خلال سفر بأحد المطارات العربية قبل سنوات التقيت شابا من دولة عربية (تعيش على المساعدات)، فجَرَّنا حديث المطارات إلى مونديال قطر.
كان الرجل ممتعضا من كون قطر تستضيف مونديال 2022، وكان واضحا استياؤه من كل ما يمتّ لقطر بصلة مثل تلفزيون الجزيرة ونادي باريس سان جيرمان وغيرهما. وفي ثنايا الحديث دعا الله أن يسحب المونديال من قطر.
قلت: دعنا نتناقش بهدوء… لنفترض أن المونديال سُحب من قطر، ماذا ستستفيد أنت على الصعيد الشخصي؟ لم يجد ما يقول. سألته ثانية: هل بلدك هو المرشح التالي وعليه سينال شرف تنظيم المونديال؟ لم يجد ما يقول.
أيقنت أن المسكين مقتاد بمشاعر وأحكام جاهزة لا تفسير لها إلا في عوامل نفسية ومرَضية مثل الغيرة.
أشعر الآن أن العرب الذين ساءهم في البداية أن تستضيف قطر المونديال قد عادوا إلى رشدهم. وأعتقد أن استياءهم وغيرتهم لا يُذكَران مقارنة بالحملة التي تشنها دوائر أوروبية ضد قطر. كثير من العرب لا يملكون أدوات وموارد الأذى والتشهير مثل الدوائر الغربية، وبالتالي تبقى مشاعرهم وغيرتهم حبيسة صدورهم أو مجالسهم الضيّقة. لكن ما يأتي من الغرب قصة أخرى أصبحت مقززة فعلا.
لن يقنعني أحد بأن الحملة التي تتعرّض لها قطر في الصحافة الغربية مدفوعة فقط بالمهنة وحق الجمهور في المعرفة. أن تُشهَر كل هذه الأسلحة الثقيلة تزامنا في أكثر من بلد وبأكثر من لغة، مسألة منظمة مقصودة، منطلقها حقد وغيرة وحسد، وهدفها التشويش على المونديال عشية انطلاقه طالما لم يعد ممكنا منعه أو سحبه من قطر. كل الذرائع والأسباب التي تُرفع ضد قطر توفرت في دول أخرى استضافت المونديال، وستتوفر لاحقا، لكن ولا دولة استُهدفت بسيول من الحقد كالتي تنال قطر.
حقوق العمالة: حق يراد به باطل
إنكار أن العمالة الآسيوية في قطر والخليج تعاني الأمرّين يشبه تغطية الشمس بغربال. لكن إنكار أن قطر حاولت إصلاح وضع متجذر منذ ستة عقود أو سبعة، فيه إجحاف وتعامٍ عن الحق.
هذه العمالة التي يتباكى عليها العالم الغربي لديها مقابل في أوروبا وأمريكا. قد يكون لبعض العاملين الآسيويين في قطر أشقاء وأقارب ينتظرون في الأحراش منذ سنوات لعبور البحر نحو أوروبا. وعندما يفلحون في ركوب قارب متهالك يطاردهم حرس السواحل اليونانيون والإيطاليون والفرنسيون بالذخيرة الحية في عرض البحر، برعاية شبه رسمية أوروبية، ويمنعون عنهم المساعدة الإنسانية لكي يموتوا ويصبحوا غداء للأسماك.
النسخة الأخرى من عمالة قطر موجودة في أمريكا وشيّدت لها السلطات سياجا تجاوز طوله 3 آلاف كلم وارتفاعه أربع أمتار. وقبل هذا وذاك، تأتي كبريات الشركات الغربية إلى عقر دار هذه العمالة لتمتص دمها وعرقها مقابل دولار أو اثنين لليوم.
نادرة جدا الصحافة الغربية التي تتألم لألم هؤلاء وتبكي مع أمهاتهم وأهاليهم في القرى البعيدة في آسيا وإفريقيا. الأمر بالكاد تطرقه جمعيات خيرية ومدنية من أناس متطوعين، هم ربما آخر الطيبين في الغرب، ينفقون من جيوبهم ووقتهم.
إنكار أن العمالة الآسيوية في قطر والخليج تعاني الأمرّين يشبه تغطية الشمس بغربال. لكن إنكار أن قطر حاولت إصلاح وضع متجذر منذ ستة عقود أو سبعة، فيه إجحاف وتعامٍ عن الحق
أستراليا التي يتباكى فريقها على العمالة الآسيوية في قطر أنشأت للاجئين معسكرات في دول بعيدة حتى لا يقتربون من أرضها، وشاركت قبل اليوم في العديد من البطولات في قطر والخليج. بريطانيا تعترضهم في القنال الإنكليزي وتعيدهم بالقوة إلى فرنسا. ثم خططت لترحيلهم إلى رواندا لولا بعض الخيّرين من النشطاء المدنيين. كثير من الرياضيين والسياسيين في غرب أوروبا وشمالها الذين يذرفون دموع التماسيح اليوم شاركوا قبل أشهر في الأولمبياد الشتوية في الصين. لا يذكر العالم أنهم انتقدوا وضع الحقوق والحريات هناك، أو اقترحوا مقاطعة الألعاب بسبب جحيم أقلية الأويغور.
الذين احتفوا بمونديال روسيا 2018، وبعضهم هنَّأ بوتين على حسن التنظيم، فعلوا بينما بوتين يقتل بالسم معارضيه في كبريات العواصم الغربية وجيشه يقصف السوريين بالأسلحة المحظورة، وماضٍ في إجراءات ضم شبه جزيرة القرم ومناطق في شرق أوكرانيا.
الكرة دخيلة على قطر
لا أعرف مَن الذي اخترع مقولة أن كرة القدم دخيلة على قطر وربَط المونديال فقط بالمجتمعات التي مارست اللعبة منذ القدم.
في الحالة هذه لماذا مُنح مونديال 2002 لكوريا الجنوبية واليابان؟ ولماذا مُنح مونديال 2010 لدولة جنوب إفريقيا؟ وما هي المعجزات الكروية التي حققتها الولايات المتحدة حتى تُمنح استضافة مونديال 1994؟
الكلام عن علاقة عضوية بين حق استضافة دولة ما للمونديال بتاريخها مع الكرة مجرد هراء. ومن المعيب أن يجري تداوله في هذا العالم وهذا الزمن.
التمسك بهذه المقولة يعني، ببساطة، أن تنظيم المونديال سيقتصر على حفنة من الدول قد لا تتجاوز عدد أصابع اليد الواحدة، حتما لن يكون ضمنها كثير ممن يتكالبون على قطر اليوم.
المفارقة أن الدول التي لها باع وماضٍ مع الكرة لا تستطيع تنظيم مونديال، أو لا ترغب، لما يتطلبه من تكلفة وتحضير.
البكاء على البيئة
لا يختلف البكاء عن البيئة عن البكاء عن العمالة وعن نكتة قطر لا تعرف الكرة! هؤلاء نسوا بسرعة أن المسافة بين بعض المدن الروسية التي استضافت مونديال 2018 كانت فعلا خيالية. بين موسكو وكالينغراد 1300 كلم. من موسكو إلى سمارا 1100 كلم. بين سانبترسبرغ وسوتشي 2300 كلم.
كل هذا تطلب رحلات جوية متكررة بطائرات روسية أغلبها قديمة قاتلة للبيئة. أين هذا من الرحلات المرتقبة من دول جوار قطر لأغراض مونديال 2022 أو من الملاعب الثمانية المكيّفة؟
المأساة نفسها ستتكرر بعد أربع سنوات، وستكون أسوأ من الكل لأن المونديال سيجري في ثلاث دول الواحدة منها بحجم قارة، الولايات المتحدة وكندا والمكسيك.
سننتظر لنرى هل يشن هؤلاء حملة مماثلة على الدول الثلاث، وهناك أسباب عديدة للسخط النقل الجوي أحدها فقط.
الحملة على قطر تُنفَّذ بأذرع غربية، لكن ما لا شك فيه أن دولة في الجوار تحرك نصيبها من الخيوط عبر ضخ ملايين الدولارات لشركات العلاقات العامة التي تُسخِّر بدورها صحفا وصحافيين.
كاتب صحافي جزائري