هنالك الكثير الجوانب المطلبية، المشروعة بقدر ما هي إشكالية في قليل أو كثير، تكتنف حركات الاحتجاج المتواصلة منذ أسابيع ضدّ تشريعات إصلاح أنظمة
التقاعد في
فرنسا، والتي باتت تُختصر في معادلة تمرير القانون الناظم لتلك الإصلاحات أو سحبه على نحو جذري غير جزئي أو تلطيفي.
كذلك بات جلياً أنّ جولات الحراك المتعاقبة تحولت إلى صراع تناطحي بين الرئيس الفرنسي إيمانويل
ماكرون وحكومة إليزابيث بورن من جهة أولى، ونقابات العمال والمستخدمين على اختلاف توجهاتها الإيديولوجية والطبقية من جهة ثانية؛ ضمن منطق أقرب إلى حرب مفتوحة مطوّلة، لن تتكفل معركة واحدة بحسمها، حتى إذا بقيت قواعد الاشتباك في جبهاتها مستقرة ومتفقاً عليه.
ثمة، في المقابل، أسئلة تتجاوز الجوانب المطلبية إلى أخرى ذات طابع مختلف أكثر تعقيداً، وأقلّ جلاء أمام الجمهور العريض من حيث الاشتغال والأثر على الأقلّ، يمكن أن تبدأ من العمارة السوسيولوجية للحركات الاحتجاجية، وقد يصحّ ألا تنتهي عند الثقافة السياسية المعيارية في فرنسا الراهنة، فضلاً عن الجوهري بين هذه الأسئلة أو تلك: أين الديمقراطية الفرنسية، كنظام وبنية ومؤسسات، من هذا الحراك الاجتماعي والسياسي والنقابي والحقوقي والدستوري؟ وإذا كان ماكرون قد نصّ في برنامجه الانتخابي على إقرار هذه الإصلاحات، وقد انتُخب بالفعل استناداً إليها، فكيف يُلام إذا اختار الوفاء بوعوده وذهب إلى التنفيذ؟ وأيضاً، كيف يُقرأ تصريحه الاستفزازي بأنّ «الحشد لا يملك شرعية في وجه الشعب الذي عبّر عن نفسه من خلال ممثّليه المنتخبين».
ولعلّ السؤال الأكثر اشتمالاً على المعضلة، أو تشكيل المأزق في واقع الأمر، تختصره هذه المعادلة البسيطة، هائلة الدلالات في المقابل: 6 من أصل كلّ 10 فرنسيين صاروا من فئة الممتنعين عن التصويت في غالبية الانتخابات البلدية والمناطقية والتشريعية والرئاسية، فبأيّ معنى يمكن الحديث عن تمثيل شعبي في الجمعية الوطنية (البرلمان الفرنسي) لا يتجاوز ثلث سكان فرنسا؟ واستطراداً، أيّ فارق في أن يصوّت مجلس الشيوخ (غير المنتخَب) على مشاريع إصلاح التقاعد، وتلجأ الحكومة إلى المادة 3ـ49 من الدستور لتمرير المشاريع إياها رغماً عن المجلس المنتخَب، ومن دون تصويته؟
السؤال التالي، المتفرّع منطقياً وسياقياً عن الأسئلة أعلاه، يخصّ شخصية الرئيس الفرنسي ماكرون، صانع تشريعات التقاعد وموضوع سخط الشارع الغاضب؛ الذي لم يكن، مع ذلك، إلا خيار شرائح واسعة من الساخطين اليوم حين توجهوا إلى صناديق الاقتراع لانتخابه رئيساً، مرّتين، لقطع الطريق على مرشحة اليمين المتطرف مارين لوبين.
هذه المفارقة، وهي واحدة ضمن سلسلة متماثلة تارة أو متناقضة تارة أخرى، كانت تتوّج بصمة ماكرون الأهمّ في الحياة السياسية الفرنسية المعاصرة خصوصاً، وتقاليد قرابة نصف قرن من الجمهورية الخامسة عموماً: أنّه نجح في تحييد اليسار (التقليدي على الأقلّ، وفي طليعته الحزب الاشتراكي والخضر) أسوة باليمين (التقليدي بدوره، إرث شارل دوغول ثمّ فيليب سيغان/ جاك شيراك، ونيكولا ساركوزي)؛ ولكنه اقتفى، جوهرياً، مسارات يمين ليبرالي سياسي واقتصادي واجتماعي، أتقن لعبة تمويه التوحّش الرأسمالي في فلسفات أخلاقية وإصلاحية غائمة.
6 من أصل كلّ 10 فرنسيين صاروا من فئة الممتنعين عن التصويت في غالبية الانتخابات البلدية والمناطقية والتشريعية والرئاسية، فبأيّ معنى يمكن الحديث عن تمثيل شعبي في الجمعية الوطنية (البرلمان الفرنسي) لا يتجاوز ثلث سكان فرنسا؟
وقد يجهل الكثيرون أنّ أحد أبرز مشاهير الفلسفة في عالمنا المعاصر، يورغن هابرماس، الألماني مع ذلك، كان أيضاً أحد أبكر المرحبين بانتخاب ماكرون للدورة الرئاسية الأولى سنة 2017؛ حيث سار بعض التهليل هكذا: «يندر أنّ صعوداً غير متوقَّع مثل هذه الشخصية الفاتنة، الاستثنائية في كلّ حال، شهد بهذه الدرجة على حالات التاريخ الطارئة.
