أفكَار

في التأسيس المعرفي لثقافة المصالحة في الفكر العربي

محمد عابد الجابري وعبد الله العروي مفكران مغربيان نظرا لثقافة المصالحة الفكرية العربية من منطلقات مختلفة

لم يعرف الفكر الإصلاحي قبيل تشكيل الدولة الوطنية شروخا كبيرة وهو يقارب سؤال التحرر، لأن انشغاله بطرد المستعمر كان يفرض عليه إعطاء أولوية كبيرة لقضية الوحدة وتعبئة الداخل. ورغم الخلاف الذي بدت بواكيره الأولى تظهر على مستوى زوايا تقييم الغرب(الغرب المتمدن، والغرب الاستعماري)، فإن أثره بقي في حدوده الفكرية، ولم ينعكس  في شكل شروخ اجتماعية عميقة، إذ بقي في أحسن أحواله يعبر عن خلاف نخب في الصالونات الفكرية أكثر منه خلاف تيارات مجتمعية تستلهم هذا الفكر أو ذاك. وقد كان ظهور الأطروحة التوفيقية (زكي نجيب محمود) مؤشرا واضحا على الرغبة في منع تطور هذا الخلاف عن مستوياته الفكرية إلى انعكاساته الاجتماعية.

لكن مع موجة حركة الاستقلال، ومع تغير الأسئلة من سؤال التحرر إلى سؤال هوية الدولة ومشاريع النهضة والتنمية، بدأت الخلافات الفكرية تجد صداها داخل التشكيلات الاجتماعية، وفرض الصراع على السلطة البحث عن تقوية مراكز القوى، مما دفع بالرهانات إلى أن تنتقل من رهانات النخب الفكرية المهووسة بالجواب عن الأسئلة الفكرية، إلى رهانات قوى سياسية تتطلع إلى إقحام الشرائح المجتمعية في معارك تقوية مراكز هذه القوى ضد تلك.

وقد كان الصراع في بداياته الأولى في معظم دول العالم العربي التي عرفت الاستقلال يدور بين نخبتين: نخبة مرتبطة بالاستعمار فكريا وقيميا اقتصاديا وسياسيا، ونخبة أخرى منطلقاتها سلفية وأفقها إصلاحي وطني، ثم بدأ يأخذ أبعادا أخرى بعد أن وقعت شروخ عميقة داخل النخبة الإصلاحية بفعل السياسات التي مست منظومة التعليم في الوطن العربي، فتحولت النخبة الإصلاحية ذات الهوية السلفية إلى نخبة وطنية ليبرالية لا تتنكر لأصولها السلفية الإصلاحية، لكنها في الوقت نفسه، تنشغل أكثر بهم الإصلاح السياسي أكثر من انشغالها بسؤال استعادة الأمة لوظائفها التاريخية التي استلبها الاستعمار منها.

وكان من الطبيعي بحكم هذا التغيير في الرهانات (التركيز على سؤال الإصلاح السياسي) أن يصير الصراع على السلطة جزءا أساسيا من هموم المفكرين والمثقفين، إذ انعكس ذلك بشكل كبير على العناوين التي تم التعاطي معها لفترة طويلة من الزمن، إذ تدرجت الاهتمامات الفكرية المؤطرة لفترات الصراع حول السلطة بين ثلاث عناوين أساسية، الوحدة والاستقلال في مقابل التجزيء والهيمنة الأجنبية، ثم الحرية والديمقراطية وحقوق الإنسان في مقابل التحكم والهيمنة والاستبداد، ثم الاستقرار والأمن في مقابل التطرف والإرهاب.

العقل السياسي العربي بين ثلاث أطروحات

ثلاث عناوين كبرى عكست ثلاث مراحل كبرى في تاريخ الأطروحات الفكرية التي أطرت العقل السياسي العربي.

الأطروحة الأولى، أي الوحدة والاستقلال في مقابل التجزيء والهيمنة الأجنبية، والتي غطتها المرحلة القومية الاشتراكية، حيث عرفت شرخا كبيرا، حقيقيا أو مفتعلا، بين من مع الثورة ومن ضدها، من مع الحزب القائد ومن ضده، من مع حماية الوطن ومناصرته ضد أعدائه ومن مع الجهة المناوئة له الخائبة لسيادته ورموزه.

