كثرت الكتابات التي تحاول استخلاص الدروس المستفادة من الحرب الروسية على أوكرانيا، وبدأت نسبيا تتحرر من عقدة الاصطفاف، وما يطرحه من سؤال الموقع الذي يتوجب على العالم العربي أخذه، وهل يخدمه الاصطفاف إلى جانب أوكرانيا والحلف الأطلسي، أم يخدمه الاصطفاف إلى جانب روسيا والحلف الممانع للهيمنة الأمريكية، أم يبقى في خط الحياد. بل بدأت تتحرر حتى من سؤال المبادئ والقيم التي تحدد الموقف من الحرب، وما إذا كان يتوجب على العالم العربي نصرة المحتل أو المتعرض للتدخل العسكري، أم الدفاع عن حق روسيا في الدفاع عن أمنها القومي المستهدف من قبل الولايات المتحدة الأمريكية أو الحلف الأطلسي.
بعض الكتابات، حاولت أن تقرأ تحولات الموقف العربي، ونضج المحددات التي اعتمدها في بناء موقفه أو مواقف دوله، والانعطافة التي حصلت في هذه المحددات تجاه اعتبار المصالح الاستراتيجية، ومقاومة عدد من الضغوط التي تمارسها الدول الغربية عليه، بل وبعض منها انخرط في استخلاص الدروس المستفادة من هذه الحرب، سواء من خلال وقع تداعياتها القريبة والبعيدة وآثارها على العالم العربي، أو من خلال ملاحظة منظومة الضغط، والعقوبات التي فرضها العالم الغربي في حربه الاستراتيجية ضد روسيا.
الدروس التقليدية ومحورية سؤال الأمن
لعل الدرس البارز الذي استخلصته كافة الكتابات من تداعيات الحرب الروسية على أوكرانيا، هو درس الأمن، بمختلف أبعاده: الغذائي، والطاقي، والدوائي، وغيره، فقد بدأت الإحصاءات تسرد الأرقام عن حجم المعاملات التجارية للعالم العربي مع روسيا وأوكرانيا، وحجم الواردات القادمة من هذين البلدين إلى العالم العربي، والمخاطر الناتجة عن إيقاف تصدير مصادر الطاقة من روسيا والحبوب، من روسيا وأوكرانيا على السواء.
الدرس الكبير المستخلص من هذه الحرب، أن العالم العربي لا يملك أمنه الغذائي، وأنه قد يصبح في أي لحظة عرضة لمجاعة شديدة، لا يستطيع أن تواجهها حتى الدول الثرية التي تستفيد حاليا من الارتفاع المهول لأسعار مصادر الطاقة.
المختصون في الزراعة يجيبون على مفارقة وجود أرض زراعية خصبة وممتدة في العالم العربي، مع ارتهان شديد إلى روسيا وأوكرانيا وكندا والولايات المتحدة الأمريكية في استيراد الحبوب وبعض المنتجات الغذائية، ويرون أن القضية تتعلق بالكلفة، وأن ما دعا عددا من الدول العربية ذات الطبيعة الزراعية إلى عدم وضع أولوية الأمن الزراعي في هذه المادة أو هذه المنتوجات، هو أن كلفة الإنتاج ستكون أكبر بكثير من كلفة الاستيراد.
الدرس الكبير المستخلص من هذه الحرب، أن العالم العربي لا يملك أمنه الغذائي، وأنه قد يصبح في أي لحظة عرضة لمجاعة شديدة، لا يستطيع أن تواجهها حتى الدول الثرية التي تستفيد حاليا من الارتفاع المهول لأسعار مصادر الطاقة
الأرقام الإحصائية حول حجم الاستيراد العربي من أوكرانيا وروسيا مخيفة، فمصر على سبيل المثال تستورد 80 في المائة من حاجياتها من الحبوب، مع أنها تمتلك أخصب الأراضي الزراعية، والمغرب ظل نموذجه التنموي يدور لمدة طويلة على الزراعة، وحقق نتائج مهمة في المنتوجات الموجهة للتصدير (الخضر وبشكل خاص الطماطم، والحوامض)، وفشل في تحقيق الاكتفاء الذاتي في مادة الحبوب بسبب مشكلة ارتفاع الكلفة مقارنة مع كلفة الاستيراد.
في الشق المرتبط بالأمن الطاقي، ثمة تمايز كبير بين الدول العربية، فثمة دول مصدرة تعيش في هذه الآونة وفرتها المالية، وثمة في المقابل، دول تعرف أعلى مستويات المخاطر في موازناتها المالية، بسبب ارتفاع سعر النفط والغاز عن التقدير الذي وضعته في موازناتها المالية، بل إنها تعيش محدودية الخيارات لمواجهة هذه المخاطر، بسبب عدم قدرتها على الدعم، وفي الوقت نفسه، عدم قدرتها على تحمل الآثار الاقتصادية والاجتماعية لرفع سعر المحروقات.
