كتاب عربي 21

الموافقة الأمنية على المراحيض!

تحتاج جميع الأعمال التجارية في مصر لموافقة أمنية- جيتي
ليست الدولة البوليسية، لكنها الدولة العسكرية التي تفتقد للخبرة في الحكم، فتأتي من الأفعال ما يضحك الثكالى، وقديماً قال القائل: شر البلية ما يضحك!

فقد ظللت يوماً كاملاً لا أتعامل مع المنشور الذي تم الترويج له على نطاق واسع، وهو عبارة عن قرار وزاري يستوجب الحصول على "الموافقة الأمنية" كشرط لمزاولة النشاط في كل الأعمال التجارية، ما ظهر منها وما بطن، ولم يستثن من ذلك إلا أعمال النسل والإنجاب. إذ تشككت في المنشور، واعتقدت أنه قد يكون ملفقاً، فما الذي يدفع القيادة السياسية في بلد بحجم مصر، بل وأي بلد على ظهر البسيطة بأي حجم، لاتخاذ قرار يشترط الموافقة الأمنية للترخيص لمحلات "البقالة"، و"الحلاقة" الرجالي والحريمي، والمشروبات الغازية، والمراحيض العامة، إلا إذا كنا أمام عمل من أعمال التزوير في صورة لمحرر رسمي، قيل إنه منشور في جريدة الوقائع المصرية، شأن القرارات الوزارية في عمومها!

فلما جن الليل، وجدت عمرو أديب يأخذ الأمر على محمل الجد، ويناقش هذا القرار، وقد استضاف من تم تقديمه على أنه مسؤول عن التراخيص وهو د. محمد عطية الفيومي، الذي ذكرنا اسمه في انتخابات برلمانية قديمة، خاضها المستشار عادل صدقي ضد والده الحاج عطية الفيومي، النائب التاريخي لإحدى دوائر محافظة القليوبية (1990)، وكان المستشار صدقي شقيقاً للدكتور عاطف صدقي، رئيس الوزراء، والذي كان بالرغم من موقعه الكبير أقل من أن يفرض على قيادة الحزب الحاكم ترشيح شقيقه، القاضي السابق، فترشح مستقلاً ضد الفيومي مرشح الحزب، لكن كونه شقيق رئيس الحكومة أجبر وزارة الداخلية على أن ترضخ لطلباته؛ بأن يتم الفرز صندوقاً صندوقاً في حضوره شخصياً، وأن يتوقف الفرز لساعات لنومه حارساً للصناديق التي لم يتم فرزها. وتأخر إعلان النتيجة لأيام، ليصبح حديث الرأي العام في طول الوطن وعرضه، لينجح عادل صدقي ويسقط الفيومي!
ما الذي يدفع القيادة السياسية في بلد بحجم مصر، بل وأي بلد على ظهر البسيطة بأي حجم، لاتخاذ قرار يشترط الموافقة الأمنية للترخيص لمحلات "البقالة"، و"الحلاقة" الرجالي والحريمي، والمشروبات الغازية، والمراحيض العامة، إلا إذا كنا أمام عمل من أعمال التزوير في صورة لمحرر رسمي، قيل إنه منشور في جريدة الوقائع المصرية، شأن القرارات الوزارية في عمومها!

وكان سقوطه مفاجأة، جرى اعتباره دليلاً على أن الانتخابات مزورة، وأن التزوير تم لصالح شقيق رئيس الوزراء، وكتب الأستاذ مصطفى كامل مراد، رئيس حزب الأحرار، مقالاً، يؤكد هذا المعنى، ومما قاله أن الرئيس الأمريكي نفسه لو خاض الانتخابات ضد الحاج عطية الفيومي لنجح الفيومي. فالرجل من النواب التاريخيين الذين ارتبطوا بدوائرهم وارتبطت بهم، لكن ما لم يكن في الحسبان أن الجيل الجديد كانت لديه رغبة في التغيير، فلما رأى المستشار صدقي وصرامته، انحاز له، فمن غيره يمكن أن يحمي إرادته من التزوير؟ لكن هؤلاء لم يكونوا محظوظين، فلم يستطع المستشار عادل صدقي أن يكون النائب الجماهيري، الذي يتحمل حضور الناس، فخيّب الآمال منذ اللحظة الأولى وهو يصرف جموع المهنئين، فهذا قاض تربى تربية مختلفة من أن يكون شخصية نيابية، وقد أخذ من الجماهير ما يريد وليس لديه طاقة لأن يتحملها أكثر من ذلك! ليعود الفيومي من جديد بسهولة في الانتخابات التالية.

