مقالات مختارة

البشير بن سلامة وسياسة "اقتصاد الثقافة"

أرشيفية
الظاهر أن المقروء في بلاد المشرق من كتابات الأستاذ البشير بن سلامة، الذي انتقل إلى رحمة الله تعالى آخر الشهر الماضي، يكاد ينحصر في إنتاجه الروائي، وخصوصا رباعية "العابرون" التي تسرد تاريخا روائيا لتونس المعاصرة على مدى قرن كامل. على أن له كتابات هامة في النقد الأدبي والفكر الحضاري بقي ينشرها على مدى ثلاثين سنة في مجلة "الفكر" التي كان رئيس تحريرها، كما كتب بعد ذلك في مجلات مثل "العربي" الكويتية و"الآداب" البيروتية. هذا إضافة إلى ترجمة كتابين، مع محمد مزالي، للمؤرخ شارل أندري جوليان، وترجماته لمؤلفات مثل "سليمان القانوني" لأندري كلو، و"خير الدين والبلاد التونسية" لفان كريكن، و"ليلة الفلق: محمد والبيان الإسلامي" لقريبه المحلل النفسي المعروف في فرنسا فتحي بن سلامة، صاحب الكتاب الشهير "التحليل النفسي في محك الإسلام".

وقد كان لبن سلامة، من الستينيات حتى أواخر الثمانينيات، إنتاج نظري وبحثي غزير أرى أن الأهم فيه كتابان. أحدهما هو "نظرية التطعيم الإيقاعيّ في الفصحى" (1984) الذي مضى فيه إلى أقصى حد في المناداة بتطوير العربية. وينطلق فيه من ملاحظة أن البحوث اللغوية التي تزخر بها الحضارة العربية قد انكبت على الألفاظ وظواهر تغيّرها (مثل القياس والاشتقاق والقلب والإبدال الخ) دون أن تولي القدر ذاته من العناية بالجملة النثرية، وخاصة بنواميس تغيّرها، لا من حيث التراكيب بل من حيث موسيقاها ونبراتها وإيقاعها. وقد طبّق بن سلامة نظريته هذه في تحليل الجملة النثرية عند ابن المقفع وابن رشيق وطه حسين وأبي القاسم الشابي ومحمود المسعدي، علما أنه لم يقطع بصحتها وإنما هو دعا اللسانيين إلى اختبار فرضياتها. وقد عالجها بعضهم ببرمجيات كومبيوترية أثبتت فائدتها الإجرائية.


أما العمل الآخر الذي أعدّه أحد أهم مؤلفات بن سلامة فهو "الشخصية التونسية: خصائصها ومقوماتها" (1974) الذي يتكامل مع كتاب "النظرية التاريخية في الكفاح التحريري التونسي" (1977). فقد كانت قضية الهوية مبحثا فكريا وهمّا سياسيا في الوقت ذاته، بدليل أن الزعيم الوطني أستاذ الفلسفة علي البلهوان أصدر عام 1944 كتابا بعنوان "نحن أمة" وأن الشيخ الفاضل بن عاشور ساهم في إشاعة مفهوم "الأمة التونسية" وأن البرلمان كان يسمى "مجلس الأمة" وأن مجلة الفكر كانت تعمل على تطوير "الأدب القومي" أي التونسي. وقد كان كل ذلك يجري عند الجميع مجرى الانسجام التام مع حقيقة الانتماء التاريخي والوجداني إلى الأمة العربية إطارا واسعا جامعا. وقد أسيء فهم مقصد الكاتب، فرمي بالتنظير للبورقيبيّة (أي النزعة القطرية المناهضة للقومية في صيغتيها الناصرية والبعثية). ولكن الاتهام باطل. ذلك أن بن سلامة انطلق استقرائيا من ملاحظة أن الدولة الوطنية والشعور الوطني واقع حيّ في أكثر من عشرين بلدا عربيا، وأن الدول العربية تستطيع، إن توفرت الإرادة السياسية، تحقيق التعاون التدرّجي وصولا إلى التكامل الاندماجي، مثلما فعلت دول أوروبا الغربية. وقد جعل بن سلامة من الفصحى أحد أهم مقومات الشخصية التونسية. ولو كان ينظّر للبورقيبيّة فعلا لجعل العامية التونسية أول مقومات الشخصية الوطنية! واللافت أن الكتاب صدر بالتزامن مع كتاب هشام جعيّط "الشخصية العربية الإسلامية والمصير العربي" بما يؤكد إلحاح قضية الهوية آنذاك على النخبة التونسية. ولم تأت دراسة تعزز دراسة بن سلامة التنظيرية التأريخية، أو تتجاوزها بأدوات العلوم الاجتماعية، إلا عام 2011 عندما أصدر الراحل المنصف ونّاس كتابه "الشخصية التونسية".

وقد رسم مزالي وبن سلامة سياسة ثقافية أتيح لهما إنجاز بعض عناصرها أثناء ممارسة الحكم في الثمانينيات، حيث حرصا على أن يكون ضمن المخطّط السادس للدولة باب خاص يرمي إلى بناء اقتصاد الثقافة، أي استيعابها في الدورة الاقتصادية، بتطوير الصناعات الثقافية وسن قوانين تشجع القطاع الخاص على الاستثمار فيها. وهكذا تسنّى إنشاء مؤسسات مثل صندوق التنمية الثقافية، وصندوق الإنتاج السينمائي، والمجلس الأعلى للثقافة، ومركز الدراسات والتوثيق الخاص بالتنمية الثقافية، والمسرح الوطني، والمعهد العالي للمسرح، والفرقة الوطنية للموسيقى، وأيام قرطاج الموسيقية، والمعهد العالي للموسيقى، والمعهد العالي للتنشيط الثقافي.

ولعل أهم إنجازات بن سلامة، وزيرا، أنه أشرف على إنشاء بيت الحكمة وإنجاز القسط الأول من المكتبة الوطنيّة. أما أطرفها فهو إقناع الحكومة بفرض ضريبة إضافية على المشروبات الكحولية تم تسخيرها لتمويل صناعة النشر وصناعة السينما في تونس.

القدس العربي