قضايا وآراء

نحو إعادة بناء الجماعة الوطنية المصرية

1300x600
في المراحل المفصلية التي استطاعت فيها الجماعة الوطنية المصرية لملمة شتاتها وتأسيس رؤية جامعة، كانت هي المراحل الفاصلة في مسيرتها والتي تمكنت خلالها من تحقيق إنجاز وطني لا نزال نعتز به حتى الآن في مسيرة العمل الوطني.

فعندما اتحدت في ثورة 1919 اجتازت فخ التقسيم الديني الذي أراده المحتل الإنجليزي، وتمكنت من إنجاز دستور 23 والظفر بالاستقلال حتى ولو كان منقوصا.. كما أن اجتماعها تحت مظلة حركة "كفاية" والجمعية الوطنية للتغيير أواخر حكم مبارك، مكنها من التصدي لمخطط التوريث وطرحه للنقاش العلني بجرأة تحسب لها، والتمهيد لثورة يناير 2011.

لكن وككل الثورات والهبات المصرية فإن عنفوان البداية لا يستمر طويلا، فما يلبث أن يخبو تحت وطأة الانقسامات والاستقطابات والمصالح الذاتية الحزبية والجماعاتية، وهو ما يؤدي بطبيعة الحال إلى خسائر فادحة تحتاج إلى سنوات وربما أجيال -تطول وتقصر حسب نبوغ النخبة واخلاصها- وذلك لمعالجتها والنهوض مجددا.

وعقب الخسارة الفادحة التي منيت بها الجماعة الوطنية المصرية، بل مصر بأكملها، من خلال تدمير مكتسبات ثورة يناير 2011 وفي ظل التداعيات السياسية والاقتصادية والاجتماعية والحقوقية الكارثية التي منيت بها البلاد بأكملها، فإن واجب الوقت يقتضي على جميع القوى أن تتداعى إلى لملمة شتاتها والعمل على تأسيس جديد للجماعة الوطنية المصرية وفق رؤية جامعة، قبل الانهيار الذي تدل جميع المؤشرات أن بلادنا باتت تقف على مرمى حجر منه، خاصة وأن السلطة القائمة لديها قناعة راسخة أن الديكتاتورية وحدها وبجميع أدواتها هي الملاذ الآمن.
أملي أن تمثل كلماتي هذه فاتحة نقاش أوسع لبلورة رؤية أشمل لعمل الجماعة الوطنية المصرية خلال المرحلة المقبلة، وأول ما يجب أن نفطن إليه، هو ضرورة تجاوز مرحلة الاستقطابات العنيفة التي صبغت الأجواء السياسية خلال العشر سنوات الماضية، واستطاعت الثورة المضادة النفاذ من خلالها لتعصف بالجميع

حتى الحوار الذي أعلنت عنه مؤخرا لا يحمل حتى الآن أيا من عوامل الجدية أو ضمانات النجاح، بعد أن ظنه البعض شعاع نور في نفق مظلم طويل، حيث تتم هندسته ليكون حوارا بين الصوت وصداه.

من هنا فأملي أن تمثل كلماتي هذه فاتحة نقاش أوسع لبلورة رؤية أشمل لعمل الجماعة الوطنية المصرية خلال المرحلة المقبلة، وأول ما يجب أن نفطن إليه، هو ضرورة تجاوز مرحلة الاستقطابات العنيفة التي صبغت الأجواء السياسية خلال العشر سنوات الماضية، واستطاعت الثورة المضادة النفاذ من خلالها لتعصف بالجميع.

ففي مراحل البناء يجب أن تؤجل كل أشكال الصراع السياسي ولو كان مشروعا، ويحل محلها اصطفاف وطني واضح لا لبس فيه. ولا يعني ذلك إلغاء الفواصل الفكرية، بل السعي إلى بناء مظلة أوسع تقف تحتها تلك الأفكار والرؤى، ولا أظن أن هناك اختلافا بين جميع أعضاء الجماعة الوطنية على أن قضايا: "الحريات" و"العدالة الاجتماعية" وتحقيق "الكرامة الإنسانية" و"الاستقلال الوطني"، هي ما يجب أن تكون الأساس الذي يجتمع حوله الجميع وله يعملون.

