في خطاب متلفز له الأسبوع المنصرم، أعلن الرئيس الروسي فلاديمير بوتين التعبئة الجزئية للمواطنين الروس من قوات الاحتياط وذلك تمهيداً لضمّهم إلى صفوف القوات المسلحة في الحرب الدائرة ضد أوكرانيا. وقد أشار الرئيس الروسي إلى أنّ قراره هذا يأتي دعماً لتوصية وزارة الدفاع الروسية استدعاء الاحتياط الروسي. وقال وزير الدفاع الروسي إنّ بلاده ستستدعي حوالي 300 ألف من الاحتياط ممّن لديهم الخبرة العسكرية اللازمة.
وفي الخطاب نفسه، قال بوتين إنّ بلاده ستدعم ما أسماه "قرارات شعوب مناطق دونباس وخيرسون وزابوريجيا" في أوكرانيا للتحرر من سيطرة حكم كييف، وهو ما يمهّد لضم رسمي محتمل لحوالي 15% من الأراضي الأوكرانية إلى روسيا على غرار ما فعل بوتين سابقاً بشبه جزيرة القرم. وهدد بوتين بإمكانية "استخدام كل الوسائل المتاحة" في المعركة، في إشارة إلى السلاح النووي، لافتاً إلى أنّ تهديده هذا "ليس خدعة" أو مناورة. ومثله، قال الرئيس الروسي السابق ونائب رئيس مجلس الأمن الروسي مدفيديف إنّه بإمكان روسيا استخدام أي أسلحة استراتيجية بما في ذلك الأسلحة النووية للدفاع عن المناطق التي ستصبح جزءًا من روسيا.
الجانب الروسي قدّم مداخلته هذه على أنّها تأتي في سياق قوّة وانتصار وليس في سياق ضعف وانهزام. والحقيقة أنّ هذه الإجراءات هي دليل إضافي على فشل موسكو في الحرب الدائرة ضد أوكرانيا، وهي مؤشر على أنّ الأمور تجري مؤخراً خلافاً لما يشتهيه الروس من الناحية العسكرية. إعلان التعبئة الجزئية والتهديد بالأسلحة النووية يكاد يكون ثاني أكبر خطأ ترتكبه روسيا في أوكرانيا بعد خطئها الأول وهو الغزو المبني على تصور مفاده أنّ الحرب مع أوكرانيا ستكون بمثابة نزهة خاطفة سرعان ما يتم الانتهاء منها في غضون أسبوع أو عشرة أيام.
كلما زاد وضع الروس حراجة داخل أوكرانيا وكلما فشلوا في تحقيق انتصار استراتيجي كلما زاد احتمال استخدام موسكو لأسلحة نووية. ولذلك، فإنّ احتمال هزيمة عسكرية روسية في أوكرانيا تتناسب طرداً مع احتمال استخدام روسيا للسلاح النووي.
الجانب الروسي كان يقدّم الحرب على أوكرانيا للجمهور المحلي والدولي على أنّها عملية عسكرية جراحيّة خاصة ومحدودة، وأنّه لم يكن يخطط للسيطرة على كييف ـ بعد أن فشل في السيطرة عليها فعلياً ـ، وأنّ هدفه محاربة "النازيين الجدد" على حدّ زعمه. الإعلان الأخير هو بمثابة إقرار غير مباشر بالفشل، والتهديد باستخدام الأسلحة النووية هو تعبير عن حالة يأس من إمكانية تحقيق الانتصار على الجانب الأوكراني بالطرق التقليدية.
الجمهور الروسي يعي ذلك جيّداً، فما أن مرّت بضع ساعات على قرار بوتين إعلان التعبئة الجزئية؛ حتى حلّقت أسعار التذاكر من موسكو باتجاه الدول المجاورة إلى أسعار خيالية، وأكدت عدّة شركات طيران نفاد كل تذاكر الطيران لاسيما باتجاه تركيا وأرمينيا. كما احتلّت عبارة "كيف تكسر يدك" موقعاً متقدّماً في مواقع البحث الروسية كمؤشر على بحث شريحة واسعة من قوات الاحتياط عن حجّة للتنصّل من ضمّهم قسراً إلى القوات الروسية المنهزمة لاسيما بعد الهجوم المعاكس الذي شنّته القوات الأوكرانية في خاركييف.
وبالرغم من أنّ خطاب بوتين احتوى على مزاعم وادّعاءات غير صحيحة في غالبه، إلا أنّه صدق في الغالب عندما قال إنّ التهديد باستخدام السلاح النووي ليس مراوغة أو خدعة. إذ كلما زاد وضع الروس حراجة داخل أوكرانيا وكلما فشلوا في تحقيق انتصار استراتيجي زاد احتمال استخدام موسكو أسلحة نووية. ولذلك، فإنّ احتمال هزيمة عسكرية روسية في أوكرانيا يتناسب طرداً مع احتمال استخدام روسيا للسلاح النووي. لكن السؤال في هذه الحالة سيكون عن المكاسب والخسائر التي سيجنيها الروس من وراء اللجوء إلى مثل هذا الخيار الراديكالي إن تمّ فعلاً.
في المقابل، قد يُنظر إلى الإعلان الروسي التعبئة الجزئية على أنّه تمهيد للتغطية على التراجع العسكري وربما إنهاء المغامرة العسكرية الروسية عند هذا الحد من خلال دعم استقلال المناطق الانفصالية المتمردة شرق أوكرانيا أو حتى ضمّها إلى روسيا. فعملية التعبئة الجزئية، أو ضم حوالي 300 ألف مقاتل جديد إلى ساحة المعركة، عملية لوجستية ضخمة، وقد تتطلب أشهرا طويلة قبل أن يتم الشعور بتأثيرها العملي والواقعي على أرض المعركة.
فضلاً عن ذلك، فإنّ موسكو تعاني وفقاً لتقارير عددية من نقص هائل في الذخائر والعتاد اللازم لمواصلة عمليات عسكرية واسعة النطاق، ولذلك تم تسجيل استعمال روسيا لذخائر من الصين وكوريا الشمالية وإيران في العدوان على أوكرانيا. هذا يعني أنّ الموضوع لا يتعلق بتجنيد المزيد من المقاتلين فحسب، وإنما في الدعم العسكري واللوجستي اللازم لهم في حال تأمين انخراطهم في المعركة.
في جميع الأحوال، كان من المفترض لروسيا أنّ تأخذ العرض التركي وتستخدم السُلّم الذي عرضه الرئيس التركي رجب طيب أردوغان على بوتين للنزول من الشجرة التي صعد إليها الأخير ولا يعرف على ما يبدو كيف ينزل منها. الاتجاه الحالي للمعركة لا يتضمن استنزافاً خطيراً للطرفين المنخرطين فيها، ولا يُستبعد مشاهد أكثر دماراً وخيارات أكثر تطرّفاً من الناحية العسكرية.
هل ستفرض أمريكا عقوبات على تركيا؟
قراءة في خرائط النفوذ والتحالفات في المنطقة العربية (1)