قضايا وآراء

هل يمكن للتوافق أن يكون مخرجا من الأزمة في تونس؟

هل يتحد ضحايا الاستبداد ضد الانقلاب؟ فيسبوك
بين الخوف على انهيار الدولة ومؤسساتها وفرض بديل تمثل في "تصحيح المسار" (مشروع الرئيس) وبين الخوف من مشروع الحكم الفردي والدعوة إلى استعادة الديمقراطية التمثيلية (مشروع المعارضة)، تعيش تونس منذ 25 تموز/ يوليو 2021 أزمة سياسية حادة انعكست على مختلف الأصعدة الاقتصادية والاجتماعية. وسواء أكانت إجراءات الرئيس انقلابا على الدستور أم تفعيلا شرعيا للفصل 80، فإن إدارته لحالة الاستثناء بمنطق البديل الجذري لكل شركائه في الحقل السياسي ورفضه حتى لتشريك أنصار "تصحيح مسار" في إدارة الدولة وبناء سياساتها العامة، قد وسّع دائرة المعارضة -معارضة إدارة مسار لا التشكيك في شرعيته- لتشمل الأطراف التي سُمّيت بـ"المولاة النقدية" سواء داخل الأحزاب أو داخل المجتمع المدني والنقابات والإعلام.

وأمام تضخم المخاطر التي تواجهها تونس بنخبتها وعامتها في مشروع الديمقراطية القاعدية وما يسندها من نظام رئاسوي يهدد "وجوديا" مختلف الأجسام الوسيطة بما فيها تلك الأجسام الموالية، بل يهدد مختلف المكاسب الهزيلة للثورة في مستوى الحريات العامة والفردية، ظهرت العديد من المبادرات التي يمكن إرجاعها جميعا -رغم اختلاف أهدافها ما بين إنقاذ "تصحيح المسار" وبين إنهائه باعتباره فاصلة استبدادية- إلى منطق "التوافق" أو التسويات والصفقات التي تندرج كلها في استراتيجية انقلابية أساسها حجة "استمرارية الدولة" -أو الدفاع عنها من الانهيار- وما احتجب تحتها من مصالح النواة الصلبة للحكم ورعاتها الإقليميين والدوليين.

منطق التوافق هو أحد أسباب فشل مأسسة الثورة أو الانتقال الديمقراطي منذ هروب المخلوع. فما "استمرارية الدولة" إلا المجاز التوليدي لمختلف المجازات/ الأوهام التي حكمت المرحلة التأسيسية -خلال لحظتي عمل "الهيئة العليا لتحقيق أهداف الثورة" وعمل "المجلس التأسيسي"- وجعلتها واقعيا تحت هيمنة المنظومة القديمة

رغم شيوع استعمال مصطلح "التوافق" لتوصيف مرحلة الحكم التي قادها ورثة التجمع واليسار الوظيفي (في حركة نداء تونس وشقوقها) بالتحالف مع حركة النهضة، فإننا نعتبر أن منطق التوافق هو أحد أسباب فشل مأسسة الثورة أو الانتقال الديمقراطي منذ هروب المخلوع. فما "استمرارية الدولة" إلا المجاز التوليدي لمختلف المجازات/ الأوهام التي حكمت المرحلة التأسيسية -خلال لحظتي عمل "الهيئة العليا لتحقيق أهداف الثورة" وعمل "المجلس التأسيسي"- وجعلتها واقعيا تحت هيمنة المنظومة القديمة برساميلها المادية (العائلات الريعية) والرمزية (السردية البورقيبية ومنطق التحديث الفوقي للدولة- الأمة) والبشرية (الشبكات الزبونية التي تشمل ورثة التجمع وحلفاءهم في اليسار الوظيفي والحركات القومية والتي واصلت هيمنتها على المجتمع المدني والنقابات والإعلام والثقافة.. الخ).