إن هذه المبادئ والأهداف تمثل من وجهة نظري الفريضة الغائبة التي يجب أن نسعى اليوم إلى تحقيقها في عالم المصريين واقعا ملموسا، لا مجرد شعارات وكلمات خالية من الروح.

فنحن اليوم إزاء أزمة إنسانية بالغة السوء تتمثل في اعتقال قرابة خمسين ألف مواطن مصري، يتعرضون لانتهاكات صارخة، أدت إلى وفاة المئات وقد نشهد تضاعف الأعداد كلما طال لبثهم في السجون والمعتقلات.
يجب أن تؤجل كل أشكال الصراع السياسي ولو كان مشروعا، ويحل محلها اصطفاف وطني واضح لا لبس فيه. ولا يعني ذلك إلغاء الفواصل الفكرية، بل السعي إلى بناء مظلة أوسع تقف تحتها تلك الأفكار والرؤى

كما تم التغول على القضاء، فبات مجرد أداة بطش عنيفة ضد المعارضين فرأينا عشرات أحكام الإعدام -وإن شئت قل "الاغتيال"- يتم إصدارها في دقائق معدودة، لتتحول إلى سيف مسلط في يد السلطة تُجز به الرقاب وقت أن تشاء، ما أدى إلى اهتزاز صورة القضاء المصري في العالم بعد أن أيقن الجميع أنه فقد استقلاله وبات جزءا من صراع سياسي مقيت.

كما أن الجماعة الوطنية يجب أن تأخذ على عاتقها قضية الاستقلال الوطني، فقد أكدت أحداث سنوات الثورة المضادة أن مصر لا تزال ترزح تحت نير استعمار شديد الوطأة، لا يرتدي ذات الثوب القديم من حيث وجود عساكر المحتل وآلياته، بل اكتفى بالسيطرة على مراكز صنع القرار في بلادنا، فرأينا ولأول مرة تنازلا عن أراض مصرية كما حدث في تيران وصنافير في البحر الأحمر، والتفريط في حقوق مصر في غاز البحر المتوسط، وإهدار حقوق مصر التاريخية في نهر النيل وفتح الباب للديون بشكل غير مسبوق ورهن ثروات البلاد وممتلكاتها السيادية وبيع ما لا يباع.

وهذه الكوارث لن تقف تداعياتها عند حدود حكم النظام الحالي، بل ستمتد آثارها الكارثية إلى الأجيال المقبلة، وستكبل أي طموح لها بالنمو والتنمية، إضافة إلى الاختيارات السياسية التي لا تصب في مصلحة الأمتين العربية والإسلامية اللتين تمثلان أهم دائرتين تنتمي إليهما مصر، فتحولت مصر بكل ثقلها الجيوستراتيجي والتاريخي إلى داعم للسياسات الصهيونية في المنطقة، وآخرها الاتفاق مع إسرائيل على أن تصبح مصر معبرا للغاز الفلسطيني المسروق إلى أوروبا.. وليس أبعد من ذلك التخبط الواضح في السياسات المصرية في ليبيا والسودان وغزة التي هي بمثابة الأعماق الاستراتيجية لمصر.
هذه الكوارث لن تقف تداعياتها عند حدود حكم النظام الحالي، بل ستمتد آثارها الكارثية إلى الأجيال المقبلة، وستكبل أي طموح لها بالنمو والتنمية، إضافة إلى الاختيارات السياسية التي لا تصب في مصلحة الأمتين العربية والإسلامية اللتين تمثلان أهم دائرتين تنتمي إليهما مصر، فتحولت مصر بكل ثقلها الجيوستراتيجي والتاريخي إلى داعم للسياسات الصهيونية في المنطقة

