مقدمة:
منذ أكثر من عقدين بدأت بعض الدول العربية والإسلامية التفكير في
إدخال
العقوبات البديلة إلى منظومتها القانونية، فسارعت بعضها إلى اعتماد هذه
العقوبات، ووضعت بعضها الآخر شروطا وضوابط تحدد متى يمكن تطبيق هذه العقوبات، في
حين تريثت أنظمة قانونية عربية أخرى في إقحام هذه العقوبات إلى منظومتها
القانونية، وفضلت الاعتماد على الإطار القانوني التقليدي المؤطر لمنظومتها
الجنائية.
والمستقرئ للسياقات الخاصة التي دفعت كل دولة عربية على حدة إلى تبني
هذه العقوبات، يلمس تفاوتا كبيرا في الدواعي والمسببات، لكنه في الآن ذاته يجد
مشتركا أساسيا في هذه المسببات، يعود إلى مسايرة تطور التشريع الجنائي الدولي،
ومواكبة هذه الموجة الجديدة من التشريعات التي تستلهم أسسها من منظومة حقوق
الإنسان الدولية.
في هذه الورقة، سنحاول مناقشة مختلف الدواعي التي بررت توطين العقوبات
البديلة في السياق العربي، والوقوف على المفارقات الكثيرة التي تترتب عن هذا
الإقحام، وتأثيره على تماسك المنظومة الجنائية العربية، وطرح بعض الضوابط التي
تعين في تكون تصور لإدماج العقوبات البديلة في المنظومة الجنائية.
في دواعي اللجوء إلى العقوبات البديلة
في الواقع ثمة أسباب متعددة بررت بها الدول العربية لجوءها إلى
العقوبات البديلة، منها ما يرتبط بالسياق الداخلي الصرف، المرتبط بتقييم ظاهرة
الجريمة، وعلاقة القانون الجنائي بها، ومدى فعاليته أو محدوديته في ردعها، وكذلك
واقع المؤسسة السجنية، وما إذا كانت قادرة على استيعاب تنامي ظاهرة الجريمة،
لاسيما في أوساط الأحداث. ومنها ما هو خارجي، يرتبط بالضغط الدولي، الذي يفرض على
الدول العربية مواكبة تطور التشريعات القانونية الدولية، ومسايرة منظومة حقوق
الإنسان.
تقوم الخلفية الحقوقية "الكونية" على مراعاة حال الجاني،
أكثر من مراعاة حال المجني عليه أو الضحية، فأكبر ما يحفز الناشطين الحقوقيين
اليوم، هو نقد العقوبات السالبة للحرية، بدعوى أنها تؤثر على نفسية المحكوم، وتحدث
آثارا اجتماعية خطيرة له ولأسرته، وأنها تهدر طاقته وتعطل جهده وتجعله لا يقدم أي
نفع للمجتمع، وأنها تصم حياته ما بعد السجن، فيصير بمقتضى العقوبة السجنية ممنوعا
من ممارسة حياته الطبيعية، أو محروما من كثير من حقوقه، فضلا عن صعوبة التماس
أسباب للرزق في الوظائف العامة أو الخاصة. ولذلك، يتم طرح العقوبات البديلة
للعقوبات السالبة للحرية، باعتبارها تحقق مقصود المنظومة الجنائية في الردع
والإصلاح، وفي الوقت ذاته تحافظ على حقوق الجاني وكرامته.
في حين تقوم الخلفية السياقية الداخلية على اعتبارات مختلفة، يمكن أن
نقسمها إلى ثلاثة أصناف:
ـ اعتبارات نابعة من تقييم تأثير العقوبات السالبة للحريات، إذ تعتقد
بعض الدول العربية أن هذه العقوبات أثبتت محدوديتها وعدم قدرتها على تحقيق مقاصد
المنظومة الجنائية في الردع والإصلاح، وأن الحاجة أضحت ماسة لإقحام نوع جديد من
العقوبات (العقوبات البديلة).
ـ اعتبارات ترتبط بتقييم واقع تنامي نسبة الجريمة وتطور مستوياتها،
وعجز المؤسسة السجنية، سجونا وإلإدارة وتمويلا، عن مواكبة هذا التطور المتسارع في
معدل الجريمة، ومحدودية مؤسسة "العفو" في إفراغ حيز يتناسب مع نسبة
مرتكبي الجرائم الجدد.
ـ اعتبارات إيديولوجية، مرتبطة بتوجهات فكرية لبعض النخب الليبرالية،
التي تريد أن تضفي لمستها "الحداثية" على القوانين، وتجعلها في تلاؤم
كبير مع منظومة حقوق الإنسان الدولية.