أما الأطروحة الثانية، فقد تأسس الشرخ على خلفية من الأجدر بالتمثيلية الديمقراطية، التيارات الليبرالية الحداثية أم التيارات الإسلامية، التيارات العلمانية أم التيارات ذات الخلفية الدينية.

أما الأطروحة الثالثة، فقد أخذ الشرخ فيها أبعادا مختلفة، بعضها مرتبط بسؤال من أين يأتي التطرف والإرهاب، وبعضها الآخر مرتبط بسؤال مكافحته، وهل يكون بمسار الإصلاح الديمقراطي وإدماج النخب أم بالمقاربة الأمنية واستئصال النخب؟

ضمن هذه الأطروحات الثلاث، تحركت الأطاريح الفكرية على مدى أكثر من نصف قرن من الزمان،  توجهها حينا هموم المثقفين المشغولين بالخروج من المأزق، وتحركها أحيانا كثيرة إرادات سياسية محلية وإقليمية ودولية، تدخل معامل الشرخ الاجتماعي ضمن حسابات رسم الأجندات وترتيب السيناريوهات القادمة.

كان من الطبيعي أن تتمخض من رحم المرحلة الأولى المؤطرة بعنوان الوحدة والاستقلال في مقابل التجزيء والهيمنة الأجنبية إشكالية الحرية والعدالة والكرامة لاسيما في ظل بروز ممارسات سياسة منحرفة استغلت عناوين الاستقلال والسيادة والوحدة، وعناوين مواجهة الثورة المضادة والعمالة، لتبرير الانتقاص من الحرية في ابعادها المدنية والسياسية والكرامة في جوهرها الإنساني.

وكان من الطبيعي أيضا أن تتخلق في المرحلة الثانية المؤطرة بعنوان الحرية والديمقراطية وحقوق الإنسان، إشكالية ترتبط بإدماج النخب على اعتبار أن التأسيس للانتقال إلى الديمقراطية يتطلب فتح البيئة السياسية المغلقة توسيع فضاء المشاركة في المجال العام وإدماج النخب بما في ذلك النخب ذات الخلفية الدينية.

وكان من الطبيعي في المرحلة التي نعاصرها اليوم، والمؤطرة بعنوان مواجهة التطرف والإرهاب، أن تتخلق إشكالية أخرى ترتبط بالمعادلة التي توازن بين حماية الأمن القومي وبين ضمان حقوق الإنسان.

في كل هذه المراحل، التي تأطرت بعناوين مركزية وتخلقت على هامشها إشكالات تضع الممارسة السياسية على المحك، كانت تنتج مساحات للجدل الفكري يتم فيها حينا تقديم التأصيل الفكري لتسوية هذا التوتر (التأصيل الفكري والتاريخي لفكرة العادل المستبد) ويتم فيها أحيانا أخر التخفيف من هذا التوتر بخلق مساحات للتنفيس، ففي المرحلة الأولى، كانت المساحة الأكثر تنفيسا هي النقاش حول التراث والمعاصرة، والقديم والجديد، والذي غطى كل التعبيرات الفكرية والفلسفية والأدبية، أما في المرحلة الثانية، فقد اتجه التنفيس صوب تضخيم قضايا الحريات الفردية التي لا تؤثر بشكل سلبي على الشرعيات السياسية، واستنزاف النخب السياسية بسؤال الهوية الديمقراطية للنخب، إذ بدل أن يقع النقاش حول أجندة ترقية الديمقراطية، انحرف إلى التنازع حول إثبات أو نفي الصفة الديمقراطية عن النخب وذلك بالحفر في أدبياتها ومساراتها.

أما في المرحلة الثالثة، المؤطرة بعنوان محاربة التطرف والإرهاب، فكانت المساحات الأكثر تنفيسا هي فضاءات التعبير عن الفرح (الموسيقي والمهرجانات والتعبيرات الفنية).

خلاصة هذا التوصيف الرصدي أن هناك ثلاث مساحات ظل يشتغل فيها العقل العربي السياسي، مساحة التعبيرات الفكرية التي تدعم مراكز القوى السائدة (السلطة)، ومساحة التعبيرات التي تمانع انحراف الممارسة السياسية في ترجمة العناوين المرفوعة، ومساحة تدبير التوتر وتخفيف حدته بخلق تعبيرات ثانوية تمنع تطور الصراع إلى مستويات جد متقدمة.