ومرة أخرى تجد الجماهير في المرشح الناصري ورجل الأعمال محمد فريد حسنين، ضالتها، فتحمله على الأعناق إلى البرلمان في انتخابات (2000)، وتسقط الفيومي، لكنه لم يكن على مستوى التحدي، فهو صاحب ممارسات سياسية مضطربة، فقدم استقالته من عضوية البرلمان احتجاجاً على ما وصفها بالأوضاع السياسية السيئة، ليعود الفيومي من جديد، ويموت الأب، ويرثه الابن الطبيب محمد عطية الفيومي، وقامت الثورة وهو نائب. ولست متابعاً للأوضاع الآن، لكي أعرف إن كان نائباً أم لا، ولا أعرف إن كان هو من كان يتحدث مع عمرو أديب بصفته المسؤول عن تراخيص المحال العامة، أم شقيقه!

القرار المسخرة:

ومهما يكن، فقد ذكر الفيومي (الابن) أكثر من مرة أن المشار إليه هو قرار وزاري، ولا شيء من هذا ورد في القانون، لكن عمرو لم يلتقط الخيط، فقد كان مرتبكاً، فيستنكر القرار ويبرره، ويستغربه ثم يستوعبه. وربما لم تكن لديه الثقافة القانونية اللازمة لفهم ما يرمي إليه "الفيومي" دون أن يفصح، فلا أحد يمكنه الإفصاح في جمهورية الخوف، التي شيدها الحاكم العسكري، والذي لم يبق له إلا أن يخرج للناس بفرمان يحرّم فيه أكل الملوخية، كما فعل الحاكم بأمر الله، فصار لهذا من مساخر التاريخ!
القرار الوزاري لا يجوز له أن يخرج على حدود النص القانوني، فالاجتهاد يكون في إطار النص، وليس بالخروج عليه، لأننا سنكون أمام تشريع جديد، والوزراء ليسوا جهة التشريع، لا سيما وأن "القرار المسخرة" قد نص على رسوم مالية، والأحكام المستقرة للقضاء المصري تمنع إقرار أي أعباء مالية إلا بقانون

فالقرار الوزاري لا يجوز له أن يخرج على حدود النص القانوني، فالاجتهاد يكون في إطار النص، وليس بالخروج عليه، لأننا سنكون أمام تشريع جديد، والوزراء ليسوا جهة التشريع، لا سيما وأن "القرار المسخرة" قد نص على رسوم مالية، والأحكام المستقرة للقضاء المصري تمنع إقرار أي أعباء مالية إلا بقانون، وهذا أمر يخرج من اختصاص الوزراء، لكن السلطة المفلسة تتصرف كما لو كانت فوق القانون!

اللافت أن "القرار المسخرة" الذي يدخل التاريخ من نفس الباب الذي دخل منه قرار الحاكم بأمر الله، صدر في أجواء يتم الحديث فيها عن سياسة الشباك الواحد لتسهيل الحصول على التراخيص لإقامة المشروعات، لجذب الاستثمارات الأجنبية، وبعد أيام من تصريح السيسي بتذليل العقبات أمام المستثمرين للحصول على الموافقات لإقامة المشروعات بعيداً عن الروتين وتعقيداته، لدرجة تفكيره في تخصيص مكتب برئاسة الجمهورية تحت إشرافه لهذا الغرض!

وأي مجنون في العالم الذي يمكنه أن يقرأ مثل هذه القرارات ثم يأتي لهذا البلد، وحتى وإن كان المستهدف بها هم المصريون وحدهم (وهو ما لم ينص عليه القرار)، فيكفي أن يقف المستثمر الأجنبي على هذه العقليات التي تحكم، حتى يفر من المخاطرة فراره من الأسد، فمن يضمن المستقبل في ظل هذه الأجواء المسكونة بالجنون والرعونة، ورأس المال جبان بالفطرة؟!

إنني أعلم أن الدولة المصرية البوليسية ترى في بعض الأنشطة أنها من أعمال السيادة، فلا يكون الترخيص مسألة قانونية بحتة، أو عملية إجرائية، يستوفيها المرء ليحصل على ما يريد، ولا بد من موافقات أمنية، لكن لم يهبط المستوى إلى محال البقالة، والسوبر ماركت، وتصفيف الشعر، والمراحيض العامة، أيضاً بالنص على ذلك في قرار معلن!
فالموافقة الأمنية كانت واقعاً معلوماً للكافة ولكن لم ينص عليها قانوناً، وهذا ما ميز الدولة البوليسية بسبب خبرتها في الحكم، وما تفتقده دولة العسكر من فطنة نتيجة افتقاد الخبرة، ثم إنها تتصرف بقوة البيادة وليس بعقل صاحب القرار السياسي!

