أوقفت الشرطة احتفالا في ما سُمي «سوق الكريسماس» في إحدى قرى الجليل، عندما كان مغني الراب تامر نفّار ابن مدينة اللد، يقدّم وصلة منها أغنية «سلام يا صاحبي»، التي تحوي كلماتها انتقادات حادّة للحكومة ممثلة بالشرطة ولسيارة الإسعاف التي قد تتأخر لأن المصاب عربي!
الأغنية تحمّل السلطة مسؤولية العنف وانتشار الجريمة، فأزعجت الشرطة الموجودة في المكان لحراسة الاحتفال، فتدّخلت لوقف الغناء، لتثبت أنَّ ما جاء في الأغنية لا غبار عليه، فهي لم تتحمل نقدها حتى في أغنية، وهذا ما كان ليحدث لو أن الذي يحيي الحفل فرقة راب يهودية، ولتنتقد وتهاجم ما تشاء.
في حماس منقطع النظير يسعى وزير الأمن القومي الداخلي الجديد بن غفير، لإعادة العرب داخل مناطق 48 إلى القمقم الذي خرجوا منه في يوم الأرض الأول 1976.
يريد العودة بهم إلى حيث كانت أغنية مثل «الأرض بتتكلّم عربي» في حفل زفاف، تؤدي إلى تدخل الشرطة واعتقال الجوقة والعريس وبعض الضيوف.
ممكن الرجوع حتى إلى الحكم العسكري، ولكن من المستحيل إعادة شخصية العربي إلى ما كانت عليه، فقد طرأت عليها تغييرات هائلة، لا يتجاهلها إلا غبي، والفاشي غبيٌ بطبيعة الحال. أوّلا بسبب الانفتاح الكبير على الإعلام العربي والعالمي ووسائل التواصل ومصادر المعلومات ونقلها، فلا تستطيع أي فاشية محاصرة نقطة نائية وعزلها عن العالم، حتى لو كانت وسط الصحراء.
لقد تغيّرت نوعية الناس جوهرياً، بمن في ذلك نوعيات المعلمين في المدارس، فبعد أن كانوا يرتعبون من جهاز المخابرات وأزلامه ويشدّدون على منع أي كلمة تُذكّر بفلسطين أو بشخصية أو قصيدة وطنية خشية الطرد من العمل، بات معظم المعلمين في المدارس في كل المراحل، يبادرون إلى تعريف الطالب بتاريخ بلده وشعبه من خارج المنهاج الدراسي، وكثيراً ما يدعو المديرون كتّاباً وشعراء ومثقفين وفنانين إلى المدارس، للتحدث إلى الطلاب عن رموز شعبهم وتراثه وقصصه وما حدث له، في النكبة قبلها وبعدها، وصور غسان كنفاني وإبراهيم طوقان وعبد الرحيم محمود وشعراء ما سُمي بأدب المقاومة ورسومات ناجي العلي وخرائط وأسماء القرى المهجرة تزيّن جدران المدارس، ويتغنى الطلاب في سن الطفولة بقصائد وطنية مختارة لشعراء عرب من السابقين واللاحقين.
يسعى اليمين الفاشي إلى صياغة الوعي العربي من جديد، من خلال الكتب التدريسية، بحيث يصبح الهامشي مركزياً مثل، الحوار بين الخسّة والجزرة وأضرار التدخين، وتشجيع رياضة المشي، ثم النظر برومانسية إلى أجهزة الدولة ورموزها، مع تجاهل تام لذِكر
فلسطين أرضاً وشعباً.
هذا المسعى سيفشل لأسباب كثيرة، أوّلا لأن المواطن العربي الفلسطيني يرى ويلمس
العنصرية ويعيشها في حياته اليومية، وتلدغه وتواجهه بصورة وقحة في كل مجالات الحياة، منذ صرخته الأولى حتى زفيره الأخير. لا يمكن للمواطن العربي أن يتجاهل الاعتداءات اللفظية التي تعج بها شبكات التواصل ضده وضد أمَّته وشعبه، فإلقاء البِشت القَطَري على كتفيّ ليونيل ميسي، أفقد الإعلام الإسرائيلي توازنه، وانهمرت التعليقات العنصرية بأعداد لا تصدّق، من دون أية قيود، تحت شعار حرّية التعبير.
أما على صعيد قمع وتقتيل شعبنا الفلسطيني المطالِب بحرّيته واستقلاله، الذي تدعمه في هذا قرارات دولية، فلا يمكن إقناع طفل واحد، بأن السّلطات التي ترتكب الجرائم اليومية بحق أبناء شعبه تحلم له بالخير، ويوماً بعد يوم، يتنامى الشعور وتترسخ القناعة بأن مصير أبناء الشعب الفلسطيني واحد، وأن لا مناص لهم سوى الوحدة أو الندم ثم الصراخ» لقد أكلتُ يوم أكل الثور الأسود».
ما يطمح إليه نتنياهو ووزراؤه المتحمِّسون للقمع، هو إقرار العرب بدونيّتهم أمام اليهود، والاعتراف بأن اليهود هم أصحابُ هذه البلاد، والعرب دُخلاء وغزاة جاؤوا مع الفتح الإسلامي، في تجاهل تام للقبائل العربية في فلسطين قبل الإسلام، وعليهم شكر إسرائيل لمنحهم جنسيتها، وأن يتأدبوا فلا يطالبون بمساواة في حقوق قومية أو مدنية.
صحيح أن الجهاز قادر على القمع الوحشي أكثر وأكثر، وأنّ الصمود وتحدي الفاشية سيكون مُكلفاً جداً، ولكن التراجع والصمت والتهرّب مكلفٌ أكثر، فلا مناص من دفع ثمن الكرامة ونيل الحقوق بدون انحناء، ولا سلام مع الفاشية..
(
القدس العربي)