الغرور الذي أصاب فوكوياما في كتابه
"نهاية التاريخ" باعتبار "الديمقراطية الليبرالية" هي نهاية
التجارب البشرية في أنظمة الحكم، يبدو اليوم كفقاعة مضحكة، بعد أن دارت عجلة
الزمان، أو "التاريخ" في بضع سنين، أكثر من دورة كاملة، وبدت كثير من
الثوابت الراسخة في
السياسة والاقتصاد وحتى في العلم العسكري، مجرد كثبان رملية!
لو قال لك أحدهم قبل بضع سنين، إننا سنعيش
في غضون سنوات قليلة عصر "بداية النهايات" لاستلقيت على ظهرك لفرط الضحك
والسخرية، ولكن الذي يجري اليوم على غير صعيد، وفي أكثر من بقعة من
العالم، يؤكد
أننا في مستهل زمن جديد، يصعب على أكثر المحللين الاستراتيجيين بعد نظر التكهن
بشكل العالم في نهاية "عصر بداية النهايات"!.
ولنبدأ من الأقربين لنا، مشروع الاستعمار
الصهيوغربي في فلسطين، فما يحدث فيه اليوم غير مسبوق، ويكاد يكون غير مصدق، ومن
تتاح له فرصة الإطلال على خطابهم الإعلامي، يلمس أن العقل الجمعي الصهيوني يعيش
حالة صدمة تاريخية، لم يسبق له أن عاشها من قبل، بل هناك حالة ذعر عامة تلمسها لدى
من يمكن أن نسميهم "عقلاء" الصهاينة، في الإعلام والسياسة وبعض العلوم
الاجتماعية، هؤلاء لديهم قدرة على استشراف المستقبل بدون تهويل أو تهوين، ويكاد
معظمهم يتفق على أن الكيان يعيش بداية حقبة نهايته، الحديث اليوم عن نهاية
"إسرائيل" لم يعد مقتصرا على التنبؤات واستقراء الأرقام وصناعة
"الرغبات" بل غدا واقعا ملموسا، يجري الحديث عنه على لسان كثيرين من
أصحاب المشروع، حتى نتنياهو نفسه وإيهود باراك، وهيرتصوغ تحدثا عن مخاوفهم من عدم
وصول الكيان إلى سن الثمانين، وكان هذا قبل انفجار الأوضاع فيه بعد آخر انتخابات
نيابية، وما تلا ذلك من محاولة اليمين الفاشي "خطف" المشروع"
الصهيوني برمته من جيل "المؤسسين"..
باختصار "إسرائيل" اليوم بدأت
حقبة نهايتها، كم يستغرق هذا الأمر؟ ما الصورة التي سيبدو عليها المشهد الختامي؟
لا ندري، ولا يمكن أن ندري قبل أن يصبح هذا واقعا!
"النهاية"
الثانية التي لا تقل في حجمها وأهميتها عن نهاية المشروع "الصهيوغربي"
هو نهاية الدولار، ولا تحتاج رؤية مشهد هذا الأسطورة وهو يبدأ رحلة السقوط، إلى أن
تكون عالما في الاقتصاد، فثمة كم هائل من الأحداث والأخبار والوقائع تقول إن هذا
الوحش المهيمن على الاقتصاد العالمي بدأ يعيش بداية عصر نهايته، والدلائل كثيرة
جدا، وليس آخرها اتفاق بعض الدول المنتجة والمستهلكة للنفط على البيع والشراء
بالعملات المحلية لا بالدولار، وهذه الخطوة إن تمت وامتدت على بقية التعاملات
المالية والتجارية في العالم، فسيعني هذا فعلا انتهاء عصر تلك العملة المهيمنة،
ويبدو أن ما يحدث اليوم سائر بهذا الاتجاه، بل ثمة من يعتقد أن حكاية
"النهاية" لن تقف عند حدود نهاية الدولار كعملة دولية، بل نهاية العملات
الورقية أصلا، وبشكل تام واختفائها من حياتنا لصالح العملات الرقمية.
