الكتاب: "الأوصاف التجسيدية للخالق في التراث اليهودي والمسيحي والإسلامي: تمثيل ما لا يمكن تمثله"
الكاتب: ذو الفقار علي شاه
ترجمة: جمال الجزيري
الناشر: المعهد العالمي للفكر الإسلامي هرندن- فرجينيا- الولايات المتحدة الأمريكية،
الطبعة الأولى، 2020
عدد الصفحات: 147 صفحة
1 ـ بين يدي الكتاب
لعلم الأديان المقارن دور مهمّ في التقريب بين التصورات المختلفة للديانات السماوية ذات الجوهر الواحد. وضمن هذا الأفق يعرض الباحث ذو الفقار على شاه قضايا تمثّل الذات الإلهية المتعالية المستعصية على التمثيل بمقولات وأشكال وصور مادية في تراث هذه الديانات السماوية وفي تأويل أتباعها لاحقا. ويحاول أن يضع الإصبع على بعض التحريف الذي أصاب النصوص أو الخلل الذي أصاب التصورات مما يجعل المرء ينسى ما خلق عليه من فطرة التوحيد. فينتهي به المطاف إلى تعدد في تصوّر الألوهية فيصنع صورة للإله على شاكلة الإنسان نفسه. وغالبا ما تُردّ هذه الصور إلى أسس بشرية تُدخل الغيبي المتعالي غير القابل للوصف في إطار مادي دنيوي وتنتهك القداسة في أبسط وصايا الله الأخلاقية.
ينتهي الباحث إلى عرض مجمل من سلبيات الصور المتداولة للذات الإلهية. ويردّها إلى تطرفين أولهما التطرف العلماني وما يولد من الإلحاد الذي تقول فلسفاته المختلفة بضرورة موت فكرة الإله في الذهن البشري لتحريره من القيود التي يكبله بها الدين والذي يعدّ تتويجا لمسار طويل من التصورات التشبيهية وبدائية المربكة. وثانيهما والتطرف الديني وما يولّد من انحراف عن المقصد الأساسي من الدين وهو التسامح والسلام. وهذا ما يورث عالما حافلا بعنف وظلم يرتكبان باسم الاله نفسه. ومن هذا يخلص الباحث إلى أنّ نجاة الإنسان تكمن في مدى إدراكه لكونه ظل يعيد إنتاج صورة الإله قياسا على صورة نفسه وفي مدى توفّقه في إعادته إلى العلاقة بين الإلهي المتعالي والبشري المحدود إلى وضعها الصحيح وذلك لا يتحقّق إلا بإدراك هذه الانحرافات والبحث في مسار الوصول إليها.
2 ـ تجسيد الخالق في التوراة
يمثّل التصور التوراتي اليهودي للذات الإلهية وفق الباحث خليطا من اتجاهين يقول الأول بالتجسيم ويرى الأول الذات الإلهية مطلقة متعالية. فكثيرا ما توصف بصفات ومشاعر بشرية وبهيئات جسدية فعامة تنسب المعتقدات الأولى لبني إسرائيل لله شكلا بشريا مرئيا فانيا كأن يظهر لإبراهيم في شكل ملموس فينحني إبراهيم إلى الأرض ويقدم له الماء ويطلب منه أن يدعه يغسل قدميه ويحضر له قطعة من خبز فيلبي الله طلبه فيأكل (سفر التكوين 18: 9-1). وإلى ذلك تنسب إليه أعضاء بشرية. فتجعل النصوص الدينية له راس ووجها (يذكر حوالي 236 مرة) وعينين (يذكران نحو 200 مرة) وأنفا وأذنين وفما إلخ..