يتعمق درس غياب التكامل في الاقتصاديات العربية، مع الضغوط الغربية على الدول العربية المصدرة للنفط والغاز، والتي تدفع في اتجاه أن تلعب هذه الدول دور البديل عن إمدادات روسيا لدول أوروبا، وما يمكن أن ينتج عنه من تهديد للأمن الطاقي العربي بالنسبة للدول المستوردة، فمعركة الضغوط، مع تنافسية الأسعار، ستحكم على الدول العربية المستوردة لمصادر الطاقة أن تكون في أسفل اللائحة التي تُلَبى طلباتها، تماما كما وقع للدول العاجزة زمن جائحة كورونا، والتي لم تستطع أن تحظى بأدنى حصة من اللقاحات.
على أن الأمر لا يتوقف عند حدود الأمن الغذائي والطاقي، وإنما يتعداه إلى الأمن بمفهومه الأصلي، أي الأمن الأمني، فالسعودية ودولة الإمارات المتحدة، اللتان ظلتا تضغطان من أجل أن يكون من مشمول التفاوض الغربي مع إيران حول الاتفاق النووي، بحث نفوذها الإقليمي، وقفتا أمام حقيقة، الذكاء الإيراني في استيعاب دروس الحرب الروسية على أوكرانيا، واستثمار حاجة الغرب لتدفق نفطها في السوق لتعويض الإمدادات الروسية، وذلك لتفرض أجندتها في الاتفاق، وتسحب نفوذها الإقليمي من أوراق اعتماد الغرب في التفاوض، بل وتشغل الورقة ذاتها (استهدافات الحوثيين لأرامكو) من أجل الضغط على السعودية وتهديد مصادر النفط والغاز بها، حتى تدفع الغرب إلى تقديم مزيد من التنازلات، وتسريع توقيع الاتفاق النووي بسقف أعلى من اتفاق 2015.
درس النسق المهيمن:
تكشف سلاسل العقوبات التي فرضها العالم الغربي على روسيا، سواء على المستوى المالي أو الاقتصادي، درسا مهما يرتبط بطبيعة النسق الشبكي الغربي المهيمن على عالم المال والاقتصاد، وأنه بقدر ما يشكل في الظاهر نموذجا لتيسير التعاون الدولي والتبادل التجاري، بقدر ما يمثل نموذجا للتحكم الغربي في الاقتصاد والمال، وأن الذي يدخل إليه، سيواجه اقتصاده ـ في حالة إدارة الصراع مع الغرب ـ بزلزال عنيف يضرب أركانه لا سيما إن لم تكن له خيارات للتحايل أو تدبير الأزمة.
موسكو ومعها طهران، بحكم خضوعهما المتكرر لمنظومة العقوبات الغربية اكتسبتا تجربة في الممانعة والبحث عن خيارات للمقاومة وتحصين الاقتصاد من الانهيار، لكن بالنسبة إلى العالم العربي، فالتجارب من هذا القبيل محدودة، إن لم تكن منعدمة، ولذلك، لا تبني الاقتصاديات العربية ذاتها على معادلة تدبير المخاطر من هذا القبيل، وإنما تفترض وجود مخاطر من داخل المنظومة، وليس من خارجها أو في مواجهة لها.
صحيح أن الامتداد الجغرافي للعالم العربي، ووجوده في بنية جغرافية مترابطة الحدود، يبطئ مفعول النسق الشبكي الغربي المهيمن، لكن الصراعات السياسية التي تمزق بلدان العالم العربي، تحول هذه الفرص إلى تهديدات، وتزيد من تعقيد المشكلة، وتأكيد فعالية هذا النسق المهيمن، فحالة اللا استقرار التي تعرفها ليبيا من جهة، واليمن وسوريا من جهة ثانية، والسودان من جهة ثالثة، وحالة الصراع السياسي في تونس، والصراع الإقليمي بين الجزائر والمغرب، والنفوذ الإقليمي الإيراني الذي مزق كلا من العراق وسوريا ولبنان، كل ذلك يبدد نقطة القوة التي يشكلها الامتداد الجغرافي العربي ووجوده في بنية حدودية مترابطة الأجزاء، ويحولها إلى تهديد، ونقطة قوة يستفيد منها النسق الشبكي الغربي المهيمن.
درس المنظومة المبدئية والحقوقية:
كشفت تداعيات الحرب الروسية على أوكرانيا انهيار آخر حصون المنظومة المبدئية والحقوقية المؤطرة للشرعية الدولية، سواء تلك التي تنظم الدول التي تمتلك السلاح النووي، أو التي تنظم العلاقات بين نادي الكبار، أو تلك التي تحكم القانون الدولي والعلاقات الدولية.