مشهد أو عصر بداية النهايات، هو في الحقيقة بالغ التعقيد، وربما يحتاج إلى تطبيق خوارزمية عبقرية لإعادة ترتيبه، فالفوضى التي ترافق الانهيارات الكبرى المصاحبة للنهايات، يصعب "ترتيبها" حتى بالكلمات، أو بالرسوم البيانية التوضيحية، ذلك لأنها متعلقة بتحول أهرامات صمدت لعصور طويلة إلى مجرد كثبان رملية، وهذا أشبه ما يكون بالخيال العلمي الشائع في الأفلام المختصة بهذا اللون من الخيال.
نهاية الدولار تعني حكما نهاية حقبة سيطرة
"القطب" الأمريكي على العالم، وبداية تفكك "الحكومة الدولية"
التي يمثلها نظام "مجلس الأمن" ولعل هذا الأمر يحدث أقرب مما نتوقع،
خاصة وقد بدأ الحديث عن "طرد" الاتحاد الروسي من نادي الخمسة الكبار
أصحاب حق الفيتو، مع ما يرافق هذا من مطالبات لدول أصبحت "كبرى" فعلا،
بالدخول إلى نادي الفيتو، وغير بعيد عن مشهد نهايات سيطرة القطب الواحد، وما رافق
هذا من تداعيات جراء الحرب الروسية في أوكرانيا، ربما يكون نتيجة مباشرة أو غير
مباشرة له، بداية نهاية "الاتحاد الأوروبي" كوحدة واحدة، لصالح القطريات
الأوروبية، وربما يكون خروج بريطانيا من هذا الاتحاد المؤشر الأقوى على هذه
"النبوؤة"!.
مشهد أو عصر بداية النهايات، هو في الحقيقة
بالغ التعقيد، وربما يحتاج إلى تطبيق خوارزمية عبقرية لإعادة ترتيبه، فالفوضى التي
ترافق الانهيارات الكبرى المصاحبة للنهايات، يصعب "ترتيبها" حتى
بالكلمات، أو بالرسوم البيانية التوضيحية، ذلك لأنها متعلقة بتحول أهرامات صمدت
لعصور طويلة إلى مجرد كثبان رملية، وهذا أشبه ما يكون بالخيال العلمي الشائع في
الأفلام المختصة بهذا اللون من الخيال.
إن الحديث عن نهايات كثير من الأشياء هنا
يطول، كنهاية سيطرة غوغل ـ مثلا ـ على "سوق البحث" على الشبكة
العنكبوتية، لصالح تطبيقات البحث الجديدة المعتمدة على الذكاء الصناعي، كتطبيق
"تشات جي بي تي" الثوري وغيره، بل ربما يمكن الحديث أيضا عن نهاية
المسيحية كدين تبشيري، فقد مضى كما يبدو العهد الذي ينشط فيه المنصرون في
"تنصير" قبائل إفريقيا، بل يبدو أن الديانة النصرانية بدأت بالدخول إلى
مرحلة عاشتها اليهودية من قبل، حين كفت عن أن تكون ديانة تبشيرية ممتدة، لتصبح
دينا منغلقا على نفسه، من الصعب أن يحافظ على وجود "المؤمنين" به داخله،
فما بالك بجلب مؤمنين جدد من خارجه؟
وماذا عن العرب، وقوميتهم، وممالكهم
وجمهورياتهم ومشيخياتهم؟
هؤلاء ليسوا بمنأى عن الدخول في عصر بداية
النهايات، فهم جزء خطير من التصدعات التي تضرب البنى التقليدية في العالم كله،
وبعضهم أصلا "رجع صدى" لما يحدث في بلاد الفرنجة، وربما تكون نهايات تلك
الكيانات "المفتعلة" أكثر سرعة مما يحصل على الضفة الأخرى من العالم.
وللحديث بدايات أخرى عن نهايات وشيكة، ذلك
أن كل ما تقدم من حديث هو مجرد عصف ذهني سريع، لرسم صورة أو "سكتش" أولي
وبدائي لما سيحصل، ولما بدأ بالحصول.