يشيع في كتابات وأحاديث دعاة "النسوية" وصف الفقه الإسلامي بـ"الذكوري"، ويريدون بذلك تفضيله للرجال على النساء، وجعل المرأة تابعة للرجل، لأنه صاحب القوامة المطلقة، كما أزرى بالمرأة وجعلها مصدرا للفتنة، وعدها من حبائل الشيطان، وتركزت أحكام الفقه الخاصة بالنساء على تقييد المرأة وحبسها في بيتها.
في كتابها المعنون بـ"تاريخ النساء الذي لم يكتب بعد" خصصت أستاذة التعليم العالي بكلية الأدب واللغات في جامعة البويرة الجزائرية، الدكتورة فيروز شام الفصل الثالث من كتابها لبحث فقه النساء كما كتبه الرجال: فقه النساء أم سجن النساء؟ فتاوى وأحكام النساء، أحكام ذكورية وليست إلهية..
وفي معرض بيانها للدوافع والخلفيات التي جعلت الفقهاء يعادون المرأة منذ فجر الإسلام، حسب ما جاء في إحدى مراجعات الكتاب، أرجعت الكاتبة ذلك إلى أسباب ثقافية، فقيدها الفقهاء داخل سجن مادي ومعنوي يعيق حركتها ويمنع مشاركتها في الحياة العامة من خلال حبسها في البيت، وتأثيم خروجها.
وفي مبحث آخر بينت المؤلفة "كيف أن أغلب الأحكام المتعلقة بالنساء في كتب الفقه إنما هي أحكام ذكورية أملتها الثقافة، وليست أحكاما إلهية، لأنها لم ترد في المصدر التشريعي الأول وهو القرآن الكريم، ولا حتى في السنة النبوية، حيث تبين أن الرسول صلى الله عليه وسلم كان محبا للنساء ومدافعا عنهن، وما أشاعوه عنه ليس إلا أباطيل".
مجمل ما يقوله دعاة النسوية في مهاجمتهم للفقه الإسلامي، ووصفهم له بالذكورية، يأتي برأيهم من كون الفقه بمجمله إنما هو اجتهاد بشري، يتأثر فيه الفقهاء ببيئتهم التي عاشوا فيها، وساهمت في تكوينهم الديني والفكري والاجتماعي، وهو ما انعكس على اجتهاداتهم الفقهية في ما يتعلق بأحكام النساء وحقوقهن، فهو نتاج بشري محكوم بسياقاته التاريخية والاجتماعية.
ووفقا للباحثة السورية في الفقه الإسلامي وقضايا الأسرة، عابدة المؤيد العظم فإن الذين يصفون الفقه الإسلامي بالذكورية لهم توجهات متفاوتة، ومشارب مختلفة، فمنهم المغرضون الذين يصطادون بالماء العكر، ومنهم المنصفون الفاهمون، الذين قرأوا الفقه بعمق، وأدركوا واستدركوا بعض الأمور التي ينبغي العودة عنها، والفتاوى التي تنبغي مراجعتها.
وردا على سؤال لـ "عربي21" حول ما يتذرع به دعاة "النسوية"، الذين يروجون حكاية ذكورية الفقه الإسلامي، من أن الفقه بالغ في أحكامه كثيرا في تفضيل الرجال على النساء، وحرم المرأة من كثير من الفضائل، قالت العظم: "لست مع النسويات، ولا أوافق على كثير من طروحاتهن".
وأضافت: "لكننا نحن الذين درسنا الشريعة الإسلامية، كنا وللأسف نلاحظ هذا، ونجده في أمرين: الأول: وصف المرأة، والثاني: في بعض الأحكام، أما وصف المرأة فمثلا، جاء في تفسير ابن كثير أن "المرأة ناقصة الظاهر والباطن والصورة والمعنى، في تفسيره (أَوَمَنْ يُنَشَّؤُا فِي الْحِلْيَةِ)، وقال: "المرأة أشبهت خلق الصبي"، وأن السفهاء هم النساء والصبيان".
عابدة المؤيد.. باحثة سورية
وتابعت: "وأما في الفقه والأحكام فشُبهت المرأة بالدار المستأجرة، وبالتالي رأوا أن الزوج يمتلك فقط منافعها؛ مما جعل المذاهب الأربعة تتفق على أمور منها "لا علاج للزوجة"، ومنهم من جعل كلفة الولادة عليها.. وكيف ستداوي المرأة نفسها وقد وضعوا قيودا على تكسبها، وسمحوا للزوج أن يمنعها من العمل؟".