في التجارب السابقة، كرست سياسات الولايات المتحدة الأمريكية تجاوز المؤسسات الدولية باتخاذها لقرار بناء تحالفات دولية لخوص حروب على العراق وأفغانستان دون حاجة إلى الشرعية الأممية، واليوم، تجاوز الأمر قضية الحق في التدخل العسكري خارج المؤسسات الدولية، إلى شرعنة عقوبات دولية خارج المنتظم الأممي، ليس فقط ضد روسيا، ولكن ضد كل من تحالف معها، أو تعاون اقتصاديا معها، بحجة أن ذلك يقوي اقتصادها ويبطئ مفعول العقوبات المفروضة عليها.
والأخطر من ذلك، أن هذه الحرب كشفت نهاية سطوة المبادئ والقيم الحقوقية، لفائدة السياسات الحكومية التي تنطلق من هاجس أمني، فالحكومات الغربية اتخذت قرارات بالحجز على ممتلكات وتجميد أرصدة مالية لأشخاص، دون الحاجة إلى قرار قضائي، بحجة أن هؤلاء الأشخاص، يمثلون أوليغارشيا روسية مقربة من شخص الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، كما اتخذت قرارات بحجب مواقع إلكترونية وقنوات فضائية، دون حاجة إلى الالتزام بالقوانين المؤطرة لحرية الصحافة، وما يتطلبه ذلك من قرار قضائي بهذا الشأن.
كشفت تداعيات الحرب الروسية على أوكرانيا انهيار آخر حصون المنظومة المبدئية والحقوقية المؤطرة للشرعية الدولية، سواء تلك التي تنظم الدول التي تمتلك السلاح النووي، أو التي تنظم العلاقات بين نادي الكبار، أو تلك التي تحكم القانون الدولي والعلاقات الدولية
سؤال المنظومة الحقوقية طرح منذ أول اختبار تدفق اللاجئين على بولندا، إذ صدرت تحذيرات غربية شديدة من استقبال غير الأوكرانيين، ومخاطر تدفق جنسيات من دول الشرق الأوسط إلى أوربا، وما يمكن أن يشكله ذلك من تهديد أمني للقارة العجوز، إذ ضربت مبدأ حق اللجوء أثناء الحروب، وضربت مبدأ وجوب حماية المدنيين من الحرب، وضربت مبدأ المساواة في اللجوء.
المثير جدا في هذا الدرس، هو أن المنظومة الغربية استحلت تكوين جيش من المتطوعين الأجانب مع ما يمكن أن يشكله ذلك من تهديد أمني خطير لأوربا ولدول العودة خاصة، بل انكشفت لعبة الشركات الأمنية الخاصة، وحجم الدعم الغربي لها والأدوار التي تقوم بها في تغذية النزاعات، وخدمة متطلبات الصراع الاستراتيجي مع الخصوم.
في الدرس الإعلامي، انهارت كل مبادئ التميز والتحيز، والرأي والرأي الآخر، وعرف التناول الإعلامي حضورا كثيفا للرواية الأمريكية والأوربية والأوكرانية، ومحاصرة شديدة للرواية الروسية، بل وتضخما في منسوب المادة الغربية على حساب المادة الروسية، بشكل يصعب معه تبين حقيقة الحرب واتجاهها. والأخطر من ذلك كله، أن النسق الغربي، لم يجد أي بأس في التسامح مع دعوة شركة ميتا في التغريدات والتدوينات التي تستبيح العنف وتحرض عليه ضد الروس وذلك ضدا على المنظومة المبدئية والحقوقية الغربية نفسها، وضدا على المبادئ الحاكمة للشركة نفسها في تعاطيها مع هذا الموضوع، وضدا لممارساتها ضد من يخرج على هذه المنظمة التي تحكمها.
في درس المنظومة المبدئية في الحرب، تمت ملاحظة حضور مؤسسة البانتاغون ووزارة الدفاع البريطانية كفاعلين أساسيين في هذه الحرب، سواء من حيث الإعلان عن المعلومة الاستخباراتية المسبقة، أو القيام بالحرب النفسية والإعلامية، أو تقديم معطيات عن سير المعارك، أو خلق رأي عام عالمي حول تخبط روسي وارتباك في خططه العسكرية، مع أن المعركة تدور ميدانيا في أوكرانيا، وأن المعني بتقديم هذه المعطيات هما موسكو وكييف فقط.
والأسوأ من ذلك كله، هو درس توظيف ورقة الأسلحة الكيميائية والجرثومية البيولوجية، تمهيدا لقرارات عسكرية وسياسية، أو لاستقطاب رأي عالمي ضد هذا الطرف أو ذاك.
