صدر عن الدار العربية للعلوم ناشرون ـ بيروت، النسخة العربية من كتاب "السرقة من المسلمين (السّاراسِن) ـ كيف شكّلت العمارة الإسلامية أوروبا" [ط1، 2022]، لخبيرة العمارة والفن البريطانية ديانا دارك (Diana Darke)، تعريب د. عامر شيخوني.
الكتاب في الأصل صدر باللغة الإنجليزية تحت عنوان (STEALING FROM THE SARACENS How Islamic ArchitecturE Shaped Europe). وقد أثار عنوانه سلسلة طويلة من ردود الفعل ما بين مؤيد ومعارض، فالعنوان يوحى بكثير من السخرية. "السرقة من السَّاراسِن (Stealing from the Saracen)"؟! كلمة "الساراسن" (Saracen) كانت تُستخدم في أوروبا العصور الوسطى كاصطلاح تَحقيري لوصف المسلمين العرب الذين حاربهم الصليبيون مئتي سنة في شرق المتوسط بدءاً من 1055 في "حربهم المقدسة".
أكثر التفسيرات انتشاراً هو أنَّ أصلَ كلمة "ساراسِن" مِن المفرَدَة العربية "سَرَقَ أو سُرّاق". أي أنَّ "السَّاراسِن" كانوا سُرَّاقاً ولُصوصَاً من وجهة النَّظَر الأوروبية، بغَضّ النَّظَر عن حقيقة أنّ الصليبيين قد نَهَبوا طريقَهم عبر أوروبا والقدس والقسطنطينية. ولهذا فإنَّ قَصْدَ العنوانِ هو التعبيرُ عن تناقُضٍ مُضاعَفٍ بأننا في الغرب "نَسرقُ" ممَّن اعتبرناهم لُصوصَاً وسُرَّاقَاً.
هذا الكتاب الذي يقع في 550 صفحة من الحجم المتوسط، يتألف من مقدمة، وعشرة فصول، وخاتمة، بُعث بعد حريقِ كاتدرائية نوتردام في باريس في 15 أبريل / نيسان 2020 ، بحسب المؤلفة، لمعرفة وفهم خلفية التاريخ المعماري لهذه الكاتدرائية، وهو تعبير عن اهتمام المؤلفة بعمارة الشرق الأوسط، وكيف دخلت إبداعاتهم إلى أوروبا تدريجياً وغيرت العمارة الأوروبية إلى الأبد بطرق تم تجاوزها عن قصد، أو أنها نُسيت بكل بساطة.
فالكتاب يبدأ بجملة مُوحية: "هذا الكتاب إهداء إلى كاتدرائية نوتردام"، ثم تنطلق إلى شرح مُفصَّل مستفيض عن تأثير العمارة الإسلامية على العمارة القوطية في أوروبا، عبر الاحتكاك والتبادل الثقافي والحضاري الذي حدث أثناء الحروب الصليبية في شرق المتوسط، وقبل ذلك في حروب الاستعادة في إسبانيا وصقلية، بالإضافة إلى التبادل الحضاري من خلال التجارة في حوض المتوسط.
تقول ديانا دارك في مقدمة الكتاب: إن "تصميم نوتردام المعماري، مثل جميع كاتدرائيات أوروبا، قد استُلهم من كنيسة القرن الخامس قَلب لوزة السورية عندما جلب الصليبيون أسلوب (البرجين المتماثلين على طرفي النافذة الوردية) إلى أوروبا في القرن الثاني عشر. وما زالت تلك الكنيسة قائمة في محافظة إدلب".
كانت إسبانيا المسلمة وسيطا لنقل الأفكار والأنماط المعمارية إلى شمال أوروبا من القرن الثامن إلى القرن العاشر، وكانت هناك بالطبع قنوات أخرى مهمة انتقلت عبرها أنماط العمارة الإسلامية.
يعترف المهندس المعماري البريطاني السير كريستوفر رن (Sir Christopher Wren)، بفضل تأثير العمارة الإسلامية، منذ أكثر من ثلاثة قرون، عندما كتب بعد دراسة وبحث طويل: "من الأصح أن يُسمّى أسلوب العمارة القوطي بأنه أسلوب الساراسِن الإسلامي".
وتنوه دارك إلى اعتراف رن في مذكراته اثنتي عشرة مرة بدَينِ الأوروبيين لما سمَّاه هندَسة "الساراسن" المعمارية. ويفسّر أن دراسته للكاتدرائيات القوطية الأوروبية قادتْه إلى الاعتقاد بأن العمارة القوطية كانت نمطاً اخترعه العرب، واستورده الصليبيون العائدون، ومن خلال اسبانيا المسلمة قبل ذلك.
فـ"إذا كانت نظرية رن صحيحة بأن أصول العمارة القوطية إسلامية، فذلك يعني أن المسلمين قد قدموا الإلهام لما تعتبره المسيحية الأوروبية أسلوبها المعماري الفريد، وتلك حقيقة غير مُريحة إطلاقاً".
وثقت الباحثة هذه النظرية في الفصول التالية، حيث تحدثت عن "ميراث ما قبل الإسلام". وذهبت إلى أن الشرق هو مهد العمارة بالقول: "ليس من المدهش أن جميع عجائب الدنيا السبع القديمة هي إنشاءات معمارية رائعة في مناطق شرق المتوسط وما وراءها نحو الشرق". ورصدت "العمارة الوثنية والمسيحية الأولى في سورية"، وانتقلت للحديث عن العمارة الإسلامية، وخاصة الأمويون في سورية (661- 750 م)، وتطرقت إلى "الابتكارات في الأسلوب التي ظهرت خلال القرن الأول في الإسلام، والتي كان لها تأثير مباشر على التطورات المعمارية بعد ذلك في أوروبا". وبحسب دارك، "كانت قبة الصخرة أعظم تلك الأبنية تأثيراً في أوروبا بما لا يقاس، وتم تقليده بشكل واسع في كنائس العصور الوسطى". وسردت الباحثة النمط المعماري الإسلامي في ظل الخلافتان العباسية والفاطمية (750- 1258)، والذي "كان إرثه المعماري التالي هائلاً في أوروبا".
فقد كانت إسبانيا المسلمة وسيطا لنقل الأفكار والأنماط المعمارية إلى شمال أوروبا من القرن الثامن إلى القرن العاشر، وكانت هناك بالطبع قنوات أخرى مهمة انتقلت عبرها أنماط العمارة الإسلامية. هذه القنوات أطلقت عليها الباحثة اسم "بوابات إلى أوروبا"، فقد كانت "الأندلس أهم هذه البوابات، بينما كانت الدويلات الصليبية ربما أقلها أهمية، لأن عندما احتل الصليبيون القدس سنة 1099، كانت كثير من تأثيرات العمارة الإسلامية قد وصلت أوروبا عبر بوابات أخرى. جاءت مُساهمة الصليبيين بشكل بعض الاختراعات العسكرية، بالإضافة إلى جلب بعض المعماريين والبنائين المهرة من العرب المسلمين". وتطرقت لدور المعماري المسلم سنان، الذي لقبته بـ"مايكل أنجلو التركي".
يعترف المهندس المعماري البريطاني السير كريستوفر رن (Sir Christopher Wren)، بفضل تأثير العمارة الإسلامية، منذ أكثر من ثلاثة قرون، عندما كتب بعد دراسة وبحث طويل: "من الأصح أن يُسمّى أسلوب العمارة القوطي بأنه أسلوب الساراسِن الإسلامي".
تعرج الباحثة على السمات المعمارية الإسلامية الرئيسية والمهمة من أصل إسلامي/ شرق أوسطي التي انتقلت إلى الغرب بوسائل مختلفة، وتركت تأثيرها في العمارة الغربية؛ بدءاً من البرجين التوأمين على جانبي المدخل المقنطر الضخم، مروراً بالحنية، والنوافذ العلوية (المنور)، والمنصة، والدير والقوس الثلاثي الفصوص، والقوس المدبّب، والثُّلَم (البروازات أو الشرافات)، وقوس حدوة الحصان، وشبكات النوافذ الرخامية/ الحجرية، والمئذنة / البرج/ البرج المدبّب، والسقوف ذات الأضلاع (القبوات أو العقود المُعصبة)، والسقوف المتصالبة (القبوات أو العُقود المتصالبة)، والزخارف المستديرة، وصولاً إلى الأروقة المزدوجة ذات الأعمدة (الأروقة المُعمدة المزدوجة)، والقوس المسدود، والزخرفة داخل القوس، والنافذة الوردية، والقوس المتعدد الفصوص، الأقواس المتقاطعة/ المتشابكة، القوس الأوجي، الزخرفة التشجيرية (الزخارف النباتية)، الزجاج الملون (الزجاج المُعشق)، شعارات النبلاء، القبة المُضاعفة (المزدوجة)، صندوق الرَّمى، وطواحين الهواء.
وأخيراً، إن هدف الباحثة ليس تشويه سمعة العمارة الأوروبية وإنجازاتها البراقة الكثيرة، كما تقول. ولكن غايتها تبيان أن أحداً لا يستطيع ادعاء "ملكية" العمارة، مثلما لا يستطيع أحد ادعاء "ملكية" العلم.
*كاتِب وباحِث فلسطيني
الزواج السياسي في أوروبا العصور الوسطى.. خلفياته وأهدافه
المفكرون الشموليون لا يعول عليهم للخروج من الغيبوبة الثقافية
الخط المغربي.. مستودع الجمال الأمازيغي الفظّ