افتخرت منظمة "شراكة" الإسرائيلية ـ الإماراتية مؤخرا بتنظيم وفد عربي لزيارة معسكر الاعتقال النازي "أوشفيتز" لإحياء ذكرى المحرقة. وقد ضم الوفد "مؤثرين" إعلاميين من كل من سوريا ولبنان والسعودية والأردن ومصر والمغرب والقدس الشرقية المحتلة والإمارات والبحرين.
تهدف منظمة "شراكة"، التي تأسست في كانون الأول/ ديسمبر 2020 بعد "اتفاقات إبراهام"، إلى "بناء روابط بين الإسرائيليين الشباب وقادة الخليج". كما شارك في المراسم أيضًا حوالي 100 فلسطيني من مواطني إسرائيل. ولم يذكر أعضاء الوفد العرب الذين تحدثوا إلى وسائل الإعلام ولو مرة واحدة عن الاضطهاد الإسرائيلي الاستعماري المستمر الذي يتعرض له الفلسطينيون، لكنهم تحدثوا عن كيف أنهم يهدفون في إحياء ذكرى المحرقة إلى تعزيز العلاقات بين العرب وإسرائيل ورؤية "العرب يجتمعون مع الإسرائيليين طواعية."
منذ الحرب العالمية الثانية وإنشاء المستعمرة ـ الاستيطانية الإسرائيلية عام 1948، أصبح التاريخ العربي الفلسطيني والتاريخ اليهودي مرتبطين ارتباطًا وثيقًا. فقد أصبحت الأحداث في التاريخ اليهودي، التي استولت عليها دولة إسرائيل على أنها جزء من تاريخها هي، مرتبطة بالضرورة بالتاريخ الفلسطيني، بما في ذلك المحرقة، التي يستخدمها الصهاينة لأغراض دعائية لتأكيد "حقهم" في فلسطين التي كانوا قد طرحوا مزاعمهم المشبوهة لاستعمارها قبل نصف قرن من وقوع الإبادة الجماعية.
وتؤكد إسرائيل عبر استملاكها المحرقة كجزء من تاريخها هي، بأن أي اعتراف بالمحرقة هو بمثابة اعتراف بـ "حق إسرائيل في الوجود كدولة يهودية"، وبالمقابل بإن أي محاولة لإنكار "حق إسرائيل في الوجود كدولة يهودية" هي بمثابة إنكار للمحرقة. وقد تم تكريس هذه الصيغة في الإعلان الرسمي لإنشاء دولة إسرائيل عام 1948: "لقد أثبتت المحرقة النازية، التي أودت بحياة ملايين اليهود في أوروبا، من جديد الحاجة الملحة لإعادة إنشاء الدولة اليهودية، الأمر الذي من شأنه أن يحل مشكلة تشرد اليهود عبر فتح الباب أمام جميع اليهود ورفع الشعب اليهودي إلى قدم المساواة في أسرة الأمم."
بدأت إسرائيل في استخدام المحرقة بشكل أكثر إصرارًا في الستينيات والسبعينيات من القرن الماضي للدفاع عن العنف الاستعماري الإسرائيلي ضد الشعب الفلسطيني وتبريره. وقد تمت دعوة الفلسطينيين وغيرهم من العرب أيضًا إلى القبول بالربط الصهيوني فيما بين المحرقة و"حق إسرائيل في الوجود كدولة يهودية" كصفقة شاملة. وقد أكد رئيس الوزراء الإسرائيلي دافيد بن غوريون بشكل لا لبس فيه أن "الدولة اليهودية هي وريث الستة ملايين.. الوريث الوحيد."
إن المحاولة الإسرائيلية المستمرة لإشراك الفلسطينيين وغيرهم من العرب في تاريخ المحرقة هي محاولة لصرف الانخراط الفلسطيني والعربي عن الحاضر الصهيوني اليهودي والإسرائيلي ومحاولة لتبرير جرائم إسرائيل المستمرة ضد الشعب الفلسطيني.
