قال المنظر الإسلامي المعروف البروفسور حسن مكي، إن
السودان في مرحلة "فاصلة" بين القديم والجديد، لكن التصور الوطني الجديد ما يزال بعيد المنال، وإن المشهد تسيطر عليه الأجندة الخارجية لغياب المشروع السياسي الوطني نتيجة "شيخوخة" وعجز القوى السياسية في اليمين واليسار، ما يجعل الجيش عاملا رئيسا في المعادلة السياسية عبر المكون العسكري الحالي أو غيره.
ورأى مكي في مقابلة مع
"عربي21" أن السودان القديم يتضعضع ويموت في مقابل سودان جديد "يتخلق"، لكنه لم يتبلور حتى الآن، معتبرا أن البلاد تشهد مرحلة "فاصلة" تبرز فيها الأفكار والقوى السياسية الجديدة، لكنها لا تكاد تستقوي بنفسها وتحتاج دائما لسند الآخر الأجنبي، "كأنها تريد أن تنمو على أعتاب السفارت الأجنبية".
ويلاحظ أن المرحلة الانتقالية تستحوذ عليها خاصية "الأنا" ثم يبدأ التسلسل متراجعا إلى المجموعة الصغيرة "الشلة" ثم "الحزب" ثم "الطائفة" ثم "القبيلة" وفي ذيل السلسلة يقبع الوطن، وأصبحت مكونات الثقافة والدين لا تشغل حيزا في اهتمامات النخب السياسية رغم أن السودان تأسس عليها منذ الحركة المهدية، والآن اللغة العربية مهجورة في السودان ولا يعبر عنها في الدستور لأن النخب تريد مخاطبة الآخر وكسب ود الأجنبي والاستقواء به.
وعلى الرغم من "سطحية المشهد السياسي"، إلا أن مكى يشير إلى تنامي صراعات كبيرة ولكنها مخفية مثلما ما يحصل في دارفور بين "آل دقلو" ومجموعات "الزغاوة"، إذ يعتقد كل طرف بان دارفور هي متنفسه، ويتنافس الطرفان للسيطرة على المنطقة وامتدادتهم خارجها، ويستبطن هذا الصراع الثنائي صراع داخلي يشمل أكثر من 26 قبيلة مثل الفور بتشعباتها التي لا ترى ترى نفسها ممثلة في هذا المشهد الذي لا يعبر عن توازن القوى الأصلي حتى لو اندثرت القوى القديمة، ولكن المسرح السياسي ما يزال شاغرا ولم تستطيع القوى الجديدة ملؤه.
واعتبر بأن "التسوية السياسية" الجارية حالية، هي من صناعة القوى الدولية التي تريد صناعة "كتلة حرجة" لا وزن لها في المجتمع السوداني، وبدلا من أن تعمل على توحيد الحركات السياسية السودانية، فهي تعمل على تفريقها حتى الحركات السياسية القديمة مثل الحزب الاتحادي الديموقراطي الأصل بزعامة السيد محمد عثمان الميرغني يختلف نجلاه حول موضوع التسوية، وتستمر بذلك حالة "اللاتوازن" التي تؤدي إلى بروز تسييس التصوف والقبائل "لأنهم هؤلاء شعروا بأن القوى السياسية ضعيفة ولا تستطيع أن تستجيب لتحدياتهم ومطلوبات المرحلة".
وقال: إن "القوى الدولية" هي القوى السياسية الوحيدة المؤثرة في الراهن السياسي، وتحاول ان تعمل في المسرح باسم الرباعية الدولية إضافة الى الرئيس عبد الفتاح البرهان و"آل دقلو" الى جانب "شركاء القوى الدولية" وهم قوى الحرية والتغيير التي لديها شراكة استراتيجية مع القوى الدولية وليس تكتيكية، ولكن هناك أشياء يجب إعادة قراءتها مثل المنحة الصينية الأخير للسودان رغم تواضعها ولكنها تتضمن رسالة بأن الصين موجودة في السودان وأن على الرباعية الدولية ان تنتبه إلى ذلك، وفيما يبدو فإن الخارجية السودانية منتبهة لهذا الامر والدليل على ذلك ان السودان صوت في مجلس حقوق الانسان لصالح الصين ضد الايغور، وامتنع السودان عن التصويت في المسألة الأوكرانية، ما يؤكد أن تصريحات السياسيين لا تكشف عن نواياهام وكأن المكون العسكري يلوح بخيارات الصين وروسيا وإسرائيل بدلا عن الولايات المتحدة الأمريكية والغرب.