ويتصرف هذا الإله تصرفات البشر. فيأكل ويشرب وينتعش. وفي لقاء توراتي مشهور يصارع الله يعقوب فيخلخل يعقوبُ فخذه، ويسرف النصّ في تصويره ضعفه وعجزه عن التغلب على خصمه، لذا يطلب منه أن يدعه ينصرف لأن الفجر قد حلّ. ونتيجة لهذا اللقاء يبدّل الله اسم يعقوب إلى "إسرائيل" وتعني العبارة "هو يصارع الله". ويحدث أن يبكي الإله فينتحب وينوح أو أن يرتكب الأخطاء والشرور ثم يتوب عنها وهذا كله يقتضي إسقاط صورة بشرية على الذّات الإلهية تبدو في محلية وقومية.
والإله عند اليهود التلموديين مثلا إله بشري تماما، لا حصر لقيوده المكبلة، حتّى أنّ الباحث يجده محض انعكاس للتطلعات السياسية والدينية اليهودية التي تجعل مصيره مقترنا بمصيرهم. فقد كان يعاني بمعاناتهم وينعى إخفاقاتهم "وهذا الإله الباكي والناعي لا يمكن أن يكون القدير بعيد كل البعد عن التصور اللاهوتي الذي يرى أنّ الله قدير عليم مستقل مدبّر للكون متعال وتوحيدي".
ولم يظهر على المجتمع اليهودي أي انزعاج من هذه الصورة البشرية المسندة إلى الذّات الإلهية إلا مع تأثير الفلسفة اليونانية خاصة في القرن الأول قبل الميلاد فأضحت محل إشكال لاهوتي يتعلق بكيفية تأويل هذه الوصايا وكيفية النظر إليها. فبعد الاطلاع على الفكر الهيليني أصبح العقل اليهودي أميل إلى تأويل التجسيدات المادية تأويلا مجازيا شأن فليون جودايوس 20 قبل الميلاد أو كما حدث في العصور الوسطى لمّا عارض سعاديا بن يوسف وباهيا باقودا ويهوذا اللاوي التجسيدات التوراتية معارضة شديدة. وتجلت النزعة في شكلها الأوفى مع موسى بن ميمون لمّا نادى بعدم مادية الله وعدّ مثل هذا الاعتقاد ضربا من الهرطقة.
وعلى تعارض النزعتين ظلتا تسيران جنبا إلى جنب. ويخلص الباحث إلى إنّ ورود مثل هذه المصطلحات التجسيدية يدلّ على أنّ الكتاب المقدس التوراتي كتبته أياد بشرية. فيقول: [فالعنصر البشري غالب جدا على أجزاء كثيرة من التوراة لدرجة أنه يبدو واضحا من التأليف لا يمكن أن ينسب إلا إلى بشر يفرضون صورهم وسماتهم ومقولاتهم على الله ويتصورونه على أنه يشبههم ونترك الكلمة الأخيرة لروبن لينفوكس الذي يقول بإيجاز بليغ "في الكتاب المقدس هذا الله لا يكشف عن نفسه لأنه من المفترض أنه خلقهم على صورته"].
3 ـ تجسيد الخالق في التراث المسيحي
يجد الباحث التصور المسيحي تجسيميا تجسيديا بشكل حرفي وجوهري رغم أنّ العهد الجديد يحتوي على عدد قليل من التعبيرات الجسدية منها (إصبع الله وفم الله وقدّام الله وبصره والأرض باعتبارها موطئ قدميه). فعيسى الشخص التاريخي والبشري الذي عاش بين اليهود فاعتبر نفسه مكملا لشريعتهم ثم اصطدم بهرميتهم الدينية، هو في الآن نفسه الذات الإلهية التي تكشف عن نفسها تماما. وهذا الأمر متضمن صراحة في نصوص العهد الجديد التي تستند إلى حياة يسوع المسيح وأعماله باعتبارهما مركز الديانة المسيحية وفي الصياغات التاريخية للعقيدة المسيحية وفق ما يعرضه آباء الكنيسة الأوائل وتعترف بها الأجيال اللاحقة.
