"فكرة
الكتابة عن العزل وهذا الواقع المؤلم أو عن هذه الحياة التي هي خارج أجواء الحياة،
أو بالتوصيف الدقيق هي وسط ما بين عالم الأحياء وعالم الأموات "البرزخ"
والتي هي للبرزخ أقرب. هذه الفكرة راودتني
منذُ زمنٍ، بل منذ العزلة الأولى التي استمرت ثلاثة أعوام، من 1997 حتى منتصف 2000.
وقد كانت لي محاولات كثيرة سجلت وقتها ودونت على بعض كراريسي يوميات وأحداثاً ومواقف
ومشاعر وأحاسيس".
عزيزي
القارئ:
ما
سبق هي فقرة وردت في كتاب "خمسة آلاف يوم في عالم البرزخ" لصاحبه الأسير
حسن سلامة، والذي قاد سلسلة عمليات ثأر رداً على اغتيال القائد يحيى
عياش، فحاكموه بـ48 مؤبداً و35 عاماً، بدأت عام 1997، ظنا بأن ذلك يشفي غليلهم منه.
كتب
صاحبنا حسن
مذكراته في بقعة جغرافية صغيرة والتي لا تتجاوز نصف مساحة الغرفة
العادية (2*2 متر مربع)، تلك المساحة هي زنزانة انفرادية عاش فيها ثلاثة عشر عاما على مرحلتين، يعني 5000 يوم، لك
أن تتصور ذلك!
قرأتُ
المذكرات، ذُهلت مما قرأت، أعجبني صمود حسن، فرفعت القبعة احتراماً له، وكنت أرفع
حاجبيّ دهشةً، وأنزلهما بعد زوال الدهشة، حيث أضحكنا حسن وأبكانا، أشعرنا بضعفنا
وبقوته، وأخذنا إلى عالمه المليء بالقصص التي لا تنتهي، وأشعرنا كم هي النعم التي
نحن فيها، وهو يفتقدها، والتي تبدأ بحرية التنقل ولا تنتهي بحرية اختيار زمان
ومكان ومدة النوم.
قرأت
المذكرات فساءني وحشية الاحتلال في التعامل مع الأسرى، حيث الحرمان من أبسط
الحقوق، فالخيارات في السجن ضيقة جداً أيها الناس، وعلى الأسير المقارنة في
الاختيار ما بين السيئ والأسوأ. حقوق الأسير آخر اهتمامات الآسر، إن مرض الأسير
فالإهمال هو العلاج، حتى احتضانه لعائلته وأولاده حين الزيارة يخضع لمعايير، وليس
له أن يختار من يرافقه في الزنزانة الانفرادية، ولا يملك أن يُسلم عينيه للنوم حين
يرغب.. طقوسه اليومية لا موعد لها، هي خاضعة لمزاج السجان، وقس على ذلك كل تفاصيل
الحياة في السجن، وما على السجين إلا أن يقول "سمعاً وطاعة".
يُقال في القانون الدولي الإنساني (بلا مؤاخذة) بأن للسجين حقوقا يجب أن يتمتع بها، لكن الواقع يقول بأن هذه الحقوق تقف عند بوابة السجون الصهيونية وتنتظر طويلا إذنا بالدخول، وما أن يسمح لها تكون التجاعيد قد غزت وجه الأسير وغيرت ملامحه وفعل السجان بالسجين ما يحلو له
كان
حسن يتمنى أن يرافقه في تلك الزنزانة أحد من البشر الذين تعج بهم الكرة الأرضية
لكن للعدو رأي آخر، فقد جلبوا له رفقاء ليسوا بشراً، بل حشرات، ذباب، صراصير،
فئران تعيش معه، وكأنهم يقولون له تلك الكائنات تليق بك، وإن تكرموا عليه بإنسان
فليكن مسجونا مجنونا.
يُقال
في القانون الدولي الإنساني (بلا مؤاخذة) بأن للسجين حقوقا يجب أن يتمتع بها، لكن
الواقع يقول بأن هذه الحقوق تقف عند بوابة
السجون الصهيونية وتنتظر طويلا إذنا بالدخول، وما أن يسمح لها تكون التجاعيد قد غزت وجه الأسير وغيرت ملامحه وفعل
السجان بالسجين ما يحلو له (للسجان طبعا)، وحينها إما أن يكون السجين قد مات، ولا
زالت القوانين تنتظر رغم حرارة الصيف وبرودة الشتاء، وإما أن يكون السجين قد خرج
من السجن، دون أي تدخل من القوانين.
ورغم مرارة
السجن، فقد تخرج حسن من الجامعة دون أن يدخلها وقبل أن يخرج من السجن، وفي السجن
حدث لحسن ودون قصد منه ما لم يحدث لغيره، فقد قدر الله له أن يخطب الأسيرة المحررة
غفران زامل، ولم يوقع حسن عقد قرانه، لأنه كان في السجن أيضاً، وتلك قصة أخرى.
أختم
بما ختم به حسن كتابه، حيث صاغ رسالته الأولى ومما جاء فيها: يا من تسكنون العالم
الكبير الذي نسمع عنه دون أن نراه، مكاني عالم صغير نحيا فيه مرارة الاعتقال
والعزل، في هذا المكان الضيق الذي يضيق أكثر وأكثر، كم يحلو لنا أن نتذكر ذلك
الزمان الذي مضى، والذي قد يكون هو الصورة الأجمل التي ما زلنا نحملها في قلوبنا
وعقولنا.