لقد تباينت ردود فعل الفلسطينيين والعرب على هذا الربط الإسرائيلي. فقد رأى البعض من الذين وقعوا في الفخ الأيديولوجي الصهيوني أنه إذا كان قبول المحرقة يعني قبول حق إسرائيل في أن تكون دولة عنصرية استعمارية ـ استيطانية، فعليهم إنكار المحرقة أو على الأقل التشكيك فيها. لكن في المقابل، لقد سعت منظمة التحرير الفلسطينية، جنبًا إلى جنب مع العديد من المثقفين العرب، قولًا وفعلًا، لفك الربط بين الحدثين والنظر إلى المحرقة خارج هذا الربط الإسرائيلي. وقد كانت هذه المحاولات لفك الربط ولا تزال مدانة من قبل إسرائيل، كما تدين الأخيرة الإصرار الفلسطيني على أن الناجين من المحرقة كانوا قد غادروا أوروبا كلاجئين لكنهم وصلوا إلى فلسطين كمستوطنين-استعماريين مسلحين.
لقد شكل الناجون من المحرقة في الجيش الصهيوني، وتعدادهم كان حوالي 22000 جندي، ثلث الجيش الصهيوني، الهاغاناه، ونصف قواته المقاتلة خلال حرب عام 1948. هذا أمر بالغ الأهمية، حيث شارك الناجون من المحرقة في طرد الفلسطينيين وفي ارتكاب العديد من المجازر المروعة بحقهم، كما شاركوا في نهب وسلب الممتلكات الفلسطينية.
وكانت الصحيفة الإسرائيلية "هعولام هزيه" قد علقت على صورة لجنود إسرائيليين يطردون الفلسطينيين قائلة: "لاحظوا الرقم الموشوم على ذراع الجندي الذي يحرس الفلسطينيين. فالكثير من المهاجرين الذين مروا بجحيم معسكرات الاعتقال الأوروبية يفتقرون إلى الموقف اللائق تجاه الأسرى العرب للدولة ". أما الناجون من غيتو وارسو، على سبيل المثال، فقد قاموا ببناء كيبوتس" لوحامي هغيتاءوت"، حيث أقاموا متحف مقاتلي الغيتو، فوق حطام قرية السميرية الفلسطينية المدمرة، والتي طُرد سكانها خلال حرب عام 1948.
يرى العديد من الفلسطينيين أن المحرقة كانت جريمة أوروبية مسيحية أُجبر الشعب الفلسطيني على التكفير عنها. ومن جهتها، فقد ميزت منظمة التحرير الفلسطينية دائمًا فيما بين الصهاينة واليهود. وهي تختلف في هذا اختلافًا جذريًا عن إسرائيل وأنصارها، الذين يعتبرون الصهيونية وإسرائيل "يهوديتان" ويدعمون مطالبة الصهيونية الاستعمارية بفلسطين على أساس الدين اليهودي. ولطالما رفضت منظمة التحرير الفلسطينية هذا الاقتران، ورفضت وصف إسرائيل بـ "الدولة اليهودية" بل وصفتها بـ "الكيان الصهيوني". وتعتبر إسرائيل هذه التسمية دليلًا على معاداة السامية الفلسطينية.
إذن، فلا ينبغي فقط اضطهاد الفلسطينيين من قبل أعداء يسمون أنفسهم "يهودًا" ويبنون سياساتهم الاضطهادية على أساس "يهوديتهم"، ولكن تتم إدانة الفلسطينيين إذا أشاروا إلى أعدائهم بالاسم الذي اختاره هؤلاء الأعداء، بل يطالَب الفلسطينيون بممارسة اليقظة من خلال التمييز ما بين الصهاينة واليهود وهو الأمر الذي يرفض أعداؤهم اليهود الإسرائيليون أنفسهم القيام به. لقد قبلت منظمة التحرير الفلسطينية عبء اليقظة هذا.
وقد حرصت دائمًا على إظهار تعاطفها مع ضحايا المحرقة اليهود وإدانة النازيين. وفي خطابه الذي ألقاه في الجمعية العامة للأمم المتحدة عام 1974، أدان ياسر عرفات "بشدة مذابح اليهود تحت الحكم النازي". وأكد أن النضال الفلسطيني ليس ضد اليهود بل ضد "الصهيونية العنصرية". وفي السنوات الأخيرة، تبنت حماس هذا الموقف بشكل شبه حرفي. وعلاوة على ذلك، وبعد استعراضه للفظائع البريطانية والصهيونية ضد الشعب الفلسطيني في خطابه، أكد عرفات "أننا نشجب كل تلك الجرائم التي ارتكبت ضد اليهود ... [و] التمييز الحقيقي الذي يتعرضون له بسبب عقيدتهم."
