مقالات مختارة

الاجتثاث السياسي وثقافة الاستئصال!

جيتي
تاريخيا، حكم الفكر الاستئصالي الدولة العراقية منذ بداية تأسيسها عام 2021، مع اختلاف في الدرجة لا في النوع بين عهد وآخر؛ ففي العهد الملكي (1921 ـ 1958)، رغم مظاهر “الديمقراطية” المقننة التي اعتمدها النظام الملكي، مارس النظام ما يمكن وصفه بالسلوك الاستئصالي، سواء فيما تعلق بإعدام قادة الحزب الشيوعي (فهد وزكي بسيم وحسين الشبيبي ويهودا صديق) عام 1949.

وقد كان قرار الإعدام سياسيا بامتياز، وإن صدر عن محكمة وصادقت عليه محكمة التمييز. أو فيما تعلق بمحاكمات القادة العسكريين والمدنيين الذين قادوا ما يعرف بحركة رشيد عالي الكيلاني والعقداء الأربعة؛ حيث حكم على خمسة منهم يونس السبعاوي وفهمي سعيد وكامل شبيب وصلاح الدين الصباغ ومحمود سلمان، بالإعدام.

بعد انقضاء العهد الملكي عام، تكرست ثقافة الاستئصال في العهود الجمهورية، لا سيما مع سيطرة العسكريين على السلطة عبر انقلابات متتالية؛ ففي زمن عبد الكريم قاسم ترددت شعارات “ماكو مؤامرة تصير والحبال موجودة”، و”شد البرغي حتى آخر سن”، و “لا تقول ما عندي وقت أعدمهم الليلة”.

ثم أصبح الاستئصال ظاهرة طبيعية مع مجيء البعثيين إلى السلطة 1963، ولا تزال تجربة الحرس القومي حاضرة في ذاكرة العنف العراقي. وإذا كانت حدة هذا الاستئصال قد خفت قليلا في زمن الأخوين عارف بين عامي 1963 و 1968، إلا أن مجيء البعثيين بعد تموز 1968 حول الاستئصال إلى سلوك منهجي.

وبعد الاحتلال الأمريكي للعراق، عمد الأمريكيون إلى اعتماد السياسة نفسها التي اعتمدوها في ألمانيا بعد الحرب العالمية الثانية، والتي عرفت باجتثاث النازية، إذ سارعت سلطة الاحتلال إلى إصدار الأمر رقم واحد تحت عنوان “«تطهير المجتمع العراقي من حزب البعث» في 16 أيار 2003.

وفي هذا الأمر تقرر حل حزب البعث، وإقصاء كبار أعضاء الحزب من مراكز السلطة والمسؤولية وحظرهم مستقبلا من “العمل في أي وظيفة في القطاع العام، مع إمكانية استثناء البعض بقرار من مدير سلطة الائتلاف المؤقتة أو من يخوله”. وكان ذلك قبل صدور قرار مجلس الأمن رقم 1483 2003 الذي عد الولايات المتحدة الأمريكية وبريطانيا «دولتين قائمتين بالاحتلال»!

ثم تبعه الأمر رقم 5 المعنون «تأسيس المجلس الوطني لتطهير المجتمع من حزب البعث»، والذي عرف باسم هيئة الاجتثاث، وقد حدد مهام هذه الهيئة بالتحقيق وجمع المعلومات حول ممتلكات وأموال الحزب بما في ذلك تلك المملوكة لقيادات وأعضاء الحزب، وتحديد هوية المتورطين منهم في انتهاكات لحقوق الإنسان، والاتهامات التي يمكن توجيهها إليهم.

لكن الطبقة السياسية العراقية الجديدة لم تتعامل مع الاجتثاث بوصفه إجراء يتعلق بالعدالة الانتقالية، بل بوصفه أداة للانتقام، وتحول هذا الملف إلى ملف مسيس بامتياز، وخاضع للصفقات السياسية.

وبدلا من تخفيف إجراءات المساءلة والعدالة مع الوقت من أجل ترسيخ السلم الأهلي والمصالحة الوطنية، تطورت إلى أن تحولت إلى هراوة بيد المتنفذين يلوحون بها في وجه الخصوم السياسيين، ولم يعد الأمر مقتصرا على الوظيفة العامة، بل أخذ يشمل حرمانا من الحقوق المدنية والسياسية أيضا وذلك من خلال تشريع قانون “الهيئة الوطنية للمساءلة والعدالة” عام 2008 الذي توسع في عملية الاجتثاث ليشمل من أسماهم أعوان النظام السابق “وهم الأشخاص من المنتمين إلى حزب البعث، أو المنتسبين إلى الأجهزة القمعية، أو المتعاونين معهم، أو المستفيدين من نهب ثروات البلاد، الذين استخدمهم النظام البائد في قتل المواطنين وقمعهم واضطهادهم بأي شكل من الأشكال “.

