القدس والضفة الغربية وكل الأراضي الفلسطينية تغلي فوق صفيح ساخن، وإسرائيل ـ كما يقال في اللغة الشعبية ـ "على كفِّ عفريت" بعد سلسلة هجمات وطعن ودهس وإطلاق نار أسقطت ومازالت تسقط عشرات القتلى والجرحى من المستوطنين الصهاينة، في أكثف هجمات فردية يشنها شباب فلسطينيون في معزل عن الفصائل وتنظيماتها المعروفة منذ سنين..
بينما تبدو دولة الكيان الصهيوني وكأنها تفرغ فاهها غير مصدقة ما يحصل، فالتحدي الأكبر لها اليوم يتمثل في هذه العمليات الفردية واستحالة التنبؤ بزمانها ومكانها ومنفذيها، وعدم القدرة على تحديد السبيل الأمثل للرد عليها، ما يمس بشكل مباشر وفي الصميم "قوة الردع الإسرائيلية" التي باتت شبه عاجزة عن احتواء الوضع، فهي تعلم أن ملاحقة الشاباك والشرطة لمنفذي العمليات وقتلهم لا يغني ولا يسمن من جوع، فلن تمنع تساقط المستوطنين اليهود بعمليات الفلسطينيين، خاصة مع تصعيد جديد محتمل جراء تزامن شهر رمضان مع أعياد اليهود، الأمر الذي يُنبئ باشتباكات دموية قد تتأتى عن اقتحام المستوطنين الصهاينة للمسجد الأقصى هذا العام..
كل هذا وأكثر جعل رئيس أركان جيش الاحتلال الصهيوني يُنذر بقرب شن حرب جديدة على قطاع غزة، سماها أيضا على اسم سابقتها "حارس الأسوار"، لكنها ربما ستكون أكثر من سابقتها قسوة وأشد دمارا.. الأمر الذي ستواجهه الفصائل الفلسطينية بوابل من الصواريخ قد تشكل مفاجأة جديدة لإسرائيل وقبتها الحديدية جراء المدى المطور لهذه الصواريخ ودقتها وقدرتها التدميرية، ما قد يغير من موازين الحرب وقواعد الاشتباك ويرسم أبعاداً مختلفة لحرب جديدة بين غزة وإسرائيل تقترب يوما بعد يوم.
إن الإنسحاب والتراجع الأمريكي من منطقة الشرق الأوسط لا يعني بأى حال غياب الفعل الأمريكي.. بل هو ضرورة اضطر إليها صانع السياسة الأمريكية.. إذ أن الصعود الصيني قد اضطره للإنسحاب وتركيز جهده الرئيس فى منطقة جنوب شرق آسيا..
"مسرح العمليات وأسلوب الصدمة"؛ في الضفة الغربية المحتلة أو داخل أراضي 48 سلسلة عمليات، الطعن وإطلاق النار والدهس تستهدف مستوطنين صهاينة وترديهم قتلى أو جرحى، وهذا ليس أكثر ما يلفت الأنظار في التصعيد الفلسطيني الأخير، بل ما يلفت الانتباه أن العمليات باتت تعتمد أسلوب الصدمة فلا أحد يتبنى ولا فصيل له يد في العملية، كل ما في الأمر أن معظمها هجمات فردية باتت تشكل تحدياً لدولة الكيان الصهيوني وتقض مضاجعها، فلا تجسس ينفع للتنبؤ بالأشخاص ولا استطلاع متقدم يفيد بمعرفة الزمان والمكان..
وبداية الغيث كان في 22 آذار/ مارس عندما قتل 4 إسرائيليين بعملية طعن في بئر السبع، وفى 27 آذار/ مارس بمدينة الخضيرة جنوب حيفا قُتِل جنديان إسرائيليان بالرصاص وأُصيب 12 آخرين، و5 إسرائيليين آخرين قتلوا برصاص شاب فلسطيني في 30 آذار/ مارس بمدينة بني براك شرق تل أبيب وسط حي للمتعصبين اليهود، وبعدها بيوم واحد وعلى متن حافلة قرب مفترق "غوش عتصيون" طَعن فلسطيني مستوطنين إسرائيلين مما أسفر عن إصابات بجروح خطيرة، ومع حلول شهر نيسان/ أبريل لم يتغير الحال فقد حاول ثلاثة شبان فلسطينيون تنفيذ عملية قرب بلدة عرابة جنوب مدينة جنين لكنهم أستشهدوا قبل تنفيذ العملية على يد الشرطة الإسرائيلية، وفى 7 نيسان/ أبريل قُتل ثلاثة إسرائيليين وأصيب 14 على الأقل في إطلاق نار نفذه شاب فلسطيني في شارع تجاري وسط تل أبيب.