وواصلت: "وجعل الفقهاء (الأنوثة) علة مانعة لبعض الأحكام: كأن تكون المرأة قاضية.. وأجمعوا أن ديتها نصف دية الرجل، رغم تساويهما بالإنسانية، ولم يراجعوا الحكم بعد أن تبين ضعف الحديث الوحيد الذي استدلوا به"، مبدية أسفها بشأن ما جاء في وصف المرأة بأنها أحبولة للشيطان ذاكرة أن الأحاديث الواردة في ذلك ضعيفة.
وأبدت الباحثة العظم تحفظها الشديد على إطلاق وصف "الذكوري" على الفقه الإسلامي، لأنه يأتي في مقابل (النسوية) وكلاهما فيه تطرف ومبالغة، على حد قولها، واستدركت بالقول: "لكن بعض الأحكام تحتاج إلى مراجعة، فمثلا: كيف يمكن أن يسوغ الفقه للزوج أن يزور أهله كل يوم، ثم يمنع امرأته من زيارة أهلها؟.. وكيف يمنعها وقد اتفق الفقهاء أنفسهم أن من شروط الطاعة أن لا تكون في معصية، ولكن حين يمنع الزوج زوجته من صلة رحمها، يُفتون بأن عليها الاستجابة له".
ووصفت تلك "الفتاوى بأنها لا تتوافق مع الأصل الذي وضعه الفقهاء أنفسهم، وفيها مخالفة شرعية، فكيف تستقيم الفتوى وهي متناقضة مع الأصول التي وضعها الله، ومع القاعدة التي وضعها الفقهاء، وتكون مائلة لصالح الزوج وحده، دون مراعاة لحقوق الزوجة ولأهلها، ولما فرضه الله من البر والمرحمة؟ هذا مثال وثمة أمثلة كثيرة".
من جهتها قالت الكاتبة والداعية المصرية، منى مصطفى: "من يتهمون الفقه الإسلامي بالذكورية ينطلقون من خلفيات ثقافية غربية، يتخذون فيها النموذج الغربي معيارا للنجاح والحياة، ومن يبتعد عنه فهو المخطىء دون شك، وهم للأسف يأخذون عن الغرب جوانب سطحية تصلح لرحلة قصيرة لا لحياة كاملة بأفراحها وتحدياتها ومسؤوليتها، فهؤلاء نتيجة مباشرة للتغريب والعولمة..".
وردت مصطفى في حديثها لـ"عربي21" على الذين يتهمون الفقه الإسلامي بالذكورية، بأن كل ادعاءاتهم في هذا الباب مردودة عليهم، هم يدركون أن المرأة هي قطب رحى الأسرة، فأرادوا إفسادها بتشجيعها على التمرد على الرجل والانخلاع من قوامته بحجة أن من حقها كذا وكذا..".
وتابعت: "والدليل على سوء طويتهم أنهم لا يبحثون عن حقوق المرأة إلا حينما تكون جزءا من أسرة مترابطة، فإذا ما طُلقت أو هربت من أهلها مثلا نُسيت وأُهملت.. وليست سارة حجازي منا ببعيدة، فقد شجعوها على خلع الحجاب والتمرد على فطرتها وطبيعتها ودينها.. إلا أنها بعد أن استجابت لهم تركوها فريسة للواقع الصعب..، حتى انتحرت وتركت رسالتها الشهيرة (هذا العالم قاسٍ جدا)".
ورأت مصطفى أن اتهام الفقه الإسلامي بالذكورية "هو اتهام للشريعة الإسلامية، لأن الفقه ما هو إلا الفهم البشري للشريعة، وفهم أولئك الذين يتهمون الفقه الإسلامي لطبيعة العلاقة بين الزوجين مغلوط، إذ يرون القوامة ذلا للمرأة واستعبادا لها وسلبا لحريتها، وإنما هي تناسب طبيعة الرجل وما جبل عليه من كمال العقل، والإنفاق على الزوجة والبيت، وهم يغفلون عن المفهوم الصحيح للقوامة الذي يجعل المرأة مكفولة محفوظة من غوائل المجتمع".
