ينزل الخبر كالصاعقة على رؤوس الصحفيين.. بعضهم لم يبدأ يومه بعد ليلة طويلة من متابعة اقتحامات جيش الاحتلال وبعضهم في طريقه للعمل ويصحوا آخرون من نومهم على رنة هاتف، الاحتلال يقتل شرين. أي خبر وأي حدث يزلزل كيان كل صحفي مثل هذا ليس حدثا عاديا.. عايشنا الإنكار للحظات لكن الحقيقة مرة والفاجعة قد حدثت فعلا.
لا يعرف الصحفي في مثل هذه الأحداث ما يفعل بالضبط.. الأمور تسير بدون خطة، يتجمع الصحفيون وتبدأ رحلة تيه عنوانها كيف نتعامل مع الحادث؟ يتبادل الصحفيون التعازي لكن من سيعزي من؟ المصاب واحد.. وتبدأ رحلة التغطية، الكل يبحث عن الكل لإجراء مقابلات مع الكل.. الجميع يحمل ذات الهم وذات الوجع وذات الألم، تتفاجأ بأنك تجري مقابلة مع زميل كان قد أنهى للتو مقابلة معك لتتحدث عن الحالة وما فيها من وجع وألم عابر للأجساد.
تزداد الأمور تعقيدا.. الاحتلال يحاول التهرب من الجريمة وتختلط هنا الأوراق والأدوار فيصبح على الصحفي أن يساهم في التحقيق الأولي ليفهم القصة بعمق ويدحض رواية الاحتلال ويحمل راية القضية ويغطي لوسيلته ومؤسسته ما يجري على الأرض ويساهم في ترتيب المراسم والفعاليات والتواصل مع المؤسسات وتبادل التعازي مع الزملاء والأهل.
تسير الأمور بكل تعقيداتها ووجعها ويصر الصحفي أن يبقى محافظا على توازنه مخفيا مشاعره لمتابعة القضية لكن دموعه تفضحه أحيانا وصوته يكشف عن حزنه وألمه وربما قد تنهار الأجساد أمام مثل هذه الفاجعة.
ينتهي اليوم وتسير الأمور بحس تضامني لا يجده الصحفيون إلا في مثل هذه الحالات التي اعتادوا عليها، ففي كل فترة من الزمن يفقدون صحفيا أو يصاب آخر أو يعتقل ثالث أو تغلق مؤسسة أو يعتدى على أخرى.
يحتفظ الصحفيون بمشاعرهم حتى لا تفضح أمام أبنائهم وأمام عائلاتهم. يعرفون تماما أنهم في كل مواجهة قد يتعرضون للاعتداء فهم لا يغطون عروض أزياء أو مؤتمرات قمة. المخاطرة بمجرد التواجد بمكان المواجهة فكيف إذا كنت مستهدفا وكيف إذا ما نظر إليك جنود الاحتلال كعدو حتى لا تقلق العائلة ولا يعصر الأم والزوجة ألم الانتظار سليما معافى، في كل يوم يحافظ الصحفي على رباطة جأشه ويهون من الأمر ويغدو في كل يوم إلى مواجهة جديدة قد لا يعود منها أو قد لا يعود كما كان.
لن يخبركم الصحفيون بهذا ولا بالهمسات التي يهمسها بعضهم لبعضهم باستحياء ويفضل كل منا أن يحتفظ بعشرات الأسئلة والمخاوف في نفسه إلى جانب المئات من قصص الألم التي يعايشها في فلسطين مع عائلات من فقدوا أبناءهم أسرا وإصابة وشهادة ومن فقدوا منازلهم وكل أصحاب القضايا.
بهمسة دون قصد وبصوت خافت يتساءل أحدهم: على "مين الدور المرة الجاي"؟ يسمع الجميع هذه الهمسة وترن في أعماق وعيهم لكن الجميع يتجاهل الإجابة الجهرية على التساؤل لكن قرارة نفسه تجيب "قد أكون أنا".
المخاطرة بمجرد التواجد بمكان المواجهة فكيف إذا كنت مستهدفا وكيف إذا ما نظر إليك جنود الاحتلال كعدو حتى لا تقلق العائلة ولا يعصر الأم والزوجة ألم الانتظار سليما معافى، في كل يوم يحافظ الصحفي على رباطة جأشه ويهون من الأمر ويغدو في كل يوم إلى مواجهة جديدة قد لا يعود منها أو قد لا يعود كما كان.
بالفعل يشعر الصحفيون بأن الدور على الجميع لا يهم من أنت ومع من تعمل لكن الاعتداء والأذى واقع على الجميع لا محالة يزيد أحيانا ليصل مستوى القتل ويقل أحيانا بالاستهداف بالضرب أو المنع من التغطية والتصوير.
يحتفظ الصحفيون بهذا السؤال ليشعل في صدورهم سؤالا اخر: هل ابقى في المهنة وفي الميدان او انسحب الى عمل اخر؟ يبقى السؤال بلا اجابة في ظل ادمان الصحافة والميدان للبعض وتحت وطأة انعدام الفرص البديلة يصبح لا خيار امام الصحفي الا الاستمرار في التغطية.
نعم الصحفيون مستمرون بالتغطية ويعلمون تماما أن رسالتهم في تغطية أخبار فلسطين وكشف حقيقة ما يجري من انتهاكات واعتداءات رسالة لا تعدلها رسالة لكن هواجس الإصابة والضرب والاعتقال تبقى حاضرة في ذهن أبناء الميدان تغيب فقط ساعة المواجهة والعمل لتحضر في كل الأوقات خارج التغطية.
وبين كومة أسئلة بلا إجابة يضع سؤال آخر نفسه أمام الصحفي إذا ما كانت شرين وهي تتمتع مقارنة بالعديد من الزملاء في الميدان بالحماية بقناة الجزيرة، التي تعمل معها والجنسية وتوفير التدريبات وأدوات الحماية الشخصية، قتلها الاحتلال فما مصير العشرات من الصحفيين الذين لا تتوفر لديهم أحيانا حتى الستر الواقية من الرصاص ولا يعترف الاحتلال ولا حتى الجهات الفلسطينية بهم كصحفيين، ما هو مصير هؤلاء؟
تنفجر هذه الأسئلة وغيرها العشرات أمام الصحفي ويواجه إجاباتها المرعبة في كوابيسه بالليل أو في هواجس لا تنفك تحضر أمامه، يفضل الصمت والكتمان وعدم الحديث حتى يستمر في رسالته السامية وكسب لقمة عيشه وتبقى صورته أمام جمهوره وعائلته قويا صلبا لا يبوح بها ولا يفضل حتى طرح القضية إلا في أكثر الغرف إغلاقا مع الزملاء والأصدقاء المقربين ويكون الأمر بمواربة عن الحقيقة حتى لا يواجهها.
ما أن يعلو صوت مدافع الاحتلال وطائراته وآلياته لهدف جديد يهرع الصحفي للتغطية، قد تكون القضية أقل التصاقا به لكن صوت البنادق يخفي همس الأسئلة وتعود هذه الأسئلة والهواجس وتختلط بكومة المشاهدات والصور التي يعيشها الصحفي الميداني في كل يوم.
الصحفيون كما الأطباء الذين يعالجون الجميع ويخفقون في علاج أنفسهم، فهم يتحدثون عن ألم الجميع وعن قصص المظلومين ويبدعون في تصوير المعاناة لكنهم مع ذلك يكتمون ألمهم وحكاياتهم.