مع كل ذكرى لاحتلال
العراق، تجترُ الشائعات والأوهام نفسها والتي تتعلق بالموقف من هذا الاحتلال، ويغفل الجميع، إغفالا متعمدا ومنهجيا، المواقف التي سبقت أو أعقبت ذلك الاحتلال، باستثناء الطرف الكردي الذي لم يغير موقفه الواضح منذ البداية!
مرّر الكونغرس الأمريكي عام 1998 «قانون تحرير العراق» الذي نص على «مساعدة الساعين لإزالة النظام الذي يرأسه صدام حسين من السلطة في العراق والتشجيع على ظهور حكومة ديمقراطية لتحل محل هذا النظام». وقد تضمن القانون تخويل الرئيس بيل كلينتون بتقديم مساعدات محددة «للمنظمات العراقية الديمقراطية المعارضة» (بلغ مجموع هذه التخصيصات 99 مليون دولار أمريكي) وقد طلب القانون من الرئيس تحديد هذه المنظمات «الديمقراطية» المفترضة، والتي من شروطها «أن تضم عضوية متنوعة من الأفراد العراقيين المعارضين» وأن تكون «متمسكة بالقيم الديمقراطية، وباحترام حقوق الإنسان»!
ثم أصدر الرئيس الأمريكي بيل كلينتون القرار (P.D. 99.13) الذي حدد سبع منظمات/ جهات يجدها مؤهلة لتلقي ذلك التمويل، وهي: المؤتمر الوطني العراقي، والوفاق الوطني العراقي، والمجلس الأعلى للثورة الإسلامية، والحزب الديمقراطي الكردستاني، والاتحاد الوطني الكردستاني، والحركة الإسلامية في كردستان العراق [جند الإسلام، أو أنصار الإسلام بقيادة ملا كركار]، والحركة الملكية الدستورية. وهنا يتضح أول موقف تدليس في سياق الإعداد لاحتلال العراق؛ إذ لا يمكن لعاقل أن يصف هذه المنظمات السبع بأنها منظمات ديمقراطية، فالمنظمات الثلاث الأهم ضمنها كانت ذات طبيعة قومية وطائفية صريحة ومعلنة، كما أن اثنين من هذه المنظمات هي ذات طبيعة دينية متشددة، وكانت ترى في الديمقراطية «كفرا وإلحادا»!
وتابعت إدارة الرئيس جورج بوش في كانون الأول/ ديسمبر 2002 توزيع الوجبة المتبقية من المبلغ المخصص لتلك التنظيمات، باستثناء الحركة الإسلامية في كردستان التي تم رفعها من قائمة التمويل في تكريس لموقف الولايات المتحدة باعتبار تلك التنظيمات كيانات «ديمقراطية»!
والمفارقة هنا أن الولايات المتحدة كانت قد أعلنت في عام 1993، أي في إدارة الرئيس بيل كلينتون نفسه، ما أسمته «سياسة الاحتواء المزدوج» تجاه
إيران والعراق، وكانت تهدف إلى احتواء قدرة إيران العسكرية ومحاولة عزلها عن المجتمع الدولي. لكنها، في الوقت نفسه، لم تجد حرجا في التعاطي مع المجلس الأعلى للثورة الإسلامية في العراق الذي تأسس عام 1982 بقرار شخصي من آية الله الخميني نفسه لجمع المعارضين «الشيعة» العراقيين تحت مظلة واحدة، وكان آية الله محمود الهاشمي الشاهرودي، أحد أعمدة النظام في إيران، أول رئيس له قبل أن يستلم محمد باقر الحكيم رئاسته في العام 1986! وكان لهذا المجلس جناحٌ عسكري يحمل اسم «فيلق بدر» يقاتل تحت إمرة الحرس الثوري الإيراني، يقوده أبو مهدي المهندس، الذي سيغتاله الأمريكيون في عام 2019، وهو أول قائد له! مع ذلك صنف الأمريكيون هذا التنظيم على أنه «متمسك بقيم الديمقراطية وحقوق الإنسان»! ولم يقف الأمر عند حدود التمويل، فقد استقبلت واشنطن السيد عبد العزيز الحكيم، الشقيق الأصغر لمحمد باقر الحكيم، عام 2002، وفيها التقى بنائب رئيس الجمهورية ديك تشيني، ووزير الدفاع دونالد رامسفيلد!