وعلى العموم، فسواء تعلق الأمر بتقييم النموذج العقابي السائد
(العقوبات السالبة للحريات) أو تقييم محدودية المؤسسة السجنية عن استيعاب تطور
الجريمة، أو وجود هوية ليبرالية تسعى لإضفاء بصمتها الحداثية على منظومة العقوبات
الجنائية، فإن ما يجمع هذه الاعتبارات الثلاث، هو مشترك واحد، يربط العقوبات
البديلة بـ"أمل" لم يتم تقييم قدرتها على تحقيقه.
فالذين يقولون إن العقوبات السالبة لم تحقق مقصد المنظومة الجنائية
في الردع والإصلاح، يطرحون العقوبات البديلة أملا لاستدراك هذه المعضلة، دون أن
يكون لهم يقين نابع من دراسات ميدانية أو حصيلة إحصائية رقمية تثبت قدرة العقوبات
البديلة على لعب هذا الدور.
الذين يذهبون إلى ضرورة إقحام العقوبات البديلة بدافع من هوياتهم وتوجهاتهم الحداثية، فلا توجد لديهم أي ضمانة من أن هذا التحول سيحل المشكلة إلا إرضاء أماني إيديولوجية يصعب إثبات تحققاتها في الواقع إلا بعد تقييم الحصيلة بالأدوات الرقمية والإحصائية.
والذين يقولون إن العقوبات البديلة ستحل مشكلة الاكتظاظ في السجون أو
ستجعل مالية الدولة معفاة من مواجهة تحدي تدبير المؤسسة السجنية المكتظة. هؤلاء،
يتشبثون بهذا الأمل، لكنهم، لا يطرحون المشكلة الأصل المرتبطة بسبب ظاهرة
الاكتظاظ، ولا يطرحون مشكلة أكبر بها، تتعلق بسيناريو فشل العقوبات البديلة في حل
مشكلة تنامي الجريمة، إذ في حال توقف نزيف السجون، وإعفاء الدولة من جزء من
مسؤوليتها المالية، كيف يمكن مواجهة سيناريو تضخم الجريمة بنسب أكبر من السابق،
وهل سيتم الرهان على العقوبات البديلة مرة أخرى أم سيتم العودة للعقوبات السالبة للحريات؟
أما الذين يذهبون إلى ضرورة إقحام العقوبات البديلة بدافع من هوياتهم
وتوجهاتهم الحداثية، فلا توجد لديهم أي ضمانة من أن هذا التحول سيحل المشكلة إلا
إرضاء أماني إيديولوجية يصعب إثبات تحققاتها في الواقع إلا بعد تقييم الحصيلة
بالأدوات الرقمية والإحصائية.
العقوبات البديلة.. معضلة الرؤية الحقوقية
تنطلق الرؤية الحقوقية المؤطرة لفكرة العقوبات البديلة من تصور خاص
لجدل العقوبة والحقوق، ومن نظرة مختلفة لحقوق الفرد والمجتمع، أو حقوق المجني عليه
والجاني.
فعلى المستوى الأول، أي جدل العقوبة والحقوق، فهي ترى أن العقوبة لا
ينبغي أن تسلب الإنسان حقه في الحرية، ولا ينبغي لها أن تذهب إلى حد تدميره نفسيا
واجتماعيا، بل وتدمير حتى أسرته ومحيطه الاجتماعي، وإنما المطلوب التفكير في عقوبة
تحفظ حقوقه وكرامته، وفي الآن نفسه، تصلحه وتردعه عن العودة لمثل الجريمة التي
ارتكبها من قبل.
ترى هذه الرؤية الحقوقية أن العقوبات البديلة تحقق الغرض، ويمكن
الرهان عليها لإقامة علاقة موضوعية بين العقوبة والحقوق، بحيث تحصل العقوبة ويتحقق
أثرها، دون المس بالحقوق الأساسية للجاني.
وعلى المستوى الثاني، أي جدل حقوق الفرد والمجتمع، ترى هذه الرؤية أن
المجتمع لا يحقق أي مصلحة بالعقوبات السالبة للحريات، بل يفقد كثيرا من المصالح
التي يمكن أن تترتب عن إسهام الجاني، بعد إصلاحه، في تنمية المجتمع وخدمته، وأن
العقوبات البديلة، تضمن إصلاح الفرد، وتبقي له الأبعاد النفسية والاجتماعية التي
تؤهله ليكون صالحا في المجتمع خادما له ناهضا ببضع أعبائه.
وعلى المستوى الثالث، أي جدل حقوق المجني عليه وحقوق الجاني، فترى
هذه الرؤية أن العقوبات السالبة للحرية، تزكي النفس الانتقامي في المجتمع، وتؤسس
لمنطق قبلي قديم، لا تحصل فيه مصلحة المجني عليه إلا بالانتشاء بتدمير المجني
عليه، وأن العقوبات البديلة، تؤسس لمنطق حداثي جديد، يربط مصلحة المجني عليه
وحقوقه بحصول ضرر للجاني لا يرتفع لدرجة تدميره أو سلبه حقوقه الأساسية.