وذكر مكي أن الدلائل على عجز الحركات السياسية وإصابتها بالجفاف والتصحر، واضحة لأي ملاحظ في مواكب الوفاق أو في مواكب اليسار السوداني، إذ لا يتسطيع دعاة التغيير الجذري تنظيم مظاهرة واحدة من الجامعات في ظل وجود أكثر من 30 جامعة في البلاد، مبينا أن اليسار الذي يقود هذا التيار يعتمد على كوادر الحزب الشيوعي وصغار السن واليائسين من الإصلاح، بينما ظلت الانتفاضات الشعبية في السودان خلال الستينات والسبعينات والثمانينات يقودها طلاب الجامعات، الحراك السياسي يفتقر للمستقبل لان الجامعات تخرج القيادات السياسية والتنموية والمهنية، عزوف عن الراك السياسي وضحايا للعولمة وبعضهم للمخدرات وغيرها، وهذا مؤشر على شيخيوة الحركة السياسية السودانية.
في المقابل فإن التيار الإسلامي يتحرك تحت مظلة القبيلة والتصوف، وصوتهم في الخارج غير موجود، وأصلا هم لا يمتلكون مشروعا سياسيا، وانصهرت الحركة الإسلامية خلال ثلاثين عاما في بناء الدولة وسبل التنمية الاقتصادية، واعتبرت ان ذلك سيكون شفيع لها ويغطي عورة غياب المشروع السياسي، وحاليا فقد هذا التيار نخبته القائدة بعد رحيل "الدكتور حسن الترابي"، بينما أبرز قادته المعروفين في السجون أو هم في الخارج صامتون، وكأن الساحة الدولية محصنة ضد الإسلاميين، بينما القادة الموجودون في الداخل يشتركون في التظاهرات المناوئة لليسار بدلا من أن يكونوا قادة للتنوير والفكر.
بالنسبة للبروفسور حسن مكي، فإن السودان فقد نخبته القديمة، ولا يوجد الآن من يعوض أمثال عبد الخالق محجوب وعمر مصطفى المكي وعمر مطفى المكي وصلاح احمد إبراهيم في اليسار أو مثل حسن الترابي وعثمان خالد واحمد عثمان المكي في اليمين، ولم يتبق من هؤلاء غير إبراهيم احمد عمر المطلوب منه عطاء فكري بدلا من السير في المواكب، وينسحب ذلك على كافة مناحي الحياة السودانية سواء في مجالات الموسيقى والغناء والرياضة، وتشهد هذه المجالات تقليدا للقديم دون ابتكار، بينما يسيطلا على المشهد الاقتصادي الكسب السريع، وتتمثل أكبر قوة اقتصادية في "آل دقلو" (الممثلة بقائد الدعم السريع الفريق محمد حمدان دقلو)، ولكن ليس لدى هذه القوى الاقتصادية البعد الروحي والسياسي والاقتصادي مثل المدرسة القديمة، ولم تفرز القوى الجديدة حتى الآن مشروعا اقتصاديا سودانيا حديثا.
وقال إن السودان ليس معزولا عن محيطه العالمي أو الإقليمي، فالعالم كله يمر بأزمة قيادة، ولا يستطيع أن يقدم مثل روزفلت وايزنهاور ونيكسون مرورا بعبد الناصر والسادات والملك حسين والملك الحسن ومانديلا وغيرهم من الشخصيات الأسطورية، بل أن بريطانيا التي أنجبت تشرشل وماكميلان حكمتها صحفية "غير معروفة" ومن بعدها جاء الهندوسي الذي لم يحمله للحكم ثروته المالية، وفي إيطاليا جاءت رئيسة وزراء محمولة على تيار يميني قومي مشروعه السياسي يتمحور فقط ضد المهجرين، والكنيسة الكاثلوجية تتراجع بشدة من قضاياها التقليدية، وكذلك الوضع على مستوى الجامعة العربية التي لا يكاد يسمع لها صوتا، بينما الاتحاد الافريقي نفسه مأزوم ولا يريد أن يتورط في قضايا المجتمع الدولي في السودان أو غيره.