الموافقة على ترخيص الصحف:

فقد كانت "الموافقة الأمنية" في الأمور الخاصة بتراخيص الصحف، أو بطباعة الصحف الأجنبية وتداولها في مصر، ولم تكن هناك قيمة لاستيفاء الشروط القانونية ما لم يحصل النشاط على الموافقة الأمنية، ولا يعني الحصول على حكم قضائي بمزاولة النشاط شيئاً إلا بعد هذه الموافقة. وإن كان هذا شرطاً في ظل مسؤولين ضعاف، إلا أنه عندما تولى صفوت الشريف منصب رئيس المجلس الأعلى للصحافة، نفذ هذه الأحكام، ووافق على عدد من الصحف دون العودة للأمن، إلا في الأحكام الصادرة بعودة جريدة "الشعب" فقال إن قرارها بيد الرئيس، ولا يستطيع أن يفاتحه في عودتها!

وكانت الدولة البوليسية أكثر حكمة من أن يتم النص فيها على "الموافقة الأمنية" في القانون، فقد كان عرفاً سائداً، تصدر كتابة لجهة الاختصاص الرسمية، وتبلغ للمعني بها شفاهة دون أن يمسك دليلاً على ذلك في يده!

وعندما طعنت جريدة "الكرامة" لصاحبها حمدين صباحي، في قرار المجلس الأعلى للصحافة برفض الترخيص لها، فإن هيئة قضايا الدولة (محامي الحكومة) ارتكبت خطأ فادحاً أمام هيئة المحكمة، قوى من موقف طالبي الترخيص، عندما قالت إن الرفض لأسباب أمنية، فقد وافق جهاز مباحث أمن الدولة على الترخيص واعترض تقرير المخابرات العامة، فما كان من المحكمة إلا أن تصدر حكمها برفض القرار الإداري، والترخيص للصحيفة، ولم يتم تنفيذ الحكم إلا في عهد صفوت الشريف، وليس هذا هو الموضوع!

فالموافقة الأمنية كانت واقعاً معلوماً للكافة ولكن لم ينص عليها قانوناً، وهذا ما ميز الدولة البوليسية بسبب خبرتها في الحكم، وما تفتقده دولة العسكر من فطنة نتيجة افتقاد الخبرة، ثم إنها تتصرف بقوة البيادة وليس بعقل صاحب القرار السياسي!
لا يحل للمواطن الذهاب للخلاء إلا بموافقة أمنية، لا سيما وأن الرسوم تصل على بعض الأنشطة إلى مائة ألف جنيه، وقد تكون عيونهم انصرفت إلى الرسوم، واستدعت ذاكرتهم جدول الضرب، فلم ينتبهوا إلى المسخرة في القرار الوزاري!

اللواء آمنة صاحب القرار:

عندما اطلعت على اسم من أصدر "القرار المسخرة"، قلت آن لي أن أمد قدميّ؛ فالقرار صدر من وزير التنمية المحلية اللواء هشام آمنة، وهي وزارة يتغير اسمها ويستمر اختصاصها، فمن وزارة الحكم المحلي، إلى وزارة الإدارة المحلية، إلى وزارة التنمية المحلية، وإذا كان قد تولاها لفترة قصيرة وكيل جهاز المخابرات اللواء عبد السلام محجوب، فقد كان هذا بعد سنوات طويلة قضاها محافظاً للإسكندرية، فضلاً عن أن عمل جهاز المخابرات ليس عسكرياً بالأساس، وإن كانوا ضباطاً بالجيش، لتكون هذه الوزارة في عهد مبارك هي من نصيب ضباط الشرطة، وأبرز وزرائها النبوي إسماعيل وحسن أبو باشا (بعد الإقالة من منصب وزير الداخلية) ومصطفى عبد القادر، مدير جهاز أمن الدولة سابقاً، بعد أن كان مرشحاً لمنصب وزير الداخلية!

بيد أن الوزير الحالي اللواء آمنة حاصل على بكالوريوس العلوم العسكرية وعمل ضابطاً في الحرس الجمهوري، وخرج منه لمدة قصيرة محافظاً للبحيرة، وعندما يصدر منه مثل هذا القرار فيمكن للعقل العام أن يستوعبه!

ولا يمكن لقرار كهذا أن يصدره الوزير من تلقاء نفسه، لكن في ظل العقلية الحاكمة لمصر، فإن الأمر يتوقف على طريقة العرض، وقد يكون الوزير أقنع به السلطات العليا، بأنه سيجعل البلد بقبضتهم، فلا يحل للمواطن الذهاب للخلاء إلا بموافقة أمنية، لا سيما وأن الرسوم تصل على بعض الأنشطة إلى مائة ألف جنيه، وقد تكون عيونهم انصرفت إلى الرسوم، واستدعت ذاكرتهم جدول الضرب، فلم ينتبهوا إلى المسخرة في القرار الوزاري!

حقاً، إن الجنون فنون!

twitter.com/selimazouz1