوثر الحرب على الوساطة الدينية،
ممثلة في الكنيسة ورجالها، إذ أكد أن المجال بات مفتوحا أمام أي إنسان ليرى نعمة
الله المخلصة للذين قدر الله أن يكونوا من الناجين. فلم تعد مع عقيدة لوثر معضلة
بين أوامر الله المستحيلة ووعوده المخلصة ، ما دام أن العجز عن إحراز الخلاص عبر
تطبيق أوامر الناموس يمكن الاستعاضة عنه بسرعة ويسر عن طريق الإيمان وأن الوصول إلى هذا الإيمان هي الوسيلة الوحيدة
التي تمكن الإنسان من الخلاص، وأنه لا حاجة لوساطة أو سلطة وسيطة تقود الإنسان إلى
تحقيق الخلاص، وأن الجميع لهم نفس الفرص لتحصيل الإيمان، وعلى أن يكونوا روحيين
وشعبا مسيحيا وتبعا ذلك، فقد أضحت اللوثرية عقيدة جذابة، لكونها أكدت على أن
الإنسان بلغ درجة كبيرة من الفساد لم يعد معها أي خيار سوى أن يبادر إلى الندم على
خطاياه والإيمان برحمة الله وغفرانه، وأن
هذا الإيمان وحده هو سبيل الخلاص من الخطيئة، لا في الأعمال الي ترهن الكنيسة بها حصول الخلاص من الخطيئة.
أقرّ لوتر بأن أوامر الله تبدو للإنسان غامضة وملغزة لأنه عاجز عن الأمل في فهم طبيعة الله وإرادته، وأن هذه الأوامر يجب أن تطاع لأنها أوامر الله، حتى ولو لم تبد للإنسان عادلة.
هذا التثوير للنص الديني المسيحي، المعلن لفك الارتهان عن السلطة
الكنسية، ووساطتها في تحقيق الخلاص، والمقر والمعترف بحق كل مسيحي بالحق في تفسير
الكتاب المقدس والاستقلال بسبيل تحقيق خلاصه عبر الإيمان، مثل في الجوهر ثورة
جديدة داخل الكتاب المقدس نفسه، إذ فتح لوثر الطريق أمام كلفن، وفتح كالفن الطريق
أمام فولتير، وفتح فولتير الطريق أمام رينان لتتراكم اللبنات لتشكل حجارة أساس
لبناء جديد.
من جهة أخرى، لا ينبغي أن نغفل الدور المركزي الذي قام به كالفان، في
تثوير النص الديني، وتقديم تفسير نسقي جديد للمسيحية وفقا للمبادئ البروتستانية،
ضمنه كتابه "قواعد الدين المسيحي"، أرسى أسسه في مدينة جنيف، بعد أن دعي
إليها لتنظيم شؤونها بعد استقلال من دوق سافوري، وانعكست آراء كالفن على طريقته في
تدبير شؤون هذه المدينة، إذ عهد إلى الوزراء
والشيوخ إدارة الشؤون الدينية، وأدمج السلطة المدنية بالسلطة الدينية، وأشرك رجال
السياسة في إدارة أمور الكنيسة، وأعطى للكنيسة الحق في مراقبة الآداب ومعاقبة من
يتخلف عن الصلاة أو يأتي الفحشاء والمنكر.
وقد حاول كالفان أن يزيح الالتباسات عن عقيدة لوثر، ويميل نحو
تنظيمها وعقلنتها وإزالة الفراغات التي تكتنفها، فاتجه أولا، إلى الوصل في قراءته
للمسيحية بين العهد القديم والعهد الجديد، ومحاولة إقامة الوحدة بين الزمني وبين
الروحي، فانتقد بشكل ضمني عقيدة لوثر التي تعتبر المسيحي أجنبيا في العالم حيث
وضعته مشيئة الله، بل أقر أن للمجتمع أهدافا مادية مسكينة مثل ازدهار الأفراد ضمن
النظام، وأن له غايات أسمى تتمثل في أن يظهر التدين على المسيحيين، وأن تسود
الإنسانية بني البشر. كما اتجه إلى ترسيم العلاقة بين القانون الإلهي وبين السياسة
العقلانية، بالتأكيد على ضرورة هذه السياسة، وضرورة احترام مشروعية السلطة بحكم أن
الله هو الذي أسسها.
أما بخصوص شكل النظام وطبيعته، فقد أكد كالفن في كتابه
"المؤسسة" أن الخيار النظري بين أشكال الحكم المختلفة لا يعني المصلح في
شيء، وأنها قضية تقنية وفنية وقضية ظروف.