فشل جهاز الأمن الداخلي" الشاباك"
في ظل فشل أجهزة الاستخبارات وأجهزة الأمن الداخلية والخارجية بإحباط العمليات قبل وقوعها جراء عدم مركزية التخطيط لها، حدا بمحللين إسرائيلين ترجيح الرد بعمل عسكري واسع رغم أنه حل لن يأتي بنتيجة فورية نظرا لعدم وجود ارتباط واضح بين المنفذين والتنظيمات الفلسطينية، ستبقى أجهزة الأمن الإسرائيلية تواجه معضلة العمليات الفردية حتى لو نفذت اجتياحا لغزة أو مخيمات الضفة الغربية، لأن منفذ هذا النوع من العمليات قد يكون هو نفسه لا يعلم متى وأين وكيف سينفذ عمليته بل يترك الأمور حتى تسنح الفرصة، وبالتالي ستعجز عيون إسرائيل أو عملائها أو تقنياتها التكنولوجية عن كشف شاب يريد تنفيذ عملية هو نفسه لايعرف متى وكيف وأين سينفذها..
جدير بالمعرفة أن منفذي بعض العمليات هم مواطنون في الأراضي المحتلة، ونجحوا في تنفيذها تحت أعين الشاباك ومراقبته، مما سيشجع التوجه الفلسطيني العام لزيادة العمليات الفردية اللامركزية واللاقيادية داخل الكيان الصهيوني مستقبلا، خاصة وأنها عمليات باتت لا مناسبات لها ولا ترتبط بموسم أو حدث معين.
"موقف الراعي الأمريكي"
إن الإنسحاب والتراجع الأمريكي من منطقة الشرق الأوسط لا يعني بأى حال غياب الفعل الأمريكي.. بل هو ضرورة اضطر إليها صانع السياسة الأمريكية.. إذ أن الصعود الصيني قد اضطره للإنسحاب وتركيز جهده الرئيس فى منطقة جنوب شرق آسيا.. وحان الآن الدور على حلفاء أمريكا الرئيسيين فى بقية أنحاء العالم أن يلعبوا دورا أكبر فى منظومة الدفاع الأمريكية.. ولكن بشرط أن يلتزموا قواعد اللعبة التي يضعها البيت الأبيض والبنتاغون وأن تظل خيوط اللعبة كلها في يد الأمريكي..
وفي منطقتنا العربية، كان يتم إعداد إسرائيل للعب هذا الدور منذ زمن بعيد.. فتم تدشين ذلك عبر قافلة التطبيع العربية الجديدة، البحرين والمغرب والسودان والإمارات.. ولكن ما يفسد هذا المشهد هو أمران ثورات الربيع العربى والحس الجماهيري الشعبي من المحيط إلى الخليج والذي يرفض الهيمنة الصهيونية الأمريكية.. وهذا تقوم الأنظمة العربية الإستبدادية بقمعه بقسوة بالغة.. والأمر الثاني هو النضال الشعبي الفلسطيني على الأرض والذي تزداد رقعته إتساعا من حيث الكم والنوع.. فقد تجاوز النضال الفلسطيني حدود الأرض المحتلة فى ٦٧ وأصبح يضرب فى اراضى ٤٨ وفى قلب العدو الصهيوني فى تل أبيب.. كما أصبح يشمل جموع الشعب الفلسطيني فى كل مكان.. وتجاوز حدود التنظيمات الفلسطينية التقليدية ليصل إلى أفراد غير مؤدلجين ولا مصنفين كمقاومين..
لقد جعلت المقاومة الفلسطينية.. العدو الصهيوني والأنظمة العربية المستبدة، فى مرمى نيران الشعوب العربية من المحيط إلى الخليج.. وصدق الله تعالى إذ يقول: (فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ أُولَاهُمَا بَعَثْنَا عَلَيْكُمْ عِبَادًا لَّنَا أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ فَجَاسُوا خِلَالَ الدِّيَارِ ۚ وَكَانَ وَعْدًا مَّفْعُولًا).
ولذا فإن العدو الصهيوني والأمريكي يراقب هذا المشهد المقلق، لأن استمراره يعني بداية النهاية للمشروع الاستيطانى الصهيوني على أرض فلسطين.. كما أن المقاومة الفلسطينية المستمرة تنعش ذاكرة الشعوب العربية والإسلامية باستمرار.. ليس حول الأمل في تحرير فلسطين فحسب.. بل الأمل فى الخلاص من الإستبداد المحلي.. وإمكانية الخلاص من الإثنين معا "الإستبداد والاحتلال" الذين يجمعهما المشهد الآن فى كادر واحد باعتبارهم توأمين وحليفين مخلصين لبعضهما البعض..
باختصار لقد جعلت المقاومة الفلسطينية.. العدو الصهيوني والأنظمة العربية المستبدة، فى مرمى نيران الشعوب العربية من المحيط إلى الخليج.. وصدق الله تعالى إذ يقول: (فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ أُولَاهُمَا بَعَثْنَا عَلَيْكُمْ عِبَادًا لَّنَا أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ فَجَاسُوا خِلَالَ الدِّيَارِ ۚ وَكَانَ وَعْدًا مَّفْعُولًا).
القدس وضرورات التحرر من البكائيات
الغضبة الشعبية واحتمالات الانتفاضة الثالثة