لنتخيل قافلة من شهداء
فلسطين ما زالت على قيد
الحياة، أمثال يحيى عياش أو فتحي الشقاقي أو وديع حداد، وقد تبوؤوا مراكز قيادية
كأعضاء في اللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير أو وزراء في حكومة "وحدة فلسطينية"،
ونتخيل معها كمية الصراخ والنفاق الغربي والعربي عن رواية وسم حركة التحرر الوطني
الفلسطيني بـ"
الإرهاب".
وبدون هذا الخيال حوصر الشعب الفلسطيني من المؤسسة
الصهيونية ودوائرها الغربية والأمريكية برواية "ممارسة الإرهاب"، وكفاح
الشعب الفلسطيني ونضاله ضد المستعمر الصهيوني لم يقلل من ترسيخ هذه الرواية
واتساعها بأكاذيب لا تشمل العرب والفلسطينيين وحدهم بمعاداة السامية، إذ أصبحت سيفاً
مسلطاً على رقاب الجميع في الغرب والشرق الذي حاول إيجاد صياغة "واقعية"
لهذه التهم وترجمتها في تشريعات وقوانين تتناقض بالأصل مع الحق الأصيل في مقاومة
المحتل والمستعمر الصهيوني.
وبعيداً عن الأحلام والخيال الآنف الذكر، نحن أمام
واقع
إسرائيلي متطور نحو أبعاد فوق عنصرية، يتسيّد فيه الإرهاب والفاشية المواقع
المتقدمة في حكومة إسرائيلية تشن العدوان على الشعب الفلسطيني لتكريس سياسة الفصل
العنصري (الأبارتايد)، لكن دون ضجيج وصراخ دولي عن إرهاب فعلي متسلح بأكاذيب وأساطير
تلمودية وصهيونية غارقة في الدم الفلسطيني والعربي.
فالإجراءات العدوانية ضد الشعب الفلسطيني
والعقابية ضد السلطة الفلسطينية، وقبلها تجريم مؤسسات مدنية وحقوقية ترصد انتهاكات
الاحتلال وجرائمه، هي تنفيذ حرفي لبرنامج الائتلاف الحكومي الذي وضع شروطه كل من
الإرهابي إيتمار بن غفير كوزير للأمن الداخلي وبتسلئيل سموتريتش ضد الأسرى
الفلسطينيين وضد السلطة الفلسطينية، تتماشى تماماً مع القائمة الطويلة لبرنامج
العدوان على الأرض والمقدسات الفلسطينية، قائمة لم تكن في أي يوم خارج الأفق
الإسرائيلي، بل ظل حقيقيا لتطبيق سياسة عنصرية على الشعب الفلسطيني وبانتهاك مستمر
للقوانين والشرائع الدولية المتصلة بالحقوق الفلسطينية وخرق فاضح لمسؤولية إسرائيل
كقوة احتلال على الأرض.
مواجهة سياسة العدوان الإسرائيلي وبرامج العقاب
الجماعي يُفترض أن تُحدث "صحوة" من الأحلام التي غرقت في أوهامها قيادات
فلسطينية وعربية، بتبديل رؤيتها للصهيونية ومشروعها الاستعماري ضد الشعب الفلسطيني،
رؤية لم تترك أي شيء يمكن التوهم به من "الدولة" والسلام، إلى ذرائع
التطبيع العربي- الإسرائيلي. كلها لم تحد من الطموح الصهيوني في العودة المستمرة
لينابيعه المتدفقة حرباً على الوجود الفلسطيني، بعد أن جففت حركة تحرر وطني
ينابيعها، بات عليها أن تستوعب الدروس والعبر، والتطورات المحتملة فلسطينياً بدأت
ترتسم في تفجير الحكومة الإسرائيلية وائتلافها العدواني للأوضاع في الأراضي المحتلة.
وهذه فرصة فلسطينية وعربية للاستفادة من عواطف
التأييد الشعبي لقضية فلسطين. فرغم كل الظروف المحيطة بالشارعين الفلسطيني والعربي
ما زالت القضية الفلسطينية تحتل مرتبتها في الوجدان العربي، كما أظهرت نتائج
المؤشر العربي مؤخراً أن 84 في المئة يرون قضية فلسطين قضيتهم الأولى، وعليه يبقى
البُعد الشعبي والحاضنة العربية لقضية فلسطين من أولويات مراجعة الرهان على غير
الشارع العربي والفلسطيني لتعزيز الصمود ومواجهة العدوان.
التوجه نحو محكمة العدل الدولية لفتح ملفات جرائم
الاحتلال، موضوع لا يُفترض به أن يكون خاضعاً للابتزاز أو تهديد الاحتلال به كم
كان سائداً، بل يجب أن يشمل محاكم عربية. وهذه مسؤولية فلسطينية بالدرجة الأولى
لرفع الدعاوى حتى بدول التطبيع العربي التي تستقبل مجرمي الاحتلال. وهنا لا نتخيل
أو نحلم، للخروج من مأزق حصار وتجريم وعدوان وتهويد واستيطان يطال كل فلسطين،
ينبغي التحرر من عقدة "أوسلو" ورفع الغطاء عنها عربياً، وتلك مهمة
فلسطينية بالدرجة الأولى باستعادة جرأة المواجهة لمنح تجريم المحتل صفة أخلاقية
وقانونية وشرعية تسد الثقوب التي تسلل منها كل الخراب؛ من تجريم أنظمة عربية
للمقاومة الفلسطينية، ومنح الاحتلال وجرائمه شرعية التوسع إلى وصف النضال
الفلسطيني بألسنة فلسطينية رسمية بـ"الحقير"، وهي تجد نفسها اليوم
محاصرة وملاحقة بنفس الأدوات والتهم التي توجه لشعبها.
أخيراً، لا يمكن لأي قوة استعمارية الاعتراف
بشرعية المقاومة ضدها، لكن القراءة الخاطئة لما يحصل لحركة تحرر وطني فلسطيني
باستجداء المُحتل تسهيل حياة الفلسطينيين، أو إدانة وشجب سياسة العدوان دون
الاعتماد على مصادر القوة الذاتية واستبدالها بالشكوى الدائمة لمواجهة المُستعمر،
دليل على استحالة التحرر وتضليل للشارع المتململ من هذه السياسة، لأن معركة الشعب
الفلسطيني ليست محصورة فقط بمحاكم دولية وصراع قانوني غير مبالٍ بمصير الضحايا.
فبدون التثبت من وضع الاشتباك المستمر مع الاحتلال
لا يمكن كسب القضايا وتخسير المستعمر ورحيله عن الأرض، والاعتزاز والفخر بمقاومين
ومناضلين يجب أن يشمل حمايتهم ورعايتهم، وتعزيز دورهم في المجتمع والشارع
الفلسطيني، ومن أجل تفكيك رواية وسم الإرهاب بمقاومة المحتل، ولمواجهة إرهاب
وفاشية وعنصرية صهيونية تتبوأ مراكز صنع الإرهاب الحقيقي، تتطلب سابقة جديدة وجديرة
بأن نسترشد منها ما هو أبعد من الخيال لتحديد صيغ العمل الدبلوماسي والنضالي لحركة
التحرر الوطني الفلسطيني، للخروج من حالة الجمود عند الواقع المتردي.
twitter.com/nizar_sahli