وفهمهم للفداء بدوره يجعل من المسيح الرّب نفسه. فـ"ـواقع الحال يقول بأنّ كتاب العهد الجديد مهوسون للغاية بالأحداث المتعلقة بالمسيح، حتى يبدو عليهم أنهم ينظرون إلى كلّ شيء آخر، وحتى إلى الله، من خلال هذه المرآة". ولعل ذلك أن يعود إلى أنّ العهد الجديد، وفق الباحث لا يتمركز حول الذات الإلهية بقدر ما يتمركز حول المسيح (لا تشغل هذه الذّات وفق إحصاء يقدّمه إلا اثنين ونصف في المائة من الأناجيل فيما يخصص الباقي لشخص المسيح) وتتم مخاطبته بابن الإله وكلمته ورسوله والمسيح والسيد والرب.
تشكّل اليهودية والمسيحية والإسلام لحظات متعاقبة للوعي السّامي في مشوارهم الطّويل على مدار التاريخ بوصفهم حاملي الرسالة الإلهية على الأرض. ويقدّم الإسلام نفسه على انّه الرّسالة الأصيلة الاصليّة التي أرسلها الله للبشرية، ومن ثمّة يمثّل الإسلام أداة تصحيحية ويرصد الأخطاء الواردة في تصوّر اليهودية والمسيحية لله وفي الصورة التي يرسمانها له".
في المسيحية فضلا عن ذلك فهم للتعالي الإلهي ووحدانيته وتساميه لا يختلف جوهرا عن الفهم اليهودي. فقد استخدمت الكنيسة الافتراض التوحيدي المتعالي ضد المشركين وضد مناوئي معتقداتهم مثل اتباع الفيض الغنوصي وأصر الكثير من آباء الكنيسة على أن تفهم التعبيرات التجسيدية في التوراة فهما مجازيا فباسيريوس القيصري القرن الرابع للميلاد يفهم عبارة "إدارة الله لوجهه" مثلا بمعنى أنّ الله لا يتخلى عن المرء في الشدائد ويفهمها جوريجوري النزيانزي على أنها مراقبته ويوحنا الدمشقي يفهم ظهره في أعمال لا حصر لها، لا الظهور المادي الصّرف.
بعد تفصيل كثير لدقائق الإرث المسيحي ينتهي الباحث إلى أنّ المسيح يبدو إلها كاملا وإنسانا كاملا على نحو يجعل السؤال التالي بلا حلّ: أي نوع من البشر كان المسيح وبشريته ليست كاملة مثل البشر العاديين وألوهيته تضارع ألوهية الربّ. فيعسر أن نتوصّل بطريقة منطقية إلى الحدّ الفاصل في شخصه بين الله والإنسان. ويشير هنا إلى المذهب الخلقيدوني القائل بوجود كائن متّحد له رأسان أو طبيعتان (بشرية وإلهية) والذي يحاول حل هذا الإشكال، وهو العقيدة الرسمية للمذهب الأورثودوكسي في المسيحية حتى وقتنا الحاضر. ولكنه يقع في إشكال جديد. فــ"ما زال العالمُ في انتظار عالم لاهوت أو فيلسوف يوفّق بين هذه التناقضات ويفسّر بلغة واضحة ومفهومة المذهب الخلقيدوني المتعلّق بشخص المسيح".
4 ـ تجسيد الخالق في التراث الإسلامي
الإله في الدين الإسلامي واحد عظيم. ومفهوم التوحيد الأخلاقي والتعالي والوحدانية عناصر تحضر بشكل واضح لا لبس يصاحبه وصارم لا نقاش فيه. فالاعتقاد في وجود إله دون إنكار وجود آلهة أخرى يعد شركا بهذه الوحدانية. هذا ما يؤكده الإسلام الرسمي فينأى عن التجسيد والتصور البشري للذات الإلهية. ولا ينفي هذا الفهم وجود تعبيرات قليلة في القرآن تفضي إلى فكرة التجسيد الإلهي إذا ما حملت محمل الحرفية كعبارات "يد الله" و"وجهه" و"عينيه" و"استوائه على العرش". ولكنها مثّلت محور جدل بين علماء الكلام لعدّة قرون. فنظروا إليها باعتبار دلالتها المجازية المساعدة للذهن على تمثل الكينونة الخفية المجرّدة "بطريقة تناسب عظمته وتعاليه".