وكانت منظمة التحرير الفلسطينية قد أعلنت في 1983 في الذكرى الأربعين لانتفاضة غيتو وارسو عام 1943 عن خطط لوضع إكليل من الزهور على نصب غيتو وارسو التذكاري لتكريم "اليهود الأبطال". لكن بخلاف وفد منظمة "شراكة" الذي يسعى لإظهار التضامن مع إسرائيل وليس مع ضحايا المحرقة من اليهود، فقد قال فؤاد ياسين، ممثل منظمة التحرير الفلسطينية في بولندا أنذاك، إن اليهود الذين ماتوا وهم يقاتلون لصد المحتلين الألمان هم "رفاقنا وإخواننا ... اليهود الأبطال ". وقد أثارت خطة منظمة التحرير الفلسطينية لتكريم الضحايا اليهود على الفور حفيظة القائمين على مركز سيمون فيزنثال، وهي منظمة أميركية كانت مشاركة في التكريم.
وقد أعرب رئيس الوفد الأمريكي الحاخام الكزاندر شندلر عن استيائه من أن "مشاركة من يقتلون اليهود من النساء والأطفال ويحتفلون بذبح الأبرياء تشكل استهزاء شنيعا بكل ما تمثله هذه الذكرى". لكن ياسين عبّر عن دهشته من هذه التصريحات. فبحسبه، لقد أراد الفلسطينيون تكريم أبطال الغيتو لأننا "ما زلنا نواجه ذات النوع من الفاشية ضد شعبنا". وفي أثناء المراسم، قام ياسين، برفقة وفد مرافق من منظمة التحرير الفلسطينية، بوضع إكليل من الزهور على النصب وأكد "لقد وضعت إكليلاً من الزهور لأن الشعب اليهودي كان ضحايا النازية والشعب الفلسطيني هو ضحايا النازيين الجدد.. الصهاينة وإسرائيل". وقد طلبت إسرائيل من مندوبيها المغادرة على الفور احتجاجًا على ذلك.
المطالب الإسرائيلية بأن يحيي الفلسطينيون والعرب ذكرى المحرقة لا علاقة لها بالمحرقة على الإطلاق، بل هي تتعلق بالجزء الآخر من الصيغة الصهيونية، ألا وهي الاعتراف بـ "حق إسرائيل في الوجود" والخضوع لها كدولة يهودية استعمارية عنصرية.
لم تثبط اتفاقيات أوسلو عام 1993 محاولات إسرائيل تشبيه الفلسطينيين بالنازيين. فعندما خطط ليخ فاوينسا لدعوة الحائزين على جائزة نوبل للسلام، بمن فيهم عرفات، إلى مراسم الذكرى الخمسين لتحرير أوشفيتز في كانون الثاني/ يناير 1995، هاجت مجموعات الناجين من المحرقة ومسؤولو متحف المحرقة الإسرائيلي "يد فشيم" وجماعات يهودية أخرى محتجةً على الدعوة. وقد صرح رئيس منظمة "توائم منغيليه"، وهي مجموعة تمثل الناجين الذين مارس النازيون تجارب طبية وحشية عليهم، أن "عرفات لا يجب أن يكون في أوشفيتز ... فهو كان استمرارًا لما فعله [النازيون بنا]". وقد دعا الكونغرس اليهودي الأوروبي إلى مقاطعة المراسم لأن عرفات "يمثل معاناة كبيرة للشعب اليهودي". ومع تصاعد الضغوطات على الحكومة البولندية، قرر فاوينسا عدم دعوة الحائزين على جائزة نوبل.
وقد قامت حكومة كلينتون بإقناع عرفات في عام 1998 بزيارة متحف ذكرى المحرقة في واشنطن العاصمة. لكن المتحف رفض عرض عرفات بالزيارة. وقد حذر أعضاء من المجتمع اليهودي الأمريكي مدير المتحف والتر رايك من أن "هذا [عرفات] هو تجسيد لهتلر". وأشاد المسؤولون الإسرائيليون بالرفض، لكن في واشنطن العاصمة كان هنالك تنديد بمسؤولي المتحف الذين قاموا بصد عرفات.