ماكرون يمتلك ثلاث خصال خارجة عن الإطار المعتاد: شجاعته في صياغة السياسة، ثمّ وعيه الدقيق بالحاجة إلى إصلاح المشروع الأوروبي الذي تولّته النُخب حتى الساعة وينقله ماكرون اليوم إلى المواطنين اتكاءً على الشرعية الديمقراطية الذاتية للمواطنين، وأخيراً حقيقة أنه يؤمن بثقل الكلمات، قوّة الإفصاح عن التأمل، وتدبُّر الإقناع».
إطناب من عيار ثقيل، غنيّ عن القول، سوف يتصادى مع تيار آخر فرنسي هذه المرّة، «اكتشف» أنّ ماكرون تلميذ نجيب لفيلسوف الإنسانيات الفرنسي بول ريكور (1913-2005)؛ صاحب أعمال تأسيسية مثل ثلاثية «فلسفة الإرادة» و«التاريخ والحقيقة» و«الذات بوصفها آخر».
ولم نعدم كاتباً فرنسياً، فرنسوا دوس، أصدر في مطلع رئاسة ماكرون الأولى كتاباً بعنوان «الفيلسوف والرئيس: ريكور وماكرون»؛ ساجل فيه بأنّ برامج الأخير تتناغم مع فلسفة الأوّل في جوانب أخلاقية عديدة، وتأويل أشغال التاريخ، واستكمال واجبات الذاكرة، والالتزام بطراز من العلمانية مفتوح على حسن النوايا والاستضافة وتفعيل النظام الديمقراطي، وسوى ذلك. ليس مدهشاً أنّ المؤلف ذاته عاد وأصدر كتاباً ثانياً عنوانه «ماكرون أو الأوهام الضائعة ـ دموع بول ريكور» يستخلص فيه (ولكن دون أن يتراجع عن خلاصات كتابه الأوّل!) أنّ الفيلسوف يدمع حزناً على ما آل إليه الرئيس.
وبين مفاعيل هذَين الاستقطابين، خلف حراك الشارع الشعبي اليوم ضدّ تشريعات التقاعد، يتعاظم مأزق ديمقراطية قوامها حشود تمتنع عن التصويت بمعدّل 6 من كلّ عشرة مواطنين، مقابل سلطة تنفيذية يترأسها ليبرالي عتيد أحال اليسار واليمين إلى الصفوف الخلفية.
ثمة استقطاب ثالث يخصّ الحاضر الفرنسي تحديداً، ضمن منظور الخروج إلى الشارع كوسيلة كبرى للاحتجاج والسعي إلى التغيير، وفي إطار نقاش كهذا يصعب على المرء إغفال ظاهرة السترات الصفراء التي عمّت فرنسا قبل خمس سنوات، من زوايا عديدة لعل الأكثر التصاقاً منها بسياقات الراهن هي حكاية التأويل: أهي حركة أنذرت بولادة «ائتلاف الريف والمدينة» أو «صحوة الطبقة العاملة» أو «انتفاضة الطبقة الوسطى»؛ أم هي، على الضفة الموازية، كسر لمعادلة ماكرون في تحييد اليمين واليسار، أو مطالبة بطيّ صفحة الجمهورية الخامسة، أو تسجيل عودة الإيديولوجيا؟ الأوضح مع ذلك، والأشدّ واقعية وصواباً، كان الإقرار بأنّ الحركة وليدة حزمة الضرائب ذاتها التي وعد بها المرشح الرئاسي ماكرون في برنامجه الانتخابي؛ بل كانت أقرب إلى «بصمة» شخصية» تحدّد مسارات رئاسته.
وكان فيلسوف آخر غير هابرماس، هو عالم الاجتماع والمفكر الفرنسي بيير بورديو (1930 ـ 2002) أحد آخر الكبار المحترمين الذين كرّسوا الكثير من الجهد المعمّق المنتظم والمنهجي لدراسة ظواهر السياسة اليومية في فرنسا المعاصرة. ولقد ظلّ بورديو شديد القلق إزاء شبكة العلاقات المعقدة بين رأس المال المعاصر والخطاب السياسي الشعبوي، أو حتى الشعبوي، وكان بالغ الحصانة ضدّ إغواء الألعاب النظرية ما بعد الحداثية التي تطمس التاريخ كشرط أوّل لافتتاح اللعب.
ولم يكن غريباً بالتالي أن بورديو، صحبة نفر قليل من ممثلي هذه الأقلية، شارك في اجتماع شهير مع القيادات النقابية الفرنسية لاتخاذ قرار الإضراب الشامل الواسع الذي شلّ مختلف قطاعات الحياة اليومية الفرنسية أواخر العام 1995. ولم يكن غريباً، أيضاً، أنه آنذاك وضع إصبعه على الغور العميق للجرح الحقيقي، أي اغتراب المجتمع الفرنسي بين خيارين أحلاهما مرّ، بل شديد المرارة: الليبرالية الهوجاء التي تخبط في الإصلاح خبط عشواء، والبربرية الوقحة لنفر من التكنوقراط يرون أنهم يعرفون الدرب إلى سعادة الأمّة أكثر من الأمّة نفسها.
وتلك وجهة أخرى لتشخيص الداء الراهن لديمقراطية فرنسية ترسل إلى الشارع ملايين الرافضين، ولكنها لا تلاقي صندوق الاقتراع إلا بنسبة الثلث التي تسفر عن صعود أمثال ماكرون، وسنّ التشريعات طبقاً للمادة 3ـ49. وللحشود أن تعترض، ما شاء لها السخط….
القدس العربي