فإذا كان بالمكان ضبط المنتمين لحزب البعث، وضبط المنتسبين للأجهزة القمعية، فليس هناك أية إمكانية لضبط المتعاونين معهم، أو المستفيدين من نهب ثروات البلاد، أو ضبط من استخدمهم في قتل المواطنين وقمعهم واضطهادهم “بأي شكل من الأشكال”. وهو تعريف فضفاض القصد من ورائه توسيع دائرة المشمولين بالاستئصال أو جعله أداة انتهازية للابتزاز والتهديد!

ولعل الاستخدام السياسي الأبرز في هذا السياق، هو قرار هيئة المساءلة والعدالة اجتثاث شخصيات سنية بارزة، ومنعهم من الترشح لانتخابات مجلس النواب عام 2010، وقد لجأ هؤلاء حينها إلى الطعن لدى “الهيئة التمييزية” الخاصة بالمساءلة والعدالة التي قررت السماح لهم بالترشح وتأجيل البت في الطعون إلى ما بعد الانتخابات لضيق الوقت.

وكان يفترض أن قرارات هذه الهيئة التمييزية “قطعية وباتة” كما يقول القانون، لكن هذا “القرار القضائي ووجه بفيتو علني من كل من رئيس الجمهورية جلال الطالباني، ورئيس مجلس الوزراء نوري المالكي، والقوى السياسية المؤيدة لهما، انتهى إلى إجبار “الهيئة التمييزية” على إلغاء قرارها “القطعي والبات” والحكم برفض تلك الطعون وشمول أصحابها بالاجتثاث!
منذ 2014 أصبح إلغاء الاجتثاث مطلبا سنيا جوهريا في كل مفاوضات تشكيل الحكومات المتتالية

في الوقت الذي قررت فيه هذه الهيئة إلغاء اجتثاث أحد مرشحي تحالف دولة القانون برئاسة نوري المالكي، وقضت في قرار قضائي تمييزي على أنه «مستثنى» من أحكام المساءلة والعدالة، في انتهاك للقانون الذي تحدث عن أن الاستثناء يكون (في حالة العودة للوظيفة حصرا، ومن خلال طلب من الوزير، وموافقة مجلس الوزراء، ومصادقة مجلس النواب) وهي أمور لم تتوفر جميعها في قرار الاستثناء هذا!

منذ 2014 أصبح إلغاء الاجتثاث مطلبا سنيا جوهريا في كل مفاوضات تشكيل الحكومات المتتالية، بسبب تحوله إلى أداة استهداف سياسية للمجتمع السني ككل، وللطبقة السياسية السنية بوجه أخص. والمراجع للاتفاقات السياسية التي تضمنها المنهاج الحكومي للحكومات الأربع، سيجد حديثا صريحا عن إنهاء عمل هيئة المساءلة والعدالة وفقا لأحكام المادة 135/ ثانيا من الدستور العراقي، والتي تعطي لمجلس النواب صلاحية حل الهيئة بالأغلبية المطلقة.

لكن الفاعل السياسي الشيعي تحديدا كان ينقلب على هذه الفقرة، ويرفض تنفيذها، إذ ليست لديه إرادة سياسية حقيقية لإنهاء هذا الملف، فضلا عن أنه لا يريد أن يفرط في وسيلة مهمة لاستئصال خصومه، أو استخدامها للتهديد الذي يفضي بالضرورة إلى التدجين السياسي للخصوم، وهو ما يفسر ما يجري في هذه الأيام من محاولات إقصاء زعيم سني رئيسي آخر غير مرغوب به من خلال استخدام قانون هيئة المساءلة والعدالة!

في العراق كل القوانين، بما في ذلك الدستور، هي أدوات للاستخدام السياسي وضرب الخصوم، لأن الغلبة هي لعلاقات القوة حصرا وليست للدستور أو القانون! واستخدام المحكمة الاتحادية العليا، ومجلس القضاء الأعلى، وهيئة المساءلة والعدالة، ومؤسسات الدولة الأخرى، بات منهجا لتمرير ما يعجز الفاعل السياسي الشيعي عن تمريره سياسيا، فقد تحولت هذه السلطات إلى مجرد أدوات سياسية يستخدمها الفاعل السياسي الشيعي الموهوم بقوته، وهو اليوم يمارس سلوك استئصال “الآخر” الذي لا يقبل بالتدجين الكامل والتبعية المطلقة!

القدس العربي