وتساءلت: "هل الذين يتهمون الفقه الإسلامي بالذكورية أنصفوا المرأة حينما جعلوها تتمرد على الفطرة، وعلى زوجها لتكافح وتسهر وتنسى الأمومة، وتعيش بفطرة مشوهة.. هل من فعلن ذلك سعيدات؟".
بدوره رأى مدرس الحديث الشريف وعلومه في جامعتي الملك خالد وبيشة في السعودية سابقا، الدكتور لطفي الزغير أن مثل هذا الاتهام للفقه الإسلامي إنما "هو امتداد للغزو الفكري والثقافي على الأمة الإسلامية، إذ إن أغلب أجنحة الغزو الفكري ركزت على موضوع المرأة وجعلته مركزيا في خطابها وخططها، والحداثة وإفرازاتها جزء من هذا الغزو" على حد قوله.
وأضاف: "ويمكن أن نضيف منطلقا آخر، ألا وهو الشهرة عند بعض النساء، وعلينا كذلك أن لا نهمل دافعا آخر، وهو ارتهان أغلب الجمعيات والمؤسسات النسوية لمن يمولها، وهذا جزء من المطلوب منها".
ونبّه الزغير في حديثه لـ"عربي21" إلى أن التهمة موجهة في الظاهر للفقه الإسلامي، لكن المقصود توجيه التهمة للإسلام بشكل عام، وهو ما صرح به بعضهم، وآخرون اختاروا التقية بتوجيه التهمة للفقه الإسلامي، باعتبار أنه اجتهادات بشرية، وينطلق هؤلاء من اختلاف بعض الأحكام بين الرجال والنساء.
وأضاف: "كل ما يقولونه في هذا الإطار ما هو إلا شبهات قديمة، تم تدويرها وإعادة إنتاجها، أما عن التمييز في الأحكام الفقهية بين الرجال والنساء، فمن المعلوم أن المرأة ليست كالرجل، والرجل ليس كالمرأة، وهو المذكور في كتاب الله (وليس الذكر كالأنثى)، فنظرا لاختلاف التكوين الجسدي والوظيفي لا بد أن تكون الأحكام مختلفة، فهناك أحكام خاصة بالمرأة دون الرجل، والعكس صحيح، وهي قليلة، أما بقية الأحكام أو الأغلب الأعم منها فالخطاب فيها للرجل والمرأة واحد".
وتابع: "وفي هذا يقول الرسول صلى الله عليه وسلم "إنما النساء شقائق الرجال" أي نظراؤهم وأمثالهم، ولا شك أن خطاب التكليف للرجال والنساء واحد، وما هو مطلوب من الرجال مطلوب مثله من النساء، والمحرم على الرجال محرم على النساء، ولكن هؤلاء دائما ما يصدعون رؤوسنا بمسائل كالميراث والشهادة والقوامة.. وما إلى ذلك".
وأكدّ الزغير أن "الإسلام، والفقه الإسلامي بحكم أنه جزء من الإسلام أنصف المرأة وحفظ لها كرامتها" متسائلا: "ألا ترون أن الرجل أو مجموعة من الرجال لو اتهموا المرأة في عرضها، فإن لم يأتوا ببينة ودليل فالعقوبة تقع عليهم جميعا صيانة لكرامة هذه المرأة، وأن الخطاب في الدين في أي أمر ورد بصيغة (يا أيها الذين آمنوا) إنما يشمل الرجال والنساء بالاتفاق".
ولفت الزغير الانتباه في ختام حديثه إلى ضرورة التفريق "بين حكم الدين القويم، واجتهادات بعض الفقهاء التي اعتمدت على نصوص غير ثابتة مما جعل هؤلاء يتلقفونها كأحاديث دية المرأة بالرغم من أنه قول الجمهور!!.. أما المساواة المزعومة بين الرجل والمرأة في كافة المجالات فقد أخرجت المرأة عن طبيعتها كأنثى، وصار مطلوبا منها أن توفر لقمة العيش، والمسكن، وتعمل في أعمال تنافي طبيعتها، بل يتم استغلالها كسلعة رخيصة في الدول التي تدعي تحرير المرأة، والتعامل معها كضلع قاصر والطرف الأضعف".
لماذا يهاجم الحداثيون العرب الإمام الشافعي؟ خبراء يجيبون