وعقب تمرد أعضاء من مجلس إدارة المتحف نتيجة ما حصل، فقد وجه مايلز ليرمان، رئيس مجلس ذكرى المحرقة، دعوة لعرفات. وقد أوضح مسؤول بالسفارة الإسرائيلية في واشنطن بأنه إذا كان عرفات من خلال زيارته "سيتم تعليمه [تاريخ] المحرقة، وإذا كان لن يقوم بإنكارها، فهذا أفضل". وأضاف رئيس إدارة متحف "يد فشيم" بأنه "ربما سيكون عرفات أكثر ترددا في إنكار [المحرقة بعد زيارته]". أما أن الحقيقة بأن لا عرفات ولا منظمة التحرير الفلسطينية كانا قد أنكرا المحرقة بل أنهما قاما دائمًا بإبداء تضامنهما مع ضحاياها فهي حقيقة غير ذات أهمية لمثل هذه الدعايات الكاذبة. وقد قرر عرفات أخيرا إلغاء الزيارة.
لكن ما هو مثير للاهتمام في سياق هذه الدعوة لعرفات بزيارة المتحف هو أن الإجماع الصهيوني والإسرائيلي على عرفات والمحرقة لم يعد قائمًا كما كان في السابق، حيث أن الإدانة الصهيونية لعرفات ومنظمة التحرير الفلسطينية، بل لأي محاولة فلسطينية لإظهار التضامن مع ضحايا المحرقة، استمرت حتى عام 1994. وقد نتج هذا التغيير المفاجئ في الموقف، والذي تمثل بدعوته لزيارة المتحف، من استسلام عرفات الأخير لإسرائيل في أوسلو. فلم تكن زيارة عرفات المرتقبة للمتحف بمثابة تضامن بين شعب ما زال ضحية للقمع والاضطهاد وشعب آخر كان ضحية للاضطهاد في الماضي لكن لم يعد كذلك في الحاضر، وإنما كتأكيد من جانب عرفات بأنه يتفهم ويتعاطف مع إسرائيل، التي سامحها على جرائمها منذ توقيع اتفاقية أوسلو. فقد كانت زيارته المرتقبة تهدف إلى المصادقة على موافقة الفلسطينيين على اعتبار المحرقة بمثابة تبرير لـ "حق إسرائيل في الوجود". وتذكرنا زيارة عرفات المفترضة هذه بزيارة أنور السادات لمتحف "يد فشيم" عام 1977 بصحبة مناحيم بيغن. وقد كانت زيارة السادات، مثلها مثل زيارة عرفات، بمثابة استسلام رمزي لاستيلاء إسرائيل على المحرقة كجزء من تاريخها.
لقد بدأ خضوع منظمة التحرير الفلسطينية لإعادة كتابة إسرائيل لتاريخ الاستعمار الاستيطاني الصهيوني حتى قبل أوسلو. فقد كان إلغاء قرار الجمعية العامة للأمم المتحدة لعام 1975، الذي وصف الصهيونية بأنها "شكل من أشكال العنصرية والتمييز العنصري"، والذي تم في شهر كانون الأول/ ديسمبر 1991، جزءًا من ثمن انعقاد مؤتمر مدريد للسلام. وكان سفير إسرائيل لدى الأمم المتحدة في ١٩٧٥، حاييم هرتسوغ، قد رد على السفراء في الجمعية العامة الذين صوتوا لصالح القرار في عام 1975، منتقدًا الاحتجاجات ضد العنصرية الإسرائيلية باعتبارها معادية للسامية وهتلرية، بأن "هتلر كان سيشعر وكأنه في بيته بينهم."
إن المحاولة الإسرائيلية المستمرة لإشراك الفلسطينيين وغيرهم من العرب في تاريخ المحرقة هي محاولة لصرف الانخراط الفلسطيني والعربي عن الحاضر الصهيوني اليهودي والإسرائيلي ومحاولة لتبرير جرائم إسرائيل المستمرة ضد الشعب الفلسطيني. أما المطالب الإسرائيلية بأن يحيي الفلسطينيون والعرب ذكرى المحرقة فلا علاقة لها بالمحرقة على الإطلاق، بل هي تتعلق بالجزء الآخر من الصيغة الصهيونية، ألا وهي الاعتراف بـ "حق إسرائيل في الوجود" والخضوع لها كدولة يهودية استعمارية عنصرية. لقد استسلمت السلطة الفلسطينية قبل ثلاثة عقود، مثلها مثل الحكومات العربية التي وقعت اتفاقيات "سلام" مع إسرائيل، لكن الشعب الفلسطيني والشعوب العربية رغم ذلك تواصل مقاومة إعادة كتابة إسرائيل للتاريخ الفلسطيني واليهودي دون كلل.