تقسم الرؤية القرآنية الكون إلى مجالين نوعيين هما الله وما سواه. فالله هو الخالق الأزلي الذي ليس كمثله شيء والمنزّه عن كل شريك أو شبيه فلا يمكن أن يتساوى معه طرف أو ينازعه مكانته. أما المجال الثاني فكل شيء ما عداه. وهو مخلوق من مخلوقاته ومكانته دونه. إنه نظام الزمان والمكان والخلق والتجربة. فلا ينزّل الله في الزمان والمكان والتجربة لتماثله المخلوقات ولا تسمو هذه المخلوقات لتتّحد به. والشهادتان اللتان تمثلان الركن الأهم في الدين الإسلامي مدارهما على أن "لا إله إلاّ الله وأنّ محمدا رسول الله". فـ"ـكلمة لا" وفق الباحث، "تبدّد كلّ الإشارات الضمنية إلى التّعدد والاكتفاء بالذّات والألوهية والربوبية... والنبي محمّد صلى الله عليه وسلّم هو تجسيد للرسالة الإلهية وليس انعكاسا لشخص الله".
5 ـ الأوصاف التجسيدية للخالق في التراث اليهودي والمسيحي والإسلامي وبعد
يخلص الباحث إلى أنّ:
ـ تصور الذات الإلهية في التوراة تطوري يتدرج من التجسيد إلى قدر أكبر من الاتساق خاصة عند الأنبياء الذين جاؤوا بعد القرن الثامن قبل الميلاد، وإن لم يفارق بالضرورة البعد التجسيدي. ويبدو أثر الإبداع البشري الذي لعب دورا حيويا في استنباطها جليّا.
ـ لا يمثّل العهد الجديد ما قاله المسيح وإنما ما فهمته الكنيسة وفهمه المسيحيون وأولوه على أنه ما كان عليه المسيح. فجاء لاهوت التّجسّد المسيحي بالغ التجسيد والتجسيم متناقضا كلية وقلبا وقالبا".
ـ على خلاف التوراة والإنجيل ثم جمع القرآن منذ بدايته فحافظ على مصداقية نصه ونقاء معانيه. فكانت صورة الذات الإلهية متعالية بريئة من التجسيم والتشبيه وحدانية لا تقبل الشراكة. وجاء كل ذلك بوضوح وصرامة لا تحتمل النقاش أو التأويل.
يبرز العرض السابق أنّ التوراة والأناجيل تركا الكثير من المشكلات بلا حل والأمر نفسه يصدق على الفهمين اليهودي والمسيحي. ويصادر على أنّ القرآن جاء ليصحّح الفهم المشوّش أو المنحول أو الصوفي للاعتقاد بتجسيد الله ويقدم الحلول للمشكلات العويصة حول طبيعة الله والحرية والإرادة والقضاء والقدر والعلاقة بين الخير والشرّ والعلاقة بين الوحي والعقل. لذلك يخلص إلى النتيجة التالية: "تشكّل اليهودية والمسيحية والإسلام لحظات متعاقبة للوعي السّامي في مشوارهم الطّويل على مدار التاريخ بوصفهم حاملي الرسالة الإلهية على الأرض. ويقدّم الإسلام نفسه على انّه الرّسالة الأصيلة الاصليّة التي أرسلها الله للبشرية، ومن ثمّة يمثّل الإسلام أداة تصحيحية ويرصد الأخطاء الواردة في تصوّر اليهودية والمسيحية لله وفي الصورة التي يرسمانها له".
كيف قدم صحفي أمريكي مقاومة الخطابي للرأي العام الدولي؟
تعرف إلى خصائص التصوف الإسلامي ونشأته وتجلياته
صندوق النقد الدّولي.. مخرج لأزمات الشعوب أم استدامة لها؟