خلاصة هذا الدرس، أن المنظومة المبدئية والحقوقية الغربية قد انهارت تماما، وانكشف حجم التوظيف لحقوق الإنسان، ولحرية الإعلام، وحق اللجوء والمساواة فيه، ولمكافحة الإرهاب، وللأسلحة الكيميائية والبيولوجية، وغيرها من الأوراق التي لا يزال الغرب يستعملها لإخضاع الدول التي يعتبرها مارقة عن نسقه الشبكي المهيمن.
درس الارتهان والتحرر
على أن أكبر درس يمكن للعالم العربي أن يفيد منه وهو يواكب تداعيات الحرب الروسية على أوكرانيا، هو درس الارتهان والتحرر، فأمام فشل حلم الوحدة والتكامل بين دول العالم العربي، وأمام واقع التجزئة وتناسل الصراعات السياسية التي تخترق دوله أو تخترق أنساقه السياسية المحلية، فلم يعد هناك أي رهان سوى الاعتماد على الذات، لتكوين أعلى منسوب من الاكتفاء الذاتي، ومن الأمن بمختلف أبعاده، لا سيما الأمن الغذائي والدوائي.
صحيح أن بعض الدول العربية لن تستطيع أن تضمن هذا الحد الأدنى بسبب من طبيعة بنيتها الزراعية، لكن، أفق الاندماج والتكامل، ولو في مستوياته الدنيا، يبقى واردا. إذ يمكن أن يتم خلق معادلة تعاونية تقوم على مبدأ الأمن الطاقي في مقابل الأمن الغذائي.
المنظومة المبدئية والحقوقية الغربية قد انهارت تماما، وانكشف حجم التوظيف لحقوق الإنسان، ولحرية الإعلام، وحق اللجوء والمساواة فيه، ولمكافحة الإرهاب، وللأسلحة الكيميائية والبيولوجية، وغيرها من الأوراق التي لا يزال الغرب يستعملها لإخضاع الدول التي يعتبرها مارقة عن نسقه الشبكي المهيمن
الدول العربية الطاقية، ستكون مجبرة أن تواجه ضغطين اثنين، الأول من الدول الغربية لتلبي الخصاص في الأنساق الدولية، وأن تعطي الأولوية في ذلك إلى دول المنظومة الغربية، والثاني، من وقع تأثيرات الحرب على أمنها الغذائي، إذ ستكون مضطرة حتى بوفرتها المالية أن تعاني نقصا في تلبية حاجياتها الغذائية.
الدرس الذي ينبغي للعالم العربي أن يستوعبه من هذه الحرب، أن الغذاء، والأمن، والدواء، هو استثمار ذاتي، ينبغي أن تبذل في سبيله كل السياسات، وأن يزال من الاعتبار خيار نقص الكلفة، فهذا الخيار، يمنع هذا الاستثمار، ويتسبب في مواجهة مخاطر عظيمة.
ليس ثمة من خيار سوى الاعتماد على الذات لتأمين الاكتفاء الذاتي، والبحث عن خيارات للاندماج ضمن تكتلات عربية جهوية، أو تكتلات عربية إسلامية، أو تكتلات ضمن محاور دول عدم الانحياز، مع تنويع الشركاء، بالشكل الذي يجعل الخيارات مفتوحة لمواجهة المخاطر المطروحة على الأمن العربي بمختلف أبعاده.
درس المصالحة السياسية
ويبقى أكبر درس تنبغي الإفادة منه، هو ما يرتبط بالصراع السياسي، وما إذا كان النضال الديمقراطي خيارا أولويا للشعوب في هذه المرحلة، أم أن خيار بناء الذات وتحصين الأمن والاستقرار وبناء المصالحات هو الخيار الأكثر إلحاحا في هذه المرحلة.
تجار بالعالم العربي لا سيما بعد الربيع العربي أثبتت أن المستفيد الأول من الصراع حول السلطة هو الغرب، وأن واجب الوقت أن يتم التوافق بين النخب الحاكمة والنخب السياسية على معادلة تأمين حد واسع من الحريات في مقابل وقف المنازعة حول الشرعية، والاستثمار الجماعي في تأمين شروط الحصانة والاكتفاء الذاتي، وتوفير الحد الأوسع من حرية التنافس الاقتصادي، حتى يتم استيعاب مختلف النخب الاقتصادية، وضخ رساميلها في الاقتصاد الوطني بدل تهريبه للخارج وتعريضه لخطر العقوبات والحجز والمصادرة عند وقوع الأزمات.
هل تلد الحرب الروسية أخرى في الخليج؟ السيناريوهات الممكنة
هل يعيد المقاتلون الأجانب في أوكرانيا نموذج الأفغان العرب؟
عن السينما والغزو الفكري للعقل العربي.. تونس نموذجا