الدائرتان المتقابلتان

في ظل هذه الدينامية يمكن أن نقرأ الأطاريح الفكرية العربية والتي بدورها لم تخرج عن دائرتين أساسيتين:

1 ـ دائرة تعميق الشرخ المجتمعي سواء عبر تقديم السند الفكري للأطروحة وعناوينها وأحيانا حتى تبرير ممارستها المنحرفة، أو عبر مجابهة الأطروحة السائدة بسند فكري مناهض مع التركيز على انحراف الممارسة عن عناوين الأطروحة المهيمنة مع الممارسة.

2 ـ دائرة صناعة فكر المصالحة الذي بقدر ما حاول تفكيك الأطاريح المتصارعة بقدر ما  حاول البحث عن التركيب الممكن في ظل المرحلة دون أن يكون له اثر سلبي على العمران الاجتماعي.

ألم تكن أطروحة نقد التراث العربي والثقافة العربية والعقل العربي محاولة للبحث عن العوائق الذاتية في الحالة العربية التي تمنعها من الارتياد إلى الأفق الديمقراطي؟ وألم تكن تجربة نقد الموروث الديني والإقرار بعائقيته للنهوض والدمقرطة إيحاء بشرطية إقصاء بعض النخب ذات الخفلية الدينية في التقدم نحو الديمقراطية؟ وألم تكن أطروحة عبد الله العروي بالفطام عن لغة الأم وثقافة الأم لبلوغ الحداثة مجرد سند فكري لأطروحة إقصاء بعض النخب من المشاركة السياسية؟

لا يهم كثيرا أن نتابع الأطروحات ونقرأها ضمن هذه الدينامية، لكن الذي يهم أكثر هو أن ندرس أثرها  على مستوى شبكة العلاقات الاجتماعية، وإلى اي درجة ساهمت في إحداث الشرخ المجتمعي وتعميقه حتى صار من المتعذر مجرد التفكير في تعاقد سياسي بين المكونات المجتمعية.

 

تحتاج النخب السياسية العربية بمختلف مكوناتها أن تخرج من ذهنها أي رهان على الفاعل الأجنبي في عملية التحول الديمقراطي، وأنه على العكس من ذلك، يمثل المعيق لها، بحكم مصالحه، التي تدفعه للمناورة بجملة الخيارات التي بيده، والتي أصبحت في الآونة الأخيرة، تضيق، إلى الدرجة التي أصبحت مقرونة باستهداف أمن وسيادة الدولة القطرية العربية.

 



نعم، لا يمكن أن نشك بأن الشرخ المجتمعي الذي تعمقت حدته داخل العالم العربي، يرجع في جزء  منه إلى الصراع حول السلطة، وما يرتبط بها من رهانات دولية، لكن، المشكلة ليست في هذا المكان وحده، فالصراع حول السلطة ستبقى دائما جبهته مفتوحة، إنما المشكلة هي حينما يصير المجتمع كله، عبر الأطاريح الفكرية، جزءا مهما في تأثيت هذا الصراع حتى ولو لم يكن طرفا تناقضيا فيه.

لقد اشتغل الفكر العربي على الدائرة الأولى كثيرا، وأنتج كما هائلا من الدراسات التي تفكك الثقافة العربية وتنتقد الموروث الديني، وتمارس النقد على أطروحة السلطة وعلى أطروحة التيارات الدينية، لكنه أبدا لم يشتغل بحجم متناسب على الدائرة الثانية، دائرة التأسيس المعرفي لثقافة المصالحة.

التجربة الفكرية للدكتور محمد عابد الجابري كانت فريدة في التأسيس لفكر المصالحة بين المكونات السياسية المركزية، فقد اشتغلت معرفيا على التلاقي بين النظام البياني والنظام البرهاني، واشتغلت سياسيا على إمكانية بناء كتلة تاريخية تجمع المكونات المركزية للأمة، وخرجت من شرنقة جدل التراث والحداثة بفكرة الانتظام في الثقافة العربية وفي التراث العربي، وذلك في لحظة كان فيها الشرخ المجتمعي في مستويات مقدور على التحكم فيها.