قد يصعب علينا أن نجد من يتحدث عن العلاقة بين المخلوع وبين "القوى الديمقراطية" بمنطق التوافق في عملية هندسة النصاب السلطوي قبل الثورة. وقد يعود ذلك إلى أن "التوافق" يقتضي نوعا من التناظر أو التقارب في موازين القوة بين الأطراف المشكلة له. ولمّا كانت أغلب مكونات "العائلة الديمقراطية" في عهد المخلوع مجرد أجسام وظيفية في خدمة النواة الصلبة للسلطة (وهي نواة جهوية-مالية- أمنية) بما توفره لها من غطاء أيديولوجي ومن ديكور ديمقراطي موجه للدعاية الخارجية أساسا، فإنها كانت تكتفي بدور "الشريك" أو "المساند" أو "المفسر" لسياسات السلطة وتوجهاتها العامة، كما كانت أحيانا توفر للسلطة خزانا بشريا لخدمة أجهزتها بحكم سيولة العلاقة بين "القوى الديمقراطية" وبين مؤسسات الدولة الحامية للنمط المجتمعي ضد "الرجعية الدينية" في إطار "المعجزة التونسية".

بعد الثورة، -بصرف النظر عن الأسباب التي ما زالت محل سجال بينها وبين ناقديها- وجدت حركة النهضة نفسها جزءا من توافقات/ صفقات لا وطنية؛ بدأت منذ أعمال هيئة تحقيق أهداف الثورة. فقد بدا للملاحظ أن النهضة تريد وراثة "الوطد" (العائلة اليسارية الوظيفية المهيمنة على أجهزة الدولة المدنية والأمنية زمن المخلوع)، أو على الأقل منافسته في خدمة النواة الصلبة للحكم بقبول توافقات كانت تتم في الأغلب على حساب الثورة ومطالبها (إسقاط قانون العزل السياسي، الفصل بين مسار المساءلة والمحاسبة ومسار المصالحة في ملف العدالة الانتقالية، عدم الحرص على تفكيك بنية الاستبداد والفساد والتساهل غير المبرر مع اللوبيات الإعلامية والنقابية والجهوية، عدم الفاعلية التي تثير الشبهات في ملف استرجاع الأموال المهربة للخارج أو المصادرة في الداخل، هلامية "الهوية" التي انعكست في غلبة الانتهازية وعدم المبدئية في المواقف تجاه القواعد والمؤيدين قبل الحلفاء والخصوم.. الخ).

ومهما كان مقدار "التنازلات المؤلمة" التي قدمتها حركة النهضة للنواة الصلبة للحكم، فإن ذلك كله لم يشفع لها ولم يكن ذا وزن في تحديد سياسات تلك النواة ووكلائها التقليديين من الفاعلين الجماعيين في الأحزاب والمجتمع المدني والنقابات. ولذلك بقيت حركة النهضة عضوا غريبا في جسم السلطة رغم كل محاولات التطبيع "التوافقي" معه، ووجدت نفسها المستهدف الرئيس من إجراءات 25 تموز/ يوليو ومن محور الثورات المضادة بقيادة فرنسا.

ونحن لا نعني بالاستهداف تلك القضايا المرفوعة ضد قياداتها ولا حملات التحريض المُمنهج ضدها، ومحاولات اختزال ما سُمّي بـ"العشرية السوداء" فيها فقط، بل نعني أيضا إجماع أغلب "القوى الديمقراطية" بما فيها القوى المعارضة للانقلاب على تغيير النظام السياسي إلى نظام رئاسي؛ لمنعها -مهما كانت التسويات المحتملة مستقبلا- من أن تكون مركز الفعل السياسي (أي القرار السلطوي) وشريكا أساسيا فيه.

النوايا الطيبة والمزايدة على الخصوم بمنطق عدم الإقصاء والانفتاح على بعض مكونات غرفة الانقلاب (الاتحاد العام التونسي للشغل)، كل ذلك لا ينفع واقعيا في فرض توازنات سياسية جديدة ولا في إنهاء "السمعة السيئة" للتوافق عند نسبة عظيمة من الشعب التونسي. كما أن إنكار الواقع السياسي الجديد والتعامل معه بمنطق الرغبة لن يدفع بأنصار "تصحيح المسار" إلى ذلك المربع أو الأرضية المشتركة التي دعا إليها رئيس حركة النهضة

