كتاب عربي 21

تركيا ونظام الأسد.. السؤال المتجدّد عن التطبيع

التصريحات الرسمية التركية بخصوص نظام الأسد أثارت زوبعة من التعليقات والإجتهادات (جيتي)
ذكرت وزارة الدفاع التركية في بيان لها يوم الأربعاء الماضي، أنّ موسكو احتضنت اجتماعاً ثلاثياً ضمّ كُلاًّ من وزراء الدفاع التركي خلوصي أكار، والروسي سيرغي شويغو، والسوري علي محمود عباس، بالإضافة إلى رؤساء أجهزة الاستخبارات في البلدان الثلاثة.

وأضاف البيان أنّ الاجتماع الثلاثي التركي ـ الروسي ـ السوري ناقش ثلاثة محاور رئيسية هي: الأزمة السورية، ومشكلة اللاجئين، والمكافحة المشتركة للتنظيمات الإرهابية في سوريا.

يُعدّ الاجتماع المذكور الأوّل على المستوى الوزاري بين تركيا ونظام الأسد منذ 11 عاماً، إذ سبقه لقاءٌ عرضي تخلّله محادثة مقتضبة غير رسمية بين وزير خارجية تركيا تشاووش أوغلو ونظيره في نظام الأسد، وذلك على هامش قمّة إقليمية عُقدت في عام 2021. وتأتي هذه التطورات في سياق تصريحات علنيّة دأب الرئيس التركي رجب طيب أردوغان على تردادها في الآونة الأخيرة وتتعلّق بانفتاح تركيا على نظام الأسد، لاسيما منذ آب (أغسطس) الماضي، وقد تكثّفت مع مطالب تركيا المستمرة هذا الشهر بضرورة إطلاق عملية عسكرية برّية جديدة شمال سوريا ضد ميليشيات "واي بي جي" التابعة لحزب العمّال الكردستاني المتمركزة هناك.

التصريحات الرسمية التركية بخصوص نظام الأسد أثارت زوبعة من التعليقات والاجتهادات لاسيما من قبل اللاجئين السوريين والمتابعين للشأن التركي أيضاً من خارج تركيا. إذ انتقد البعض هذه التصريحات بشدّة، وقدّم البعض الآخر تفسيرات غير عقلانيّة لها، فيما ذهبت الشريحة الأكبر إلى انتقاد الموقف التركي.

في شهر آب (أغسطس) الماضي، أجريت عدّة مقابلات متلفزة على عددٍ من القنوات العربية للتعليق على نفس الموضوع، من بينها قناة "الجزيرة مباشر". في المقابلة المذكورة، قلت إنّ التصريحات التركية تستهدف روسيا وليس نظام الأسد، وإنّ موسكو باستطاعتها تعطيل أي عملية عسكرية تركية في الشمال السوري، وإنّ أنقرة لا تريد الدخول في نزاع مع روسيا التي تضغط منذ سنوات باتجاه تطبيع أنقرة مع نظام الأسد وتفعيل اتفاقية أضنة، وإنما تريد سحب البساط من موسكو وأي ذرائع من الممكن أن تحول دون قدرتها على تنفيذ عملية عسكرية.

ذكرت في المقابلة إيّاها أيضا أنّنا لو افترضنا جدلاً أنّ التطبيع مع نظام الأسد هدف تركي، وليس تكتيكاً، فإنّ ذلك يفترض على الأقل أن يقوم الأخير بتلبية بعض الشروط التركية، لأنّه من غير المعقول أن يكون هناك تطبيع مجاني من دون مقابل، وقد عدّدت هذه الشروط موجزاً إيّاها في ما يلي: 1) محاربة ميليشيات "واي بي جي"، 2) ضمان عودة آمنة للاجئين، 3) الحفاظ على الاستقرار في إدلب، و 4) تحقيق تقدّم في العملية السياسية بناءً على القرارات الدولية. بناءً عليه، إذا كان هناك من تقدّم سيحصل، فإنّ ذلك يتطلّب أن يتقدّم نظام الأسد باتجاه تحقيق هذه الأهداف، وهو أمر غير ممكن في الوضع الحالي.


في مقابلة أجراها إبراهيم كالين، الناطق باسم رئاسة الجمهورية ومستشار رئيس الجمهورية، مع قناة الجزيرة الإنجليزية بتاريخ 4 كانون أول (ديسمبر) 2022، قال بالحرف الواحد: "ليس لدينا خطّة فورية للقاء ـ بين أردوغان والأسد ـ، لكن رئيسنا يرسل رسالة مفادها: انظر، إذا تصرفت بمسؤولية، إذا عالجت المخاوف الأمنية، وسمحت للعملية السياسة بتحقيق تقدّم، عندها قد أكون مستعدّاً لأخذ تلك الخطوة للمساعدة على المضي قدماً في العملية السياسية، ولحماية الشعب السوري، ولإنشاء سلام وأمن إقليميين وتأمين السلام والحماية على الحدود مع سوريا. إذا حصلت مثل هذه الأمور، فأنا مستعد لإعطائه فرصة. –أردوغان- لا يقول إنّه سيلتقي الأسد هكذا من دون مقدّمات أو فقط من أجل اللقاء، لا"، مشيراً إلى أنّ الجميع ترك الشعب السوري لكنّ بلاده لم ولن تفعل ذلك.