اليوم، نحتاج إلى أن يتوقف الفكر العربي على الاشتغال على الدائرة الأولى، لأن التجارب أثبتت أن كل الجهد الذي بذل على في هذا المستوى لم يساهم إلا في تعميق الشرخ المجتمعي، وأنه آن الأوان اليوم أن نشتغل على فكرة المصالحة، ليس بالضرورة بنفس البراديغم الذي نحته الدكتور محمد الجابري، وإنما يتعين أن يأخذ هذا المفهوم أو هذه الثقافة ما يكفي من التأسيس المعرفي حتى تصبح التعبيرات الفكرية في المحطات القادمة أداة لمحاصرة الانقسامات المجتمعية في أبعادها المختلفة.

في التأسيس لثقافة المصالحة: من سؤال الإيديولوجيا إلى سؤال الوجود

ثمة حاجة اليوم إلى إدراك الفوارق التي أنشأتـها التحولات الدولية والإقليمية، وساهمت بها في تنبيه الوعي العربي بحصول تغيرات مفصلية، مست خارطة الفكر العربي، ومست أيضا أدوار الفاعلين.

بالأمس القريب، كانت المعادلة، سواء التي تتأسس على فكر تعميق الشرخ المجتمعي، أو التي تتأسس على الكتلة الديمقراطية الجامعة، تنطلق من قاعدة إيديولوجية، يفترض طرفها الأول، أن حسم الصراع مع الفكر الديني (مع الإسلاميين) لصالح الثقافة الكونية (التيار العلماني بمختلف تعبيراته)، هو السبيل لإحداث فارق في الوعي الثقافي العربي، وأيضا في الموقع السياسي. في حين كان يفترض الطرف المقابل، أن الحوار بين مكونات الفعل السياسي العربي، والتوافق على أرضية الديمقراطية بين الإسلاميين والعلمانيين واليساريين، هو القمين بإحداث هذه النقلة، وأن شرط ذلك هو إحداث تحولات في عالم الإيديولوجية، حيث يتطلب الأمر من اليسار تعديل أطروحتهم الإيديولوجية لجهة التصالح مع الإسلاميين، والتوافق معهم على قاعدة مشتركة (الديمقراطية) ويتطلب من الإسلاميين الأمر ذات،ه بإحداث تحيينات مهمة على خطابهم الإيديولوجي في اتجاه المصالحة مع الديمقراطية ومع مفردات الفكر السياسي الحديث ومعه تعبيراته السياسية العربية (اليسار).

اليوم، ونتيجة التحولات الدولية والإقليمية، التي بدأت تطرح بإلحاح سؤال السيادة والأمن بمختلف أبعاده (الدفاعي، الطاقي، الغذائي)، تراجع سؤال الإيديولوجيا، وتحولت معادلة الفعل السياسي بشكل كامل.

كانت المعادلة بالنسبة للعلمانيين بمختلف أطيافهم هو ترتيب معركتين، الأولى مع الاستبداد الذي تمثله الأنظمة السياسية، والثانية مع الرجعية والماضوية التي يمثلها التيار الديني، مع اختلاف يمزق مكوناتهم، حول سؤال الأسبقية، وهل الحسم مع التقليد الديني، هو شرط للحسم مع التعبير السياسي للتقليد (الأنظمة السياسية) (فكر العروي)، أم أن الأمر يتطلب فتح جبهتين في آن واحد، يعطي فرصة للأنظمة السياسية، للمناورة بإحداث تحالفات مع التقليد الديني، أم يتطلب الأمر، إحداث توافق ما بين الحداثة بعض أشكال التقليد الديني التي تنحو نحو الحداثة السياسية من غير تحديث ثقافي (الإسلاميين)، للحسم مع التقليد السياسي.

في الحالة العربية اليوم، تغير السؤال مطلقا، على الأقل من جهة تمثل أدوار الفاعل الغربي الذي كان ينظر إليه كداعم لعملية التحول الديمقراطي، أو داعم للأنظمة الشمولية، وفقا لتحولات مصالحه.

السؤال اليوم تراجع بشكل كامل، وأضحى مرتبطا بحجم التحديات السيادية والأمنية التي تواجهها الدولة الوطنية، والحاجة إلى إجماع وطني، يوفر الجبهة الداخلية المتراصة للحيلولة دون مخططات التجزئة والتقسيم.