تبدو هذه الرؤية في ظاهرها منسجمة وقوية الحجج، لكنها تبني منطلقاتها
على مجرد تصور مثالي يصعب الجزم بإمكان تحققه، إذ تبني مسلماتها على نموذج معياري
مرتبط بحالة الجاني عليه بعد تطبيق العقوبات البديلة عليه (صلاحه ومساهمته في خدمة
المجتمع)، ولا تتصور نموذجا أخر له، يمكن أن يكون على العكس من ذلك، أي نموذج
الجاني، وقد تنامت عنده ظاهرة العود للجريمة، وأصبحت نوازعها أكثر رسوخا في نفسه،
بعد تقييمه لواقع العقوبة وإمكان أن يتحملها مرة أخرى.
الدراسات الإحصائية التي أجرتها عدد من المحاكم العربية تثبت أن
العقوبات السالبة للحرية لم تمنع ظاهرة العود للجريمة، مع شدتها وقساوتها، فهل
ستكون العقوبات البديلة الناعمة، كفيلة بالقضاء على ظاهرة العود، وإقناع الجاني
بعدم ارتكاب الجريمة مرة أخرى بعد قضائه العقوبة البديلة، لاسيما وأن بعض العقوبات
البديلة (الغرامات المالية) أضحت يسيرة مقدور على تحملها خاصة من قبل المسورين؟
في الواقع، يخطئ من يدخل في جدل فكري حقوقي مع هذه الرؤية، ويحاول أن
يقنع بأن حقوق المجتمع هي أولى من حقوق الفرد، أو حقوق المجني عليه هي أولى من
حقوق الجاني، أو أن التضحية بحقوق فرد في سبيل استقرار وأمن المجتمع هو أولى من
رعاية حقوق فرد وتعرض المجتمع للتهديد الأمني؟
هذه النقاشات الفكرية الجدلية لا تقدم شيئا في الموضوع، وإن كانت
تصلح من حيث التأسيس الفلسفي لأحد الاختيارات المطروحة أو للأشكال المفترضة لإدماج
موضوعي للعقوبات البديلة في النظام الجنائي دون تعرض نسقه للانهيار.
النقاش الذي يحسم في مثل هذه القضايا، يتطلب الارتكاز على الحصيلات
وتقييم الأثر، أي إلى الدراسات الإحصائية التي تقيس قدرة هذه العقوبات أو
محدوديتها في تحقيق مقاصد المنظومة الجنائية، وهو الأمر الذي لا توجد فيه أرضية
صلبة يمكن الاطمئنان إليها بالنسبة إلى العقوبات البديلة، بما يفسر في بعض الأحيان
سبب تريث بعض الدول العربية في اعتمادها في أنظمتها القانونية الجنائية.
هل يبرر العجز عن مواكبة تضخم الجريمة في اللجوء للعقوبات البديلة؟
من المؤسف جدا أن يجعل الخطاب الجنائي العربي من عجز المؤسسات
السجنية أو عجز الدولة عن تدبيرها مبررا لاعتماد العقوبات البديلة، فهذه النظرة
السخيفة التي تخفي وراءها عجزا فظيعا عن مواجهة مشكلة تضخم الجريمة في المجتمع،
تتغطى وراء الدوافع البراغماتية من أجل تبرير استمرار الأمر الواقع، إذ تستعمل
العقوبات البديلة كأداة لتحقيق هدف منع نزيف اكتظاظ السجون، وتقليص نسبة صرف
الدولة على المؤسسة السجنية، وربما الإفادة من أنواع من العقوبات البديلة
(الغرامات المالية) لتحصيل موارد مالية جديدة.
تعكس ظاهرة ارتفاع الاعتقال الاحتياطي تضخم نسبة الجريمة في المجتمع، ومحدودية الوسائل التي اعتمدتها الدولة العربية في مواجهة هذا التنامي السريع والمتطور، وضعف الأوعية التربوية والثقافية والدينية عن القيام بدورها في الحد من هذه الظاهرة،
هذه النظرة السخيفة، التي تستهتر بقضية خطيرة تتعلق بأمن المجتمع
واستقراره، تتغافل ثلاث مشكلات أساسية: مشكلة تضخم الجريمة، ومشكلة عجز المؤسسة
السجنية عن تحقيق مقاصد العقوبة الجنائية، ومشكلة عدم التحقيق في قدرة العقوبات
البديلة على ضمان الأمن الجنائي.