قد لا يختلف المراقبون للشأن التونسي في أن الرئيس ما زال مصرّا -رغم نتائج الدور الأول من الانتخابات البرلمانية- على سياسة الهروب إلى الأمام، وعلى منطق البديل الذي لا يقبل شريكا في إدارة الدولة وهندسة سياساتها العامة بصرف النظر عن الواقع الذي يشهد على تآكل شرعيته الشعبية وغياب أي سند موضوعي لـ"مشروعية الإنجاز"، ولكننا أيضا قد لا نختلف في أن التعويل على منطق "التوافق" من لدن حركة النهضة (وحلفائها في جبهة الخلاص الوطني) هو ضرب من السلوك السياسي العبثي أو على الأقل غير الوظيفي؛ في إدارة المرحلة ومواجهة الواقع الجديد الذي فرضه الرئيس قيس سعيد ومِن ورائه القوى الصلبة والعائلات الريعية والقوى الخارجية التي تسنده. وإذا كان الرئيس غير مهتم بواقع التأييد الشعبي ولا النخبوي، فإن حركة النهضة غير مهتمة بمراجعة المحصول الواقعي لمنطق "التوافق" ومآلاته.

إن النوايا الطيبة والمزايدة على الخصوم بمنطق عدم الإقصاء والانفتاح على بعض مكونات غرفة الانقلاب (الاتحاد العام التونسي للشغل)، كل ذلك لا ينفع واقعيا في فرض توازنات سياسية جديدة ولا في إنهاء "السمعة السيئة" للتوافق عند نسبة عظيمة من الشعب التونسي. كما أن إنكار الواقع السياسي الجديد والتعامل معه بمنطق الرغبة لن يدفع بأنصار "تصحيح المسار" إلى ذلك المربع أو الأرضية المشتركة التي دعا إليها رئيس حركة النهضة (الاتفاق على أن 25 تموز/ يوليو هو انقلاب، إقصاء الرئيس من الحوار، اعتماد دستور 2014 مرجعية للحوار).

أما الحديث عن المواقف الإيجابية تجاه الانتقال الديمقراطي من لدن الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة، والحديث عن دعم الجزائر للاستقرار في تونس، فهو مجرد مجازات متراكبة تؤكد بؤس منطق التوافق وعجزه عن بناء خطاب مطابق للواقع.

الصراع في جوهره هو صراع على إعادة هندسة المشهد السياسي بين الوكلاء التقليديين للنواة الصلبة للحكم وبين من لا يتجاوز دورهم واقعيا دور "مقدمي خدمات" جدد لتلك النواة نفسها، دون قدرة أي طرف -مهما كانت مزايداته على خصومه ومهما كان سقف ادعاءاته الذاتية- على تقديم مشروع وطني جامع متحرر من إملاءات القوى الخارجية

بحكم عدم وجود أي مشروع للتحرر الوطني وبناء مقومات السيادة، وبحكم هيمنة الخطابين "التوافقيين" (خطاب حركة النهضة الداعي إلى استعادة توافقات المراحل السابقة مع بعض التعديلات الضرورية التي تقصي الرئيس؛ ولكنها لن تمس جوهر منظومة الحكم ولا مصالح نواتها الصلبة، وخطاب المركزية النقابية الداعي إلى بناء توافقات لا تشمل من يعتبرون 25 تموز/ يوليو انقلابا، والحريص على استبقاء الرئيس وعلى طمأنة النواة الصلبة للحكم ورعاتها الإقليميين والدوليين باستبعاد حركة النهضة وحلفائها)، يبدو أن تونس لن تخرج في المدى المنظور عن هيمنة فرنسا وباقي القوى الدولية والإقليمية المتنفذة؛ وما تحدده لمختلف الفاعلين من هامش الحركة في إدارة التخلف والتبعية.

وسواء بقي الرئيس في الحكم أو أُقصي منه، وسواء تمت التسويات على أساس دستور 2014 أو بمرجعية دستور 2022، فإن الصراع في جوهره هو صراع على إعادة هندسة المشهد السياسي بين الوكلاء التقليديين للنواة الصلبة للحكم وبين من لا يتجاوز دورهم واقعيا دور "مقدمي خدمات" جدد لتلك النواة نفسها، دون قدرة أي طرف -مهما كانت مزايداته على خصومه ومهما كان سقف ادعاءاته الذاتية- على تقديم مشروع وطني جامع متحرر من إملاءات القوى الخارجية ومن الدور التحكيمي لوكلاء "الاستعمار الجديد" في الداخل.

twitter.com/adel_arabi21