ثمة تحولات مهمة حدثت في السياق السياسي العربي، في التكيف مع هذه المعادلات الجديدة، إذ حدث فرز ثلاثي للمشهد السياسي العربي نجد صورته في تنامي ظاهرة الحكم العسكري أو الحكم الفردي (مصر، الجزائر، تونس، سوريا) (الأول)، وبروز رهانات على فكرة الإجماع (المغرب، الأردن، ودول الخليج) (الثاني)، واستمرار الصراع على السلطة وعدم التوصل إلى حل سياسي يعيد الاستقرار في مواجهة مخططات الإرادات الدولية أو الإقليمية (ليبيا، اليمن، العراق) (الثالث).

 

التأسيس لثقافة المصالحة، يبدأ بإعادة تأسيس مفهوم الدولة الوطنية في الوعي السياسي العربي، بما تعنيه، من أولوية السيادة والأمن والاستقرار، وتغيير كامل للمعجم السياسي، الذي يدور حول الصراع، حتى يتم التغلب على هذا التحدي، ويتم بعدها طرح سؤال الحداثة السياسية، بكافة متطلباتها.

 


تبدو هذه المعادلات الثلاثة مختلفة تماما، لكنها تمثل في الجوهر استجابة مختلفة لتحدي واحد، حيث يتجه الحكم العسكري أو الفردي إلى توحيد المجموع على عبقرية الحاكم في مواجهة تحدي استهداف السيادة والأمن، وتتجه أنظمة الإجماع إلى توحيد المجموع حول رؤية واحدة لمواجهة هذا التحدي، وتعيش الحالة الثالثة، واقع عدم القدرة على الاستجابة الواعية لهذا التحدي، بسبب اختلا في تمثل نظام الأسبقيات، وهل الأولوية هو الجواب عن تحدي السيادة والأمن، أم الأولوية هو حسم صراع السلطة كمدخل للجواب عن تحدي السيادة والأمن.

التيارات الفكرية والسياسية تتعامل مع هذه المعادلات الثلاث بمنطق مختلف، فتنحو في الاتجاه الأول إلى خوض صراع السياسة الوجودي مع الحاكم بحجة أنه سد منافذ التعبير بمختلف مستوياته، وتنحو في الثاني منحى التماهي مع نخب الحكم أو التماهي معها في السياسة الخارجية وأخذ المسافة عنها في السياسة الداخلية، وتستمر في الحالة الثالثة، كوقود للاستقطاب والاحتراب الداخلي.

الحاجة أضحت ضمن هذه التحولات التي مست السياقات السياسية العربية، أن يتم التأسيس لثقافة المصالحة، من قاعدة أخرى غير قاعدة الإيديولوجي، ومن غاية أخرى غير غاية التخلص من الاستبداد السياسي الذي تمثله الأنظمة السياسية.

تحتاج النخب السياسية العربية بمختلف مكوناتها أن تخرج من ذهنها أي رهان على الفاعل الأجنبي في عملية التحول الديمقراطي، وأنه على العكس من ذلك، يمثل المعيق لها، بحكم مصالحه، التي تدفعه للمناورة بجملة الخيارات التي بيده، والتي أصبحت في الآونة الأخيرة، تضيق، إلى الدرجة التي أصبحت مقرونة باستهداف أمن وسيادة الدولة القطرية العربية.

التأسيس لثقافة المصالحة، يبدأ بإعادة تأسيس مفهوم الدولة الوطنية في الوعي السياسي العربي، بما تعنيه، من أولوية السيادة والأمن والاستقرار، وتغيير كامل للمعجم السياسي، الذي يدور حول الصراع، حتى يتم التغلب على هذا التحدي، ويتم بعدها طرح سؤال الحداثة السياسية، بكافة متطلباتها.

من المهم ملاحظة حاجة الأنظمة السياسية العربية إلى شرعية جديدة، وبحثها المطرد عن حوار سياسي وطني مع مكونات الفعل السياسي الداخلي، اختلفت أسماؤه (حوار سياسي وطني، مصالحة سياسية، لم الشمل)، لأنها تدرك أنها باتت معزولة، وأن أهم حجة تبرر وجودها (الأمن والاستقرار) أضحت تحت طائلة السحب بسبب ضيق خيارات السياسات الدولية والإقليمية، وأنها لهذا السبب، تطلب توسيع الجبهة الداخلية وترصيصها.

من المناسب في عمليات التأسيس للمصالحة أن تدخل النخب في حلبة التفاوض السياسي حول شروط الحوار، حتى تضمن إلى جانب الجواب عن تحدي الأمن والسيادة، ترتيب ممهدات الحداثة السياسية بعد الخروج الآمن من دائرة المجهول.