تعكس ظاهرة ارتفاع الاعتقال الاحتياطي تضخم نسبة الجريمة في المجتمع،
ومحدودية الوسائل التي اعتمدتها الدولة العربية في مواجهة هذا التنامي السريع
والمتطور، وضعف الأوعية التربوية والثقافية والدينية عن القيام بدورها في الحد من
هذه الظاهرة، فالمفترض أن الأسرة والمدرسة والمسجد والإعلام ووسائل التواصل هي
المؤسسات التي ينبغي الاعتناء بها والماس دورها في مواجهة تضخم الجريمة، لا البحث
عن نماذج جديدة من العقوبات، ليس هناك أدنى ضمانة أنها يمكن أن تقلص نسبة الجريمة
أو تزيد في وتيرتها.
أما المشكلة الثانية، فتعكس جدل مقاربتين، الأولى تتصور أن المشكلة
توجد في العقوبات السالبة للحرية، وهي التي تطرح العقوبات البديلة، والثانية، تلقي
باللائمة على السياسة السجنية، وعدم قيامها بالأدوار الإصلاحية والتأهيلية للسجين.
أما المشكلة الثالثة، فلا أحد اليوم في السياقات العربية، يزعم أنه
يملك دراسات أو حصيلة رقمية تقدم حججا مقنعة على أنها تحقق المقاصد الجنائية في
الردع والإصلاح أكثر من غيرها.
أي رؤية لإدماج العقوبات البديلة ضمن النسق الجنائي؟
يتصور البعض أن هذه المرافعة تسعى لتقديم حجج للإقناع بعدم الجدوى
لإقحام العقوبات البديلة ضمن النسق الجنائي، والانتصار بدلا عن ذلك لاستمرار تنفيذ
العقوبات التقليدية السالبة للحريات.
والواقع، أن هذا النقاش لا يرمي للوصول إلى هذه النتيجة، بل يقصد
بدرجة أولى أن يتم طرح هذه القضية في إطار موضوعي متجرد عن حيثيات الضغط الغربي
(مسايرة منظومة حقوق الإنسان) وأيضا عن ضغط وإكراهات السياق الداخلي (تضخم
الجريمة، اكتظاظ السجون، عجز الدولة عن الإنفاق عن السجون).
المفترض أن يتم طرح النقاش أولا بعيدا عن سؤال أي العقوبتين الأكثر
فعالية السالبة للحريات أو البديلة، إذ القضية الأولى التي يفترض معالجتها ترتبط
بفهم ظاهرة تضخم الجريمة في الواقع العربي، وجدل التربية والقانون في الإصلاح، وهل
يتم الرهان على المنظومة الجنائية أم على بذل مجهود في البناء التربوي والثقافي
والإعلامي (البنية التحتية التربوية).
بعد ذلك، ينبغي أن يتم طرح نقاش آخر من نوع ثان، يتعلق بتقييم أثر
العقوبات السالبة للحريات في التقليص من الجريمة من خلال دراسة ظاهرة العود
للجريمة، لكن هذا النقاش، يفترض أن يتم باستحضار جدل العقوبات السالبة للحريات
والسياسات السجنية، إذ العقوبة يتم تنفيذها داخل مؤسسة سجنية تدار بسياسة يفترض أن
تقوم على مبدأي الإصلاح والتأهيل، وأي إخلال بهذين المبدأين في السياسة السجنية،
لا ينبغي أن تتحمله العقوبات السالبة للحرية.
أما المستوى الثالث من النقاش، فينبغي أن يتجه إلى الأرضية الإحصائية
والبحثية والميدانية الموضوعية، التي تدرس أثر كل من العقوبات السالبة للحرية
والعقوبات البديلة، ويتم استخلاص ما يمكن استخلاصه من نتائج لوضع تصور لإدماج
العقوبات البديلة في المنظومة الجنائية.
وأما المستوى الرابع، فيتعلق، بشكل إدماج العقوبات البديلة في
المنظومة الجنائية، وجملة القيود والشروط والضوابط التي يمكن التفكير فيها لوضع صيغة للعلاقة بين هاتين العقوبتين،
مثل ضمان عموم القاعدة القانوني ومبدأ المساواة (بين الأغنياء الفقراء) ومثل
استثناء جملة عقوبات توضع كضمانة للأمن الجنائي، حتى لا يتم الاجتراء عليها وهدم البناء الجنائي
برمته، والتمييز بين الفئات العمرية، بحيث يتم إعطاء الامتياز للأحداث في العقوبات
البديلة على غيرهم، والابتعاد عن مساحات الجدل التي تثيرها بعض العقوبات التي لها
علاقة بالمرجعية الإسلامية، حتى لا تتحول
العقوبات البديلة إلى عامل تقسيم المجتمع.