وبعيدا عن هذه الانتهازية، كان الفساد حاضرا أيضا في هذه الاستعدادات للاحتلال، فقد نشرت صحيفة النيويورك تايمز مقالا في 29 آذار/ مارس 2003 بعنوان: «فشل تعبئة المنفيين العراقيين» قالت فيه إنها دربت عناصر «قوات العراق الحر» ولم يتجاوز عددهم 74 شخصا! وأن المشروع بالكامل محكوم عليه بالفشل بسبب فشل قوى المعارضة في توفير ما يكفي من المرشحين للتدريب. وتنقل الصحيفة عن بعض المسؤولين أن البرنامج الذي كلف أكثر من 90 مليون دولار قد دفعهم لأن يطلقوا عليه اسم «جيش المليون دولار للرجل»!
سنيا، استشعر الأمريكيون بأزمة التمثيل السني ضمن المعارضة العراقية منذ البداية، وذلك على الرغم من لجوئهم إلى «اصطناع» كيان وهمي اسمه «الحركة الملكية الدستورية» ليكون حاضرا في سياق المنظمات «الديمقراطية» المفترضة التي تتلقى التمويل، لهذا حرصوا على دعوة الحزب الإسلامي للمشاركة في مؤتمر لندن الذي عقد منتصف كانون الأول/ ديسمبر 2002، في الوقت الذي كان فيه أعضاء الحزب الثلاثة المشاركين، حريصين تماما على عدم الدخول إلى قاعة الاجتماعات، واكتفوا بوجودهم في أروقة الفندق الذي يقام فيه المؤتمر، ولم يعترضوا على وجود أسمائهم في اللجنة التنسيقية التي انبثقت عنه. ورغم حضورهم هذا، أصدر الحزب بيانا يعترض فيه على المؤتمر، لكن شخصيتين من الثلاثة الحاضرين حضروا بقوة في التمثيل السني بعد الاحتلال، والغريب أن الحزب الإسلامي لا يزال مصرا على تسويق أنه لم يشارك في هذا المؤتمر!
الحزب الآخر الذي ظل بعيدا عن التمويل الأمريكي، ولم يشارك في مؤتمر لندن، كان حزب الدعوة الإسلامية. وبات واضحا اليوم أن موقف الحزب لم يكن خيارا ذاتيا، بل كان موقفا اضطراريا بسبب الموقف المعلن ضد الاحتلال، لمرجع الحزب حينها وهو الشيخ محمد حسين فضل الله، وكان قد أصدر، قبل الحرب، فتوى ملزمة لمقلديه، ومن بينهم حزب الدعوة، بأنه «من غير الجائز على الإطلاق دعم الاحتلال الأمريكي» كما قال في لقاء متلفز بعد أسبوعين فقط من الاحتلال: « لم يصدر مني تعليمات أو فتوى للأخوة في حزب الدعوة في هذا المجال، ولكنهم وحسب ما أعرف استراتيجيتهم، يرفضون أن يكون هناك أي حكومة عراقية تتحرك من خلال المحتل، سواء كان ذلك بشكل بارز أو بشكلٍ مموّه بأكثر من غطاء وغطاء.. ولهذا فالقضية تُمثّلُ في الحسابات الإسلامية الاستراتيجية مسألةً أساسية». لذلك لجأ حزب الدعوة للتخلي عن «مرجعه» والتحول إلى تقليد مرجعية السيد السيستاني، لكي يكون في حِلٍّ من «الحسابات الإسلامية الاستراتيجية» التي تبقيه بعيدا عن المشاركة في حكومة «تتحرك من خلال المحتل»!
المشهد الرمزي الذي اختزل هذه التواطؤات كان لحظة صعود أعضاء مجلس الحكم، وبضمنهم المجلس الأعلى وحزب الدعوة والحزب الإسلامي والحزب الشيوعي (الذي كان رافضا لفكرة الحرب والاحتلال أيضا) إلى المنصة والوقوف وراء عضو مجلس الحكم محمد بحر العلوم وهو يعلن قرار مجلس الحكم بأن يكون يوم اكتمال الاحتلال في 9 نيسان/ أبريل، هو العيد الوطني للعراق!
(
القدس العربي)