كلام كالين، يؤكّد ما تحدّثنا عنه من مقدّمات، كما أنّ حصول الاجتماعات في روسيا دليل على أنّ أنقرة تريد أن تجعل من موسكو شاهداً على سلوك الأسد. فقد سبق لأنقرة أن تواصلت منذ بضع سنوات مع نظام الأسد عبر القناة الاستخباراتية نتيجة للإلحاح الروسي. وفي كل مرّة كان بوتين يطالب أردوغان بضرورة التواصل مع نظام الأسد بدلاً من إطلاق عمليات عسكرية في الشمال السوري، كأن أردوغان يشير الى أنّ هناك قناة اتصال مفتوحة (القناة الاستخباراتية التي تمّت نتيجة الإلحاح الروسي) لكن لم يحصل أي تقدّم. ولهذا السبب، طلب الجانب التركي أن تكون روسيا طرفاً في المحاولات الجديدة على مستوى الدفاع والخارجية، وهو الامر الذي أكّده الجانب الروسي في 16 ديسمبر. ضمن هذه المعادلة، إذا فشل الأسد في تحقيق أي تقدّم على المستويات الجديدة التي يتم الانفتاح عليها فيها، عندها لن يكون لدى موسكو أي ذريعة لعرقلة أي عملية تركية فضلاً عن تقويض سياسات تركيا في سوريا.

بيان وزارة الدفاع التركية، كما هو الحال بالنسبة إلى تصريح وزير الخارجية الصادرة مؤخراً تؤكّد جميعها أنّ ما سبق وذكرته اجتهاداً في شهر أغسطس الماضي هو بالفعل بمثابة مطالب تركية لا بد من تحقيقها إذا كان نظام الأسد يرغب في حصول لقاء وربما تطبيع.

السؤال الذي يطرح نفسه هنا، هل تمتلك روسيا القدرة على الضغط على أي من الطرفين في حال راوحت الأمور مكانها لتحقيق التطبيع رغماً عنهما؟ لا أعتقد ذلك.
هل يستطيع نظام الأسد تلبية كل هذه الطلبات؟ لا أعتقد ذلك. هل يريد نظام الأسد محاربة "واي بي جي"؟ لا أعتقد ذلك. ربما يقوم نظام الأسد ببعض المناورات ليُقنع هذه الميليشيات بالانسحاب، لكن هل سيكون ذلك كافياً لدفع الجانب التركي للتطبيع معه؟ لا أعتقد ذلك. وعليه، فإنه ما لم تحصل مفاجآت أو خطوات غير متوقعة، فأعتقد أنّ الفكرة أصبحت واضحة بخصوص التصريحات أو الإجراءات التركية المتعلقة بنظام الأسد.

هناك معطيات أخرى بطبيعة الحال تتعلق بالحسابات المرتبطة بالانتخابات الحاسمة المقبلة في تركيا والتي ستكون بمثابة الجولة الأخيرة لأردوغان في حياته السياسية. هذا المعطى لا يقلّ أهميّة على الإطلاق عن باقي المعطيات، بل يزيد ربما عنها. الجانب التركي يستضيف بضعة ملايين من السوريين منذ حوالي عقد من الزمن، وهو مسؤول كذلك عن بضعة ملايين من السوريين النازحين داخل سوريا. هذا الوضع لا يمكن له أن يستمر إلى الأبد، كما أنّه كان قد بدأ يُستخدم كورقة من قبل المعارضة في التحريض على الحزب الحاكم، الأمر الذي تسبب بمشاكل سياسية واجتماعية وأمنية في وقت يزداد فيه الضغط الاقتصادي على الأتراك.

إذا حصل تقدّم في المفاوضات مع نظام الأسد، فسيكون أردوغان قد سحب الورقة السورية من يد المعارضة التركية، ودفع نظام الأسد لتحقيق تقدّم في مطالب تتعلق بالقرارات الدولية كما هو الحال بالنسبة إلى مصالح تركيا والمعارضة السورية. أمّا إذا لم يحصل تقدّم، فيكون قد أظهر على الأقل قدرته على المناورة حتى موعد الانتخابات، وربما أطلق عملية عسكرية في الشمال، متيحاً المجال لعدد لا بأس به من السوريين للعودة إلى مناطق آمنة، وهو ما سيُعدّ انتصاراً بالتأكيد لسياسة الحكومة التركية. أمّا نظام الأسد، فيعلم هذه الحسابات تماماً، وليس لديه مصلحة في تحقيق تقدّم في المفاوضات يصب في صالح أردوغان، ولا في إطلاق عملية تركية تضع المزيد من الأراضي تحت سيطرة تركيا والمعارضة، ولذلك فإنه سيحاول على الأرجح الاستفادة من الوقت دون تقديم شيء قيّم، وتأجيل الحسم في الموضوع إلى ما بعد الانتخابات التركية.

السؤال الذي يطرح نفسه هنا، هل تمتلك روسيا القدرة على الضغط على أي من الطرفين في حال راوحت الأمور مكانها لتحقيق التطبيع رغماً عنهما؟ لا أعتقد ذلك. على كل حال، سيكون علينا أن ننتظر لنرى كيف ستسير المناورة السياسية هذه بين الأطراف الثلاثة وفي أي اتجاه.