كما أن الجماعة الوطنية المصرية مطالبة اليوم بوضع رؤية للخروج من الأزمة الاقتصادية التي تشهدها مصر والمرشحة للتفاقم، والتي جاءت نتيجة طبيعية لحكم الفرد المتجبر الذي يحتقر العلم والمتخصصين، فقد اعترف أمام الملأ أنه لا يعتمد على دراسات الجدوى، ورآه الجميع كيف يأمر بمشاريع عملاقة بالإسناد المباشر دون أي اعتبار للقانون أو ما تقتضيه الإجراءات.

لقد أغرق النظام المتسلط البلاد في دوامة الديون الخارجية التي تجاوزت الـ145 مليار دولار، تزامنا مع تراجع الاحتياطي النقدي في آذار/ مارس الماضي إلى 37 مليار دولار. ولو ذهبنا نتتبع مؤشرات الاقتصاد المصري لصدمنا من حجم الكارثة التي تقف على أعتابها مصر، والتي تتجاوز المتاعب الاقتصادية التي تتعرض لها دول العالم الآن نتيجة أزمتي كورونا والحرب الأوكرانية.

وتابعنا خلال الأيام الماضية كيف مارس إعلاميوه ابتزازا غير مسبوق للدول العربية والتهديد بتحويل المصريين إلى لاجئين عبر البحرين المتوسط والأحمر، بل وإلى دول الجوار (فلسطين والسودان وليبيا)!! في تهديد أيضا غير مسبوق بشعب عرف تاريخيا باستقراره وبقائه حول النيل، حتى مع هجرة البعض منهم للعمل فإن كثيرين يفضلون العودة إليه مرة أخرى. فهل نحن إزاء مخطط لدفع المصريين إلى الهجرة شبه القسرية من وطنهم والتشرد في الكون الفسيح؟!
الجماعة الوطنية المصرية مطالبة اليوم بإعادة اللُحمة إلى المجتمع المصري الذي تمزق ترابطه بفعل خطاب الكراهية وتعميق الانقسام والتشرذم، وتوظيف الآلة الإعلامية لتخوين وتكفير أي صوت معارض

كما أن الجماعة الوطنية المصرية مطالبة اليوم بإعادة اللُحمة إلى المجتمع المصري الذي تمزق ترابطه بفعل خطاب الكراهية وتعميق الانقسام والتشرذم، وتوظيف الآلة الإعلامية لتخوين وتكفير أي صوت معارض، ما أدى إلى مقتل واعتقال وتشريد آلاف المصريين بقسوة غير مسبوقة؛ لم تفرق بين إسلامي ويساري وليبرالي، بل ووصلت إلى المواطن غير المسيس في الوراق والنوبة والصعيد والدلتا وسيناء.. ولن تستطيع الجماعة الوطنية فعل ذلك إلا بتعافيها هي أولا من الانقسام غير المبرر، والتشرذم الذي لا معنى له، حتى مع الاختلاف الفكري المشروع.

وفي الختام: أذكر بأن الخطأ الذي وقعنا فيه جميعا عقب الإطاحة بمبارك هو الاصطفاف تحت الرايات الأيديولوجية لا تحت راية الوطن، والظن أن الفرصة باتت مواتية لالتهام البلد بأكمله لصالح هذا المشروع أو ذاك حتى دهمتنا الكارثة التي تتعاظم يوما بعد الآخر.. ومن هنا فإني آمل أن تكون هذه الكلمات دافعة لبعث الروح التي تعمل على إعادة بناء الجماعة الوطنية، متمنيا أن تكون مدخلا لحوار أوسع وأشمل بين الرموز والمكونات الوطنية التي دأب الجميع على احترامها وتقديرها برغم اختلاف وتعاقب الظروف السياسية.