يُروى في الأوساط السياسية
الجزائرية أن الرئيس الراحل عبد العزيز بوتفليقة، أثناء مفاوضاته مع قادة المؤسسة الأمنية على قبول الترشح للانتخابات الرئاسية سنة 1999، وضع شروطا من بينها أن يُمنح نسبة من الأصوات تعلو على النسبة التي مُنحت لسلفه اليمين زروال في انتخابات تشرين الثاني (نوفمبر) 1995 (وفق الأرقام الرسمية حصل زروال في تلك الانتخابات على 61.29٪).
كان بوتفليقة واثقا من أن السلطة الفعلية في حاجة إليه لأسباب منها أن المرشحين الآخرين (أحمد طالب الإبراهيمي وحسين آيت أحمد ومولود حمروش) كانوا خارج سيطرتها.
وقد شوَّش وجود المرشحين الآخرين وحقيقة أن بوتفليقة هو مرشح السلطة، شوَّش ثقة بوتفليقة في فوز حقيقي كاسح، خصوصا وأن الانتخابات كانت على وشك أن تكون نزيهة وشفافة. عندما أُعلنت وزارة الداخلية النتائج قالت إن بوتفليقة حاز على 74٪ من الأصوات من مجموع 20.5 مليون ناخب (انسحب المرشحون الآخرون احتجاجا على انحياز السلطة بأجهزتها لبوتفليقة).
ليس معلوما هل نسبة 74٪ هي التي طلبها بوتفليقة، أم هي ما اتفق عليه الطرفان. لكنها كانت رقما متواضعا قياسا بجموح بوتفليقة واعتداده بنفسه وانتمائه إلى مدرسة الـ99.99٪ التي كانت سائدة إقليميا ودوليا. إلا أن الرقم كان واقعيا في ذلك السياق، وكان مأمولا أن من فوائده حماية الجزائر من العودة مستقبلا إلى الأرقام القريبة من الـ100٪.
لكن بوتفليقة صاحب مقولة «أرفض أن أكون ثلاثة أرباع رئيس» تمرد بسرعة على نفسه وعلى الأرقام المتواضعة، إذ «فاز» في انتخابات 2004 بنسبة 85٪ من الأصوات وبـ90٪ في انتخابات 2009، ثم نزولا إلى 82٪ سنة 2014.
بعد كل هذه السنين والتجارب، عادت الجزائر إلى النسب المئوية القريبة من الـ100٪ في انتخابات السبت الماضي. وعادت أيضا إلى سحق المرشحين اللذين «نافسا» تبون، وهما عبد العالي حساني الشريف مرشح حركة مجتمع السلم، ويوسف أوشيش مرشح جبهة القوى الاشتراكية.
بغض النظر عن هل تفاوض تبون على النسبة المئوية التي يستحقها، أم لم يتفاوض، لم تكن هناك حاجة لكل الضالعين في الانتخابات إلى 95٪ لإثبات أنها حرة مثلا أو أن الذي أخذها يستحقها.
لكن من الواضح أن هناك رسائل في تلك النسبة العالية جدا. رسائل للداخل تطمئن الحلفاء وتحذر الخصوم من أن تبون، مثل بوتفليقة، يرفض أن يكون ثلاثة أرباع رئيس، ومن أن وراءه نتيجة انتخابية قوية تمسح الـ58٪ التي حصل عليها في 2019 وتمنحه شرعية شعبية لم يسبقه إليها أحد.
ورسائل للخارج تطمئن الحلفاء وتحذر الخصوم كذلك، من أن تبون هو صاحب الحل والربط في منطقة مضطربة ومرشحة لمزيد من التأزم والتوتر، وعالم مقبل على المجهول اقتصاديا وسياسيا واستراتيجيا.
معروف عن النظام الجزائري أنه لا يتورع عن سحق الذين يترشحون للانتخابات الرئاسية،
معروف عن النظام الجزائري أنه لا يتورع عن سحق الذين يترشحون للانتخابات الرئاسية، وأنه لا يرحم حتى الذين تحالفوا معه وشاركوا في لعبته. ففي انتخابات 1995 مُنح الراحل محفوظ نحناح 26٪ من الأصوات، ورغم التقارير عن أنه حقق نتيجة أعلى بكثير وربما فاز بالانتخابات، إلا أن ما مُنح له اعتُبر سخاء وتنازلا من النظام. بينما مُنح سعيد سعدي، مرشح حزب التجمع من أجل الثقافة والديمقراطية العلماني، أقل من 9٪ من الأصوات. وفي انتخابات 2004 مُنح علي بن فليس الذي صدَّق في لحظة ما أن الانتخابات حرة وأنه سيهزم بوتفليقة فيها، 6٪ فقط من الأصوات علما أنه على الأرجح حصل على رقم أكبر من ذلك.
لكن لماذا منح حساني وأوشيش تلك الأرقام المسيئة؟ من المعروف أن حركة مجتمع السلم تنتشر في الأوساط الطلابية والنقابية والاجتماعية عبر التراب الوطني. وهذا جعلها تمتلك خزانا بشريا هائلا من الناخبين المنضبطين وجهازا يتمتع بالخبرة والقدرة على التنظيم والتحكم في مناسبات كبرى مثل الانتخابات. وإلى حد ما يشبه حزب جبهة القوى الاشتراكية حركة «حمس» ولكن على نطاق أضيق. فلو صوّت المنتسبون رسميا للحزبين ونسبة من المتعاطفين معهما، كان حساني وأوشيش سيحصلان على أرقام أفضل.
صحيح أن «حمس» فقدت من الزخم الذي راكمته خلال العقود الماضية وصولا إلى فترة تولي عبد الرزاق مقري قيادتها. وصحيح أن جبهة القوى الاشتراكية تحوَّلت إلى ظل لنفسها مقارنة بما كانت عليه في عهد حسين آيت أحمد وبعده أحمد جداعي وكريم طابو.
ورغم هذا من الصعب تصديق أن حساني نال فقط 3.17٪ من أصوات الناخبين وأن أوشيش حصل على 2.16٪. (الـ120 ألف صوت التي مُنحت لأوشيش وطنيا يجمعها حسين آيت أحمد في تجمع واحد بملعب كرة. والـ170 ألفا التي مُنحت لحساني على المستوى الوطني كان نحناح يستطيع جمع مثلها في خطبة جمعة بأحد مساجد العاصمة). ستصبح أرقام حساني وأوشيش صحيحة إلى حد ما لو يتأكد مثلا أنهما وجّها أنصارهما بالامتناع عن التصويت أو التصويت لتبون.
الجواب هو أن النظام يرفض أن يتعلم، وأن هذه الانتخابات درس آخر غير أخير. لا مصداقية لاحتجاج حساني وأوشيش على الأرقام أو ادعاء أنها لا تليق بهما وبالانتخابات وبصورة الجزائر. لقد اختارا المشاركة في لعبة مكررة حفظها الجزائريون عن ظهر قلب، وكان واضحا منذ الوهلة الأولى أنها ستنتهي هذه النهاية.
وليزيد ملحا على الجرح، كما يقال، لم يبث التلفزيون الحكومي أي صورة أو كلمة من مقرات أوشيش وحساني عقب إعلان النتائج. كان ذلك بمثابة إعلان من الحَكَـم عن نهاية اللعبة وعن أن الموعد المقبل بعد